لا يمكن للعدالة الاجتماعية والمجالية، من منظور التنمية، أن تتحقَّق إلاّ إذا أُعيد للدولة اعتبارُها في المجالات السيادية التالية: في مجال الاستثمار الاستراتيجي (البنىيات التحتية من طرق وموانئ ومطارات، الأوراش الكبرى و المشاريع الضخمة، ضبط الأسواق المالية، إلى غير ذلك)، في مجال الاستثمار الاجتماعي والتنمية البشرية (من تربية وتكوين، وصحة، وإسكان، وتشغيل، ورعاية اجتماعية)، في مجال بناء مجتمع المعرفة وتطوير البحث العلمي والتكنولوجي، والابتكار، والإبداع، في مجال الحفاظ على التماسك الاجتماعي، وصيانة السِّلْم الاجتماعي، والنهوض بالموارد الثقافية المتنوعة والتي تُعتبر من الرساميل غير المادية التي تزخر بها بلادنا. وهو ما يتطلب، من بين ما يتطلب، العمل على توسيع القاعدة الاقتصادية، والاجتماعية والاعتبارية للطبقات الوسطى، في مجال الحكامة الرشيدة وتوضيب البيئة المُؤَسَّسية السليمة، التشريعية والإجرائية، المحفِّزة للفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، والمنشِّطة لدورة الأموال والأعمال، والمُنمِّية للمبادلات التجارية، والمنْعِشة للتنافسية والشفافية، والمُعزِّزة لدينامية التشغيل، لاتصالِ ذلك ليس فقط بالإنصاف في تلبية الحقوق الاجتماعية، بل وأيضا بالنجاعة الاقتصادية وبالتدبير الأمثل للموارد.
وتستند العدالة الاجتماعية إلى منظومة مُؤسسية متكاملة وشاملة للحماية الاجتماعية، ومن شروطها : أولاً، تفعيل مبدأ الإنصاف الاجتماعي والتضامن الترابي عن طريق إعادة توزيع الثروة، المادية منها وغير المادية، وسن سياسة ضريبية تصاعدية، وإنصافية. ثانياً، اعتماد سياسة للدخل تقوم على مبدأ الحق في العيش الكريم، الذي يضمنه، على أرض الواقع، إنجاز “الضروري من التنمية” ومنه، على وجه الخصوص، العمل اللائق، والأجر العادل. ثالثاً، الضبط المؤسسي للعلاقة الأجرية بما يكفل الحقوق والواجبات للأطراف الفاعلة، ويُعزِّز المسؤولية الاجتماعية للمقاولة، ويُحفِّز على الإنتاجية والتنافسية. أخيراً وليس آخراً، توفير الأمن الاجتماعي أو البشري، وذلك بالتأمين ضد البطالة، وحوادث الشغل، والعجز الكلي أو الجزئي. الدولة الإنمائية، أو التنموية، لا تُعوِّل على آليات السوق في إنجاز مهام التنمية المستقلة، والشاملة؛ ولا تترك الحبل على الغارب للقطاع الخاص يفعل ما يشاء، كما يشاء، أنّى يشاء، وحيثما يشاء. بعبارة، هي لا تدع أمر التنمية ل”هياج المصلحة الخاصة” (ماركس). وأدوار الدولة الإنمائية لا تتحدَّد في المجال الاجتماعي، ولا تتوقَّف عند الباب الاقتصادي، كما يريد لها أن تكون كَهَنة العولمة الليبرالية، ووكلاؤها المحليون.