قانون تنظيمي لإعدام ترسيم الأمازيغية
(3/3)
آراء أخرى
وأين «كيفيات إدماجها في مجال التعليم»؟
ولأن المشروع يركّز على التواصل والاستعمال الشفوي اللهجي والطائفي، ولا يهمه الاستعمال الكتابي المدرسي والموحّد للأمازيغية، فهذا ما يفسّر أنه لم يوضّح ولم يفصّل «كيفيات إدماجها في مجال التعليم»، التي هي من مهام القانون التنظيمي كما جاء في الفقرة الرابعة من الفصل الخامس من الدستور. إذا كان قد أشار إلى تدريسها بالتعليم الأساسي (الفقرة 2 من المادة 4) ثم بمستويات التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي (الفقرة 3 من المادة 4)، إلا أنه اكتفى، بخصوص كيفيات إدماجها في مجال التعليم، والتي يطلب الدستور من القانون التنظيمي تحديدها، بذكر مبدأ “التدرّج” (الفقرات 1، 2 و3 من المادة 4)، مع أن “التدرّج” شيء بديهي في كل عملية تعليمية تعلّمية ولا يحتاج إلى التذكير به. فالتدرّج والانتقال من سنة إلى أخرى (أولى، ثانية، ثالثة…)، ومن مستوى إلى آخر (ابتدائي، إعدادي، تأهيلي، جامعي…)، ومن كفايات ومفاهيم ومعارف بسيطة إلى أخرى أكثر تعقيدا، هما من صميم التعليم المدرسي، الذي لا يمكن أن يوجد بدونهما.
ويسند المشروع مهمة هذا الإدماج، وبشكل عام وعائم، ودون تحديد ولا إلزام، إلى وزارة التربية الوطنية، والمجلس الوطني للغات والثقافة، والمجلس الأعلى للتربية والتكوين، كما تقول الفقرة 1 من المادة 4 من المشروع: «تسهر السلطة الحكومية المكلفة بالتربية والتكوين بتنسيق مع المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية والمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي على اتخاذ التدابير الكفيلة بإدماج اللغة الأمازيغية بكيفية تدريجية في منظومة التربية والتكوين بالقطاعين العام والخاص».
مع أن المطلوب دستوريا من القانون التنظيمي، إذا كان لا بد من تكليف هذه المؤسسات الثلاث بمهمة إدماج الأمازيغية في التعليم، هو أن يحدد لها بدقة، وبشكل آمر وملزم، ما يجب أن تفعله بخصوص هذا الإدماج. أما إسناد مسؤولية هذا الإدماج لهذه المؤسسات، ودون تحديد ما يجب عليها القيام به لهذا الغرض، ودون إلزامها بذلك، فهو تهرّب من الموضوع، وتعويم للمسؤوليات حتى لا تُسأل أية جهة عن مسؤوليتها في إفشال إدماج الأمازيغية في مجال التعليم، لأن القانون التنظيمي لم يحدد لها مهامها واختصاصاتها التي ستُسأل عنها في حالة إخلالها بهذه المهام وهذه الاختصاصات. وهكذا ستواصل وزارة التربية الوطنية إفشالها لتدريس الأمازيغية، وتعاملها المستخفّ بها وبتدريسها، كما فعلت منذ 2003. وإذا سئلت عن هذا الإفشال وهذا الاستخفاف، ستجيب بأنها طبّقت التدابير التي رأتها كفيلة بإدماج اللغة الأمازيغية في التعليم، عملا بما ينص عليه القانون التنظيمي. وستكون الوزارة محقة في جوابها وردها. ونفس الشيء ستدفع به المؤسستان الأخريان. لكن لو أن القانون التنظيمي حدّد، بدقة وتفصيل، على شكل “دفتر للتحملات”، مضمون هذه التدابير التي يُطلب من هذه المؤسسات الثلاث اتخاذها لإدماج الأمازيغية في التعليم، لما ترك لها فرصة تطبيق تدابير مزاجية يمليها الهوى الإيديولوجي والأحكام المسبقة حول الأمازيغية. ولكانت مساءلتها عن أي تأخير أو إفشال لإدماج الأمازيغية في التعليم ذات معنى، لأنها ستُسأل احتكاما إلى ما أنجز من “دفتر التحملات”، الذي كلفها القانون التنظيمي بإنجازه وتنفيذه.
