عشرون سنة من حكم محمد السادس.. ماذا تغير في المملكة ؟
يكمل الملك محمد السادس نهاية هذا الشهر عقدين من حكم المملكة، عشرون سنة فيها من المحطات والأحداث ما يستدعي الوقوف والتوقف، لكن وفق مقاربات وقراءات متأنية وموضوعية، بعيدا عن لغة “التصفيق والتهليل والتطبيل” من جهة، وأسلوب ” التبخيس والعدمية” من جهة أخرى.
الابتعاد عن هكذا منهج أو اللغة التبسيطية إن صح التعبير، أو محاولة تجنب بعض المحاذير كالتهليل أو التبخيس ومنطق الشعبوية الذي بات ينخر هذا المجتمع، يجعل من استقراء وقراءة وتحليل فترة عشرين سنة من حكم الملك، مسألة ليست بتلك السهولة التي يعتقد البعض، لأن الخروج ببعض الاستنتاجات و َمحاولة توصيف المسارات السياسية والتنموية والديمقراطية يتطلب استحضار كافة المؤشرات والأرقام، والوقوف كذلك عند بعض المحطات الهامة..
إن معالجة وفهم أسلوب الملك في الحكم و إدارة البلاد، يستدعي من الناحية المنهجية، النبش ومحاولة تفكيك بعض الملفات والقضايا التي طرحت أو التي فرضت نفسها منذ سنة 1999 إلى اليوم، من قبيل، ملف الوحدة الترابية والسياسة الخارجية، والملف الاقتصادي والاجتماعي، والحقوقي، وتدبير ملف المصالحة مع الريف في ظل أحداث الحسيمة، وتدبير ملف الإسلاميون والحقلين السياسي والحزبي، كيف دبرت أربعة انتخابات تشريعية في عهده؟ بالإضافة إلى الإشكالات التنموية، والاختلالات المجالية التي طفت على السطح خلال السنتين الاخيرتين.
ملفات ومحطات تبدو متداخلة ومتشابكة، مما يحول دون وضع عناوين سريعة يمكن من خلالها اختزال أو توصيف ” محطة العشرين سنة” من حكم الملك محمد السادس. بالمقابل، يمكن الحديث عن عناوين لملفات بعينها، خاصة وأن تدبير الملف الاقتصادي يختلف عن الملف الاجتماعي والتنموي، والملف السياسي والحزبي يختلف عن الملف الأمني، هذا بالإضافة إلى الملف الحقوقي وتدبير ملف الاختلالات المجالية، لاسيما فيما يتعلق بالمصالحة مع الريف وباقي المناطق التي تندرج ضمن المغرب غير النافع(أحداث زاكورة وجرادة..).
ملفات وأحداث ومعطيات يصعب القفز عليها خلال عملية رصد وتحليل ” أسلوب ” الملك في الحكم، أو أثناء رصد التحولات والتغيرات التي وقعت خلال العقدين الماضيين في المغرب.لكن، من جانب آخر، فرصد كل الجزئيات المرتبطة بهذه الفترة، يدخل الباحث في النفق المسدود، ويجعله رهينة لبعض الأمور الثانوية عوض التركيز عن الأحداث التي أثرت وصنعت مغرب اليوم، والتي ساهمت في بناء المسارات التنموية والديمقراطية والحقوقية بالمغرب.
وفي معرض التحليل والرصد لا بد من التذكير بملاحظة أساسية،وهي أن الحديث عن الملك، لا يلغي ولا يعني القفز عن حكومة لها صلاحيات واسعة، بل المرجع الأساسي المعتمدفي هذا الاختيار هو منطوق الفصول 42 ،49 ، 53، 55، 56، من دستور 2011، التي تعتبر الملك هو رئيس الدولة، والمشرف على الملفات الإستراتيجية والحساسة والأمنية والعسكرية والدبلوماسية، وتبعا لذلك، ارتأيت في هذه الورقة، أن أركز على سبعةمحاور/ملفات مع أخد بعين الاعتبار الشرط الزمني في المعالجة والدراسة.
آراء أخرى
الحقلين السياسي والحزبي..أعطاب وجمود وانسداد
عندما تولى الملك محمد السادس الحكم سنة 1999، ورث حقلا سياسيا سمته ظاهريا التعددية، لكنه باطنيا، حقل مبلقن، بأحزاب هشة وضعيفة، ونخب سياسية مرتبطة برواسب ثقافية لحقبة متجاوزة، باستثناء المكون اليساري، الذي كان يمثله حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بزعامة الوزير الأول انداك، عبد الرحمان اليوسفي. لكن، سرعان ما انضم هذا الحزب إلى نادي ” الأحزاب الطيعة والضعيفة” بعد انتخابات 2002 وما رافقها من انقسامات وخلافات حادة بين قياداته.
إن وضع الحقلين السياسي والحزبي موضع الملاحظة والتقييم طيلة عشرين سنة من حكم الملك، يستدعي من الناحية المنهجية استحضار أربعة انتخابات تشريعية وانتخابين جماعيين،وتعديل دستوري سنة 2011، وإخراج قانون تنظيمي للأحزاب السياسية،وغيرها من المتغيرات المؤسساتية والقانونية التي مست الحقلين. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى ثلاث ملاحظات أساسية تخص المقومات الجوهرية للحقلين وهي، الفعل الانتخابي، الترسانة القانونية، والأحزاب والنخب السياسية :
الأولى،تتعلق بالانتخابات، بحيث جرت أربعة انتخابات تشريعية واستحقاقان جماعيان في عهد الملك محمد السادس خلال العقدين الماضيين، والسمة الأبرز أن التعامل مع هاته الاستحقاقات كان مغايرا لما كان يجري سابقا، حيث تم القطع مع بعض الممارسات السابقة مثل التزوير، ولم يسجل بشهادة المنظمات الداخلية والخارجية التي أشرفت على تتبع ومراقبة العملية الانتخابية، وكذلك الأحزاب السياسية، أن تم اللجوء إلى تزوير نتائج الانتخابات لصالح طرف معين.
وبقدرما يجب الإقرار في هذا الصدد، أن هناك جرأة وصرامة كبيرتين أبداهما الملك للقطع مع بعض الممارسات البائدة التي كانت تسيء إلى العملية السياسية في المغرب كالتزوير، بقدر ما يجب الإقرار كذلك أنه جرى الاحتفاظ بنفس الأساليب التقليدية والعتيقة التي استعملت لضبط الحقل السياسي وتسييجه، كخلق أحزاب جديدة، والرهان على ” جيش من احتياطي الأعيان”، هذا بالإضافة لتقسيم ترابي انتخابي محكوم بهواجس انتخابوية صرفة، ولوائح انتخابية يجري تعديها وتنقيحها في كل استحقاق انتخابي عوض تجديدها بشكل كلي، مما يؤكد أن هناك حرص على إعادة ضبط المشهد السياسي وفق قراءات وسيناريوهات مسبقة.
ورغم توظيف بعض الميكانيزمات التقليدية في عملية الضبط والتأطير والتوجيه، إلا أن الحقل السياسي في العقدين الأخيرين، شهد نوعا من “الانفلات”، وصار عنصر المفاجئة والتشويق أحد العناصر المشكلة للعملية الانتخابية، حيث بدت أدوات الضبط المستعملة