بغض النظر عن اختلاف المواقف بين المعارضين والمدافعين عن مشروع قانون الإطار الخاص بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، إلا أنه مشروع أشرف على إعداده وصياغة مواده المجلس الأعلى للتربية والتكوين، الذي يرأسه المستشار الملكي عمر عزيمان، وهذا ما يجعل مشروع القانون تحت إشراف مباشر من المؤسسة الملكية، والذي عرف تعثرا داخل البرلمان، الذي عقد جلسة استثنائية في مارس ولم يتمكن من المصادقة عليه، نظرا لاختلاف المواقف بين بعض الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، لكن يبدو أن عزيمان قرر إنهاء أزمة التصديق على المشروع، خلال افتتاح الدورة السابعة عشر للمجلس، عندما وجّه انتقادات شديدة للنواب الذين يعترضون على بعض مواد المشروع، حيث اعتبر عزيمان أن هذا المشروع ” يصطدم هنا وهناك، برياح معاكسة، وبمقاومات متناقضة، تارة معلنة وتارة أخرى مستترة”.

وقد أدت هذه الانتقادات إلى استنفار الحكومة والبرلمان، لأجل تسريع المناقشة والمصادقة على مشروع القانون الإطار، إذ رغم اختلاف الفرق البرلمانية حول بعض مضامين المشروع، وخاصة المادتين 2 و31 المتعلقتين بالتناوب اللغوي، فوجئ أعضاء لجنة التعليم والثقافة والاتصال، بدعوتهم لحضور اجتماع طارئ، خصص للتصويت على مشروع القانون، وأثار هذا الاجتماع المفاجئ استغراب عدد من النواب البرلمانيين، لا سيما في ظل عدم التوافق بشأن النقطة الخلافية المتعلقة بتدريس العلوم باللغات الأجنبية، خاصة بين حزب العدالة والتنمية والتجمع الوطني للأحرار، الذين يختلفان حول تدريس المواد العلمية والتقنية باللغة الفرنسية.

لكن، يبدو أن خرجة عزيمان حركت المياه الراكدة، ودفعت بالمشروع سريعا نحو التصويت عليه في اللجنة البرلمانية المختصة الثلاثاء (16 يوليوز 2019)، ثم تمت إحالته على الجلسة العامة لمجلس النواب للمناقشة والمصادقة عليه يوم الإثنين (22 يوليوز 2019)، ووافق على المشروع 241 نائبا، وعارضه 4 نواب، نائبين من حزب المصباح، ونائبين من فدرالية اليسار، فيما امتنع 21 نائبا عن التصويت (الاستقلال)، وصوت على المادة 2 و31 المتعلقة بالتناوب اللغوي جميع أحزاب الأغلبية عدا فريق العدالة والتنمية، في حين امتنع نواب فريق الاستقلال.

وقد كان لافتا أنّ حزب العدالة والتنمية الذي عارض بشدة النقطة المتعلقة بـ”فرنسة التعليم” في المشروع منذ البداية، صوّت في اللجنة البرلمانية على مشروع القانون، فيما عارضه نائبين فقط، ونفس الموقف عبّر عنه داخل جلسة التصويت بمجلس النواب، حيث صادق أغلب نواب فريق المصباح على مشروع القانون، وعارضه نفس النائبان، وهذا الموقف الحزبي خلق انقساما داخل الحزب، بين مؤيد للمشروع ككل، والمعارض لبعض مواده، وخاصة المتعلقة بالتناوب اللغوي.

وإذا كانت القيادة الحالية لحزب العدالة والتنمية، قد حسمت في أمر التصويت لفائدة مشروع قانون الإطار، فإن هذا الموقف لا يعكس قناعات الحزب، وإنما أملته “الظرفية السياسية”، والضغوطات التي مورست عليه من طرف أحزاب الأغلبية والمعارضة، وجاءت الانتقادات التي وجهها رئيس المجلس الأعلى للتعليم، لتحشره في الزاوية، فوجد نفسه وحيدا في مواجهة مشروع يحظى برعاية المؤسسة الملكية، باستثناء معارضة ضعيفة من طرف برلمانيَا فيدرالية اليسار.

وإذا كانت العدالة والتنمية، الحزب الوحيد الذي دافع منذ تأسيسه على تعزيز مكانة اللغة العربية في التعليم والإدارة والإعلام وغيرها من القطاعات، فإنه كان في مقدمة المعارضين لـ”فرنسة التعليم”، إضافة إلى حزب الاستقلال سابقا، وهو الموقف المبني على قناعة فكرية، يستمدها من “المرجعية الإسلامية”، التي تحتل فيها اللغة العربية مكانة خاصة، وقد ظل الحزب متشبثا بهذا الموقف، طيلة فترة تواجده في المعارضة، لكن بعد تسلمه لقيادة الحكومة، لم يعد يتمسك بنفس الموقف، وأصبح أكثر تماهيا مع الإملاءات السلطوية مثل باقي الأحزاب التي لا تملك استقلالية قرارها، وليس لديها مبادئ وقيم تدافع عنها.