قانون على شكل توصيات لا تلزم أحدا:
ثم هل تتوفر في هذا المشروع شروط النص القانوني؟ فإذا كان من خصائص القاعدة القانونية الإلزامية، فإن الطريقة التي صيغ بها هذا المشروع، لا تجعله يرقى إلى مستوى قانون ملزم، لأنه لا يستعمل المصطلحات والعبارات التي تفيد هذا الإلزام، كما أنه ـ وهذا نتيجة طبيعية ومنطقية لغياب عنصر الإلزام ـ لا يرتّب أي جزاء عن الإخلال بهذا الإلزام. وهكذا تتكرر ألفاظ وعبارات من قبيل: “تشجع الدولة” (المادة 20)، “تحرص الدولة” (المادة 17 والفقرة 4 من المادة 30)، “تحرص إدارات الدولة” (المادة 25)، “تسهر الدولة” (المادة 12)، “كما تعمل الدولة على الرفع من حصة البرامج” (فقرة 3 من 12)… وهي ألفاظ وتعابير قد تفيد الاختيار والإمكان، والفعل أو عدم الفعل، ولا تتضمن إلزاما ولا وجوبا، وهو ما يتنافى مع شروط ومواصفات القواعد القانونية.
فمثلا عندما تقول المادة 20: «تشجّع الدولة على إدماج الثقافة الأمازيغية والتعابير الفنية الأمازيغية في مناهج التكوين الثقافي والفني بمؤسسات التكوين التي تعني بالشأن الثقافي والفني، سواء منها العمومية أو الخاصة»، أو تقول المادة 17: «تحرص الدولة على إعداد وتكوين وتأهيل الموارد البشرية العاملة في قطاع الإعلام باللغة الأمازيغية»، أو تقول الفقرة الثالثة من المادة 12: «كما تعمل الدولة على الرفع من حصة البرامج والإنتاجات والفقرات باللغة الأمازيغية في القنوات التلفزية والإذاعية العامة أو الموضوعاتية في القطاعين العام والخاص»، يُطرح السؤال حول المعايير المحددة لهذا “التشجيع” وهذا “الحرص” وهذا “العمل”، ومضمون كل ذلك ومستواه. والنتيجة أنه لا يمكن أن نقيس مدى هذا “التشجيع” و”الحرص” و”العمل”، ولا أن نتحقق مما أُنجز من ذلك حتى نعرف هل التزمت الدولة بهذا “التشجيع” و”الحرص” و”العمل” أم لا. ذلك أن هذه الألفاظ ليست مفاهيم قانونية، بمدلول موضوعي محدّد، بل هي ذات حمولة أخلاقية، إرادية وذاتية، وتستعمل في اللغة العادية ولا علاقة له باللغة القانونية التي تتوخى الدقة والوضوح. كان من الممكن قبول هذه الألفاظ لو أن النص ربط استعمالها بمضمون ملموس وقابل للإنجاز والقياس من خلال تحديد التدابير والإجراءات التي يتحقق بها هذا “التشجيع” و”الحرص” و”العمل”، كالتنصيص، مثلا، بخصوص برامج القنوات التلفزية، على النسبة المئوية للرفع من حصة هذه البرامج، مثل 30% أو 50% أو 70%.
ولنلاحظ أن المشروع كله يتشكّل فقط من 35 مادة. مما يجعل منه نصا غير كافٍ لمعالجة التفعيل الرسمي للأمازيغية في كل جوانبه وقضاياه التي تشمل العديد من المجالات والقطاعات، مع كل ما يتطلبه ذلك من تدابير وإجراءات وتفاصيل. فخمس وثلاثون مادة قد تناسب مجالا معينا لوحده، مثل التعليم أو القضاء أو الإعلام أو الإدارة… ويبدو أن هذا الاختصار مفهوم ومقصود وينسجم مع ما قلت بأنه الغاية من هذا القانون، ألا وهي تفعيل الطابع غير الرسمي للأمازيغية، وإعدام طابعها الرسمي، حتى لا تكون هي أيضا لغة رسمية للدولة، الشيء الذي لا يتطلب تدابير كثيرة وتفاصيل دقيقة، كما في حالة تفعيل طابعها الرسمي الحقيقي.
غياب الإرادة السياسية:
في الحقيقة، هذه الرغبة في إعدام ترسيم الأمازيغية، وإعداد مشروع قانون تنظيمي لتنفيذ هذا الإعدام، يترجم غياب إرادة سياسية، جدية وحقيقية، للارتقاء بالأمازيغية إلى مستوى لغة رسمية، وخصوصا أن اختيار لغة ما لاستعمالها الرسمي هو اختيار سياسي، لأن اللغة الرسمية هي لغة الدولة، أي لغة السيادة والسلطة السياسية.
ويظهر هذا الغياب للإرادة السياسية في التماطل والممانعة والمراوغة والمراوحة، وممارسة نوع من “السيزيفية” في التعامل الرسمي مع ملف الأمازيغية، وذلك منذ الاعتراف الرسمي الأول بها بصدور ظهير أجدير، المنشئ للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في 17 أكتوبر 2001، والذي أقرّ في الحقيقة للأمازيغية بالكثير من الحقوق التي كانت تطالب بها الحركة الأمازيغية منذ عقود. لكن اللافت، وهو ما يؤكد ما أشرت إليه من تماطل وممانعة ومراوغة ومراوحة و”سيزيفية”، ليس فقط أن ما قرّره هذا الظهير لصالح الأمازيغية لم يُطبق كله، بل إن دستور يوليوز 2011، الذي نص، وبعد مرور 10 سنوات على ظهير أجدير، على أن الأمازيغية هي أيضا لغة رسمية، يكرّر ما سبق أن جاء في نفس الظهير الصادر في أكتوبر 2001.
فبمقارنة الفقرة الرابعة من الفصل الخامس من الدستور، التي تقول: « يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية»، بالفصل الثاني من ظهير أجدير، الذي ينص «على إدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية وضمان إشعاعها في الفضاء الاجتماعي والثقافي والإعلامي الوطني والجهوي والمحلي»، سنلاحظ أن مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية هي تكرار لمطلب سبق أن نص عليه ظهير أجدير. الفرق الوحيد هو في استعمال عبارتين مختلفتين لكنهما مترادفتان تؤديان نفس المعنى حيث يستعمل الظهير عبارة “إدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية”، أما نص الدستور فيستعمل عبارة “إدماجها في مجال التعليم”.
فلو طُبق ظهير أجدير بكل مقتضياته لما احتجنا اليوم إلى قانون تنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، إذ كان يكفي إقرار ترسيمها لتكون جاهزة للاستعمال الرسمي فورا ومباشرة. لكن هذا الظهير لم يطبق في الجانب الأهم فيه، الذي هو مناط الاستعمال الرسمي للأمازيغية، والذي هو تدريسها الإجباري والموحّد. هذا التدريس الذي توقف واختفى نهائيا، رغم أن “ليركام” (المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية) قام بعمل جبار في ما يتعلق بمعيرة اللغة الأمازيغية وإعداد المناهج والبرامج والكتب المدرسية والحوامل البيداغوجية والمعاجم اللغوية.
هذه العودة بعد 18 سنة إلى مطلب إدماج الأمازيغية من جديد في التعليم، وهو المطلب الذي كان من المفترض أن يكون قد تحقق بالكامل، تعبّر عن تعامل “سيزيفي” (نسبة إلى “سيزيف” في الأسطورة اليونانية، الذي حكمت عليه الآلهة بأن يحمل صخرة إلى قمة الجبل. فكان كلما أوصلها تدحرجت ليعود إلى حملها من جديد. فأصبحت “السيزيفية” تعني التكرار والعودة كل مرة إلى نقطة البداية) مع القضية الأمازيغية، إذ كلما اعترف لها مبدئيا ببعض الحقوق، تكون هناك عودة إلى نقطة الصفر والاعتراف من جديد بهذه المطالب بعد أن لا يكون شيء قد تحقق منها. وهو ما يترجم، كما قلت، وبشكل صارخ وبارز، غياب إرادة سياسية جدية وحقيقية، لتصالح جدي وحقيقي مع الأمازيغية.