لكن، هناك أحزاب يسارية معارضة لمشروع قانون الإطار في مجمله، رغم تمثيليتها الضعيفة في البرلمان، إلا أنها دافعت عن موقفها بشجاعة، وقدمت تعليلاتها المؤسسة على رؤية سياسية خاصة بها، وفي هذا الصدد، تقدم عمر بلافريج النائب عن فدرالية اليسار بتصريح لأحد المواقع الإخبارية، كشف فيه عن سبب معارضة حزبه للمشروع، قائلا: ” لا يمكن أن نثق في الحكومة، لأنها رفضت مقترحات عملية تقدمنا بها للمساهمة في تطوير التعليم العمومي، عبر تحسين موارده المالية..” مشيرا إلى أن مشروع القانون: ” يخدم القطاع الخاص أكثر مما يخدم المدرسة العمومية، بحيث أن الحكومة خصصت تحفيزات مالية للقطاع الخاص وصلت إلى 15 في المائة..”، وانتقد بلافريج ما سماه “النفاق الاجتماعي” الذي يمارسه بعض السياسيين الذين يرفضون التناوب اللغوي، ومع ذلك يدرسون أبناءهم  في البعثات الأجنبية، وهذا الكلام فيه إشارة إلى بعض القياديين في حزب المصباح، الذين يرفعون عقيرتهم بالدفاع عن التدريس باللغة العربية في التعليم العمومي، ولكنهم يسجلون أبناءهم في المدارس الخاصة التي تُدرِّس بالفرنسية أو مدارس البعثات الأجنبية.

وإذا كانت المصادقة البرلمانية على مشروع قانون الإطار، قد حسمت الجدل حوله، فإنها ستفتح النقاش مرة أخرى عند مراحل تنزيله على أرض الواقع، لأن هناك كثير من المواد والبنود بقيت فضفاضة وأخرى غامضة، وخاصة فيما يتعلق بالتناوب اللغوي، والمعايير العلمية المعتمدة في ترجيح اعتماد اللغة الفرنسية في التدريس على حساب اللغات الأخرى، وتحديدا اللغة العربية التي يُروِّج بعض المتحاملين عليها، فكرة أنها ليست لغة العلوم، وهذه مغالطة كبيرة، لأنه لا توجد لغة للعلوم ولغة للآداب، بل كل لغة من اللغات الحية، مؤهلة لكي تكون لغة تدريس العلوم، حتى ولو كان مستعملوها يشكلون أقلية في العالم، يبقى الإشكال هو في من يملك قرار تطويرها وتحيينها حتى تواكب الطفرات العلمية والتقنية، وهناك لغات لا ترقى إلى مستوى العالمية مثل اللغة العربية، ومع ذلك تدرّس بها العلوم والتقنيات، كما أنه لا توجد دولة متقدمة في العالم تدرّس بغير لغتها الوطنية أو الرسمية.

وإذا كان مشروع قانون الإطار يهدف إلى إصلاح أعطاب التعليم، فإنه يطرح عدة إشكالات وأسئلة تتعلق أساسا بالحكامة الجيدة في التنزيل والتتبع والتقويم، وأيضا بالضمانات التي ستوفرها الدولة لإنجاح هذا المشروع لأجل النهوض بالمنظومة التعليمية؟ وهل سيتمكن هذا القانون من تجاوز الإخفاقات التي عرفتها مشاريع إصلاحية سابقة، مثل ميثاق التربية والتكوين، والمخطط الاستعجالي؟ وهل ستوفر الدولة الإمكانات المالية والبشرية لتنفيذ هذا القانون في ظل استمرار أزمة “الأساتذة المتعاقدين”، وضعف الموارد البشرية والمالية التي يعاني منها قطاع التعليم منذ سنوات؟ وهل سيكون قانون الإطار عند تنفيذه منسجما مع الرؤية الاستراتيجية للإصلاح التي تأسس عليها بداية؟ وإذا كان الملك محمد السادس، قد دعا المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، عند افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان في 10 من أكتوبر 2014، إلى وضع خارطة طريق جديدة لإصلاح المدرسة المغربية، فهل سينجح المجلس في الالتزام بالتوجيهات الملكية، والسهر على التنزيل الآمن للقانون، بإشراك جميع الفاعلين والمتدخلين المعنيين بإصلاح منظومة التعليم، وفي مقدمتهم الأطر التربوية والإدارية؟