من شأن سيادي إلى شأن عادي:
كل هذا يبيّن أن ما ينقص الأمازيغية ليس هو الترسيم ولا الدسترة ولا القانون التنظيمي، وإنما وجود إرادة سياسية حقيقية للاعتراف بها عمليا وحقيقة، وليس فقط مبدئيا ورمزيا. ولهذا فإن هذا التردّد في التفعيل العملي والحقيقي لرسمية الأمازيغية كان شيئا متوقّعا، منذ أن نقل دستور 2011 ملف الأمازيغية من الاختصاص الملكي باعتبارها شأنا سياديا إلى اختصاص حكومي وبرلماني كشأن عادي. وهنا يجدر التذكير أن كل المكاسب التي حققتها الأمازيغية قبل دستور 2011، كانت وراءها الإرادة السياسية الملكية استنادا إلى الفصل 19 من الدستور السابق، والذي على أساسه أصدر الملك ظهير أجدير المحدث للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. بل لا يجب أن ننسى كذلك أن ترسيمها في دستور 2011 كان بأمر من الملك كما جاء ذلك في خطاب 9 مارس 2011، والذي أعلن فيه عن قرار تغيير الدستور، حيث أوضح في هذا الخطاب أن الدستور الجديد يجب أن ينص على «التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة، الغنية بتنوع روافدها، وفي صلبها الأمازيغية، كرصيد لجميع المغاربة». هذا التعامل الملكي السيادي مع الأمازيغية جعلها تحظى برعاية خاصة كنوع من التمييز الإيجابي، والذي يستوجبه وضعها كلغة عانت لعقود من الإقصاء والشيطنة والتحقير. فما تقرّره الإرادة الملكية لصالح الأمازيغية، بناء على الفصل 42 من الدستور الحالي، كما كان الشأن بالنسبة للفصل 19 من الدستور السابق، تناله فورا بغض النظر عن مواقف الأحزاب والفاعلين السياسيين الآخرين.
وهنا قد نتساءل: لماذا لم تُطبّق كل مقتضيات ظهير أجدير تنفيذا لقرارات ملكية؟ الجواب هو أن غياب الإرادة السياسية للدولة، والتي كان حضورها وراء إصدار ظهير أجدير وإنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، هو الذي يفسّر التماطل في تفعيل مضامين ظهير أجدير. وقد تراجعت هذه الإرادة السياسية إلى درجة أن ملف الأمازيغية لم يعد، من ناحية الشكلية القانونية، شأنا سياديا يختص به الملك، وذلك منذ ترسيمها في دستور 2011، كما أشرت. لقد جعل منها هذا الدستور شأنا وطنيا “عاديا” يناقشه أعضاء الحكومة ونواب الأمة، ليهيئوا لها قانونا تنظيميا تطبيقا للفصل الخامس من الدستور. وهو ما يعني أنها انتقلت من حقل سيادي خاص بالملك إلى حقل الصراع السياسي الخاص بالحكومة البرلمان.
تراجع في النهوض بالأمازيغية بعد دسترتها!
وهذا الانتقال يعبّر في الحقيقة عن تراجع في مسار النهوض بالأمازيغية، ولا يمثّل تقدّما في رد الاعتبار لها، كما قد يبدو ذلك للوهلة الأولى. لماذا؟ لأن الفصل الخامس من الدستور ربط ترسيمها بقانون تنظيمي. وهو ما جعل ترسيمها الدستوري هذا، بدل أن يكون بمثابة الضوء الأخضر الذي يسمح لها بأن تدخل، وبدون أي عائق أو مانع، إلى المؤسسات الرسمية للدولة وتلج جميع المجالات، التعليمية والقضائية والإدارية، بصفتها لغة رسمية للدولة، يتحوّل، لاشتراطه قانونا تنظيميا لتفعيله، هو نفسه إلى عائق ومانع لهذا الترسيم. ولهذا عرف مسار النهوض بالأمازيغية، منذ ترسيمها الدستوري في 2011، توقفا وجمودا، بل تراجعا جليا، كما يظهر ذلك في:
ـ إنزال الأمازيغية من مكانتها الملكية المتميزة كشأن سيادي من اختصاص الملك، إلى شأن عادي تشرّع فيه الحكومة والبرلمان.
ـ التماطل، وبشكل سافر ومستفزّ، لأكثر من ثماني سنوات في إصدار القانون التنظيمي والمصادقة عليه،
ـ إعداد وتمرير قانون تنظيمي فارغ من أي تفعيل حقيقي لترسيم حقيقي للأمازيغية،
ـ إلغاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية كمؤسسة مستقلة تتمتع بكامل الأهلية القانونية والاستقلال المالي (المادة الأولى من ظهير أجدير). وهو ما يشكّل، ليس تراجعا فقط عن أهم المكتسبات السابقة، بل نكوصا وردة في طريقة التعاطي مع ملف الأمازيغية. فإذا كان المعهد هو رمز الاعتراف بالأمازيغية والتعامل معها بما تستحقه من تمييز إيجابي، فإن إلغاءه يعني، رمزيا، إلغاء هذا الاعتراف والتراجع عن هذا التعامل.
وهنا يقع مشروع القانون التنظيمي في تناقض يرقى إلى مستوى الكذب، عندما يقول في ديباجته (المذكرة التقديمية) بأنه سيعمل على “ترصيد المكتسبات” المحققة في مجال النهوض بالأمازيغية. إذا كان أهم هذه المكتسبات هو المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، كما هو معلوم، فإن إلغاءه بضمّه إلى المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، يعني التراجع عن أهم هذه المكتسبات والتعامل معها باعتبارها غير موجودة، وليس ترصيدها، أي الإبقاء عليها مع إغنائها والزيادة فيها، كما تدّعي المذكرة التقديمية للمشروع.
قانون انتقامي وبربري:
هكذا تفقد الأمازيغية بعد دسترها ـ ويا للمفارقة! ـ أهم مكتسباتها السابقة المتمثّلة في أنها كانت شأنا سياديا تحظى معه برعاية ملكية خاصة، وكان لها ـ نتيجة لذلك ـ معهد خاص هو الذي يُعدّ برامج ومشاريع تنميتها والنهوض بها. فقدانها لهذه “الامتيازات”، وخصوصا للرعاية الملكية باعتبارها شأنا سياديا، هو ما يفسّر اتجاه مشروع القانون التنظيمي إلى حرمانها من الترسيم والاكتفاء بتفعيل طابعها غير الرسمي بالتركيز على الجانب التواصلي، أي جانب الاستعمال الشفوي، حتى لا تكون هي أيضا لغة رسمية للدولة، وهو ما يخالف الفقرة الثالثة من الفصل الخامس.
وهنا لا يمكن تفسير ربط ترسيم الأمازيغية بقانون تنظيمي إلا بالرغبة في التحكّم فيها، لتكون تحت رحمة الهوى الإيديولوجي والأمازيغوفوبي للذين يقررون في شأنها من مسؤولين حكوميين وبرلمانيين. ولهذا تحكّمت في كتابة مشروع هذا القانون التنظيمي، كما نخلص إلى ذلك من اطلاعنا على مضمونه، خلفية إيديولوجية أمازيغوفوبية أكثر منها قانونية. وتظهر هذه الخلفية، كما تكشف عن ذلك مواد هذا القانون وطريقة صياغتها، في وجود ـ كما سبقت الإشارة إلى ذلك ـ قناعة مسبّقة، لدى محرري هذه الوثيقة، بأن الأمازيغية لا يمكن ولا ينبغي أن تكون هي أيضا لغة رسمية للدولة، وفي إصرارهم، نتيجة لهذه القناعة، على أن لا تكون بالتالي لغة رسمية بالمعنى المتعارف عليه لمفهوم اللغة الرسمية. وهذا ما حدا بهم إلى أن يعطوا لهذا المفهوم معنى خاصا يقصره على التواصل الشفوي، والاستعمال الديكوري، الخارجي والرمزي، لحروف تيفيناغ، ويُبعده عن معناه الحقيقي المعروف والمتعارف عليه، كما قلت.
وهو ما يفسّر أنهم أعدّوا هذا المشروع، الرامي إلى إعدام الترسيم الحقيقي للأمازيغية، على شكل انتقام عنصري من هذ الأمازيغية، التي كانت قبل دسترتها في منجاة منهم وممتنعة عنهم، بفضل وضعها كشأن سيادي من اختصاص الملك. ولهذا استغلوا فرصة القانون التنظيمي ليصفّوا حساباتهم الانتقامية والعنصرية معها، لأنها تجرأت على أن تكون هي أيضا لغة رسمية تنافس، كضرة غير مرغوب فيها ـ حسب فهمهم لترسيمها ـ، سيدتها العربية التي يجب أن تبقى ـ في نظرهم ـ هي اللغة الرسمية الوحيدة. وتظهر الرغبة في الانتقام من دعوة بعض البرلمانيين إلى “البداية من البداية” في مناقشة موضوع الأمازيغية، وإعادة النظر في كل شيء ذي علاقة بهذا الموضوع. وهو ما جعلهم يطالبون، وبكل وقاحة، بالعودة إلى مناقشة حرف الكتابة، الشيء الذي كان وراء إلحاح مجموعة من البرلمانيين، الغيورين على الأمازيغية، على التنصيص على حرف تيفنياغ لكتابة الأمازيغية في القانون التنظيمي لوضع حد لمثل هذا العبث والسفه.
مواد هذا المشروع تُبرز أن واضعيه تعاملوا مع الأمازيغية على أنهم برابرة حقيقيون، بالمعني الأصلي اليوناني والروماني لكلمة “بربري”، التي تعني الأجنبي عن الفضاء الثقافي اليوناني ثم الروماني. محررو هذا المشروع هم أيضا برابرة بالنسبة للأمازيغية، لأنهم يعتبرون أنفسهم، نتيجة تحوّلهم الجنسي الهوياتي، أجانب عنها ولا ينتمون إلى فضائها الثقافي واللغوي، بمن فيهم من لا زال ناطقا بها كبعض الوزراء والبرلمانيين. فهذا القانون هو بربري، ليس لأنه موجّه إلى الأمازيغ، أي البربر، كما كانت تسمّيهم الكتابات التاريخية العربية، وإنما لأنه من وضع البرابرة الحقيقيين، بالمعنى الذي شرحت.
وهنا يحق التساؤل: كيف يُعقل أن يشرّع للأمازيغية من هو بربري، أي أجنبي عنها ورافض لها. فمثل هذا التشريع “البربري” هو الذي يشكّل جوهر السياسية البربرية الجديدة، التي تتعامل مع الأمازيغية كشيء أجنبي، في حين أن إنصاف الأمازيغية يحتاج إلى سياسة أمازيغية، أي السياسة التي يقرّرها الأمازيغيون لأمازيغيتهم.
التخوف من إقصاء الأمازيغية “ديموقراطيا”:
وضع ملف الأمازيغية بين أيدي مسؤولين حكوميين وبرلمانيين “برابرة”، لتكون تحت رحمتهم وهواهم الأمازيغوفوبي “البربري”، قد يؤدّي إلى مواصلة إقصائها، لكن بطريقة “ديموقراطية”. فإذا كانت قد عاشت الإقصاء في السابق بسبب غياب الديموقراطية، فالخوف، كل الخوف، أن يستمر إقصاؤها، ليس لغياب الديموقراطية، بل بطريقة “ديموقراطية”، وذلك عندما تتخذ قرارات ليست في صالحها من طرف حكومة الأغلبية المنتخبة “ديموقراطيا”، ونتيجة للتصويت “الديموقراطي” للبرلمانيين على تلك القرارات. وهذا ما رأيناه مع هذا المشروع للقانون التنظيمي، الذي سيمرّ من كل المراحل والشكليات التي يفرضها الدستور والقانون، لكن كل ذلك من أجل إعدام الترسيم الحقيقي للأمازيغية في النهاية.
ولهذا فإن الأمازيغية، نظرا لما عانته من إقصاء لأزيد من نصف قرن، تحتاج إلى تمييز إيجابي يتطلّب التدخل المباشر للدولة، ممثَّلة في الملك، لفرض القرارات الخاصة بالأمازيغية، مستعملة وسائلها القانونية والإدارية والمؤسساتية. وهذا ما كان يوفره الفصل 19 من الدستور السابق والفصل 42 من الدستور الحالي، بالنسبة للسلطات الدستورية للملك.
مسؤولية الحركة الأمازيغية:
لا يجب إلقاء كل اللوم على أعضاء الحكومة والبرلمان “البرابرة”، بالمعنى الذي سبق شرحه، الذين أعدّوا ومرّروا مشروع قانون تنظيمي مجحف في حق الأمازيغية، يمنعها من أن تكون هي أيضا لغة رسمية للدولة. فالحركة الأمازيغية، بسبب تقصيرها وتقاعسها، مسؤولة أيضا عن هذه النتيجة. ويتجلّى تقصير وتقاعس نشطاء الأمازيغية في عزوفهم عن المشاركة في لعبة الديموقراطية الانتخابية الممارَسة بالمغرب، والتي يحكمون عليها ـ وهم محقون في ذلك ـ بأنها ديموقراطية صورية وريعية، ولا علاقة لها بالديموقراطية الحقة. لكن الذي يهم هو أن هذه الديموقراطية، الصورية والريعية، تعطي نتائج خطيرة بالنسبة للأمازيغية عندما تعدّ وتمرر، وباسم هذه الديموقراطية الصورية والريعية، الحكومةُ والبرلمانُ، الصوريان والريعيان، تشريعاتٍ في غير صالح الأمازيغية. فلو أن النشطاء الأمازيغيين شاركوا في هذه “الديموقراطية”، التي يعتبرونها مجرد مسرحية، لكان لهم أعضاء في البرلمان، وحتى في الحكومة، قد يؤثرون على القرارات المتخذة بخصوص الأمازيغية، لتكون في صالحها وليس ضدها.
هذا الانسحاب لشباب وطلبة ومناضلي الحركة الأمازيغية من هذه الديموقراطية الانتخابية، وعدم المشاركة فيها، هو الذي يسمح للحكومة والبرلمان من أن يتشكّلا من أغلبية لا تكنّ ودّا للأمازيغية، ليصبح معها حال الأمازيغية كحال الأيتام في مأدبة غير الكرام. وقد رأينا كيف أن مجموعة، ليست بكبيرة العدد، من البرلمانيين المدافعين عن الأمازيغية نجحوا في فرض التنصيص على حرف تيفيناغ لكتابة الأمازيغية ضمن مشروع القانون التنظيمي. وهو ما يعني لو أن أغلبية البرلمانيين هم مثل هؤلاء المدافعين عن الأمازيغية، وهو ما كان يمكن أن يتحقّق لو كان نشطاء الأمازيغية يشاركون بكثافة في الانتخابات، ولو فقط بالتصويت ضد من يرونه مناوئا للأمازيغية، لكان مشروع القانون قد صيغ أو عُدّل بالشكل الذي يجعل الأمازيغية حقا هي أيضا لغة رسمية للدولة.
إن طبيعة النظام المخزني المغربي يفرض عليك أن تشارك فيه إذا أردت أن تستفيد من خدماته. وهو ما يعني أن على المدافعين عن الأمازيغية، حتى تستفيد هذه الأخيرة من هذا النظام في ما يخص القوانين والقرارات التي تعنيها، أن يشاركوا في هذا النظام ويسجلوا أنفسهم في اللوائح الانتخابية ويترشحوا ويصوّتوا، ليس من أجل دعم الديموقراطية المفترى عليها، بل من أجل دعم الأمازيغية وخدمتها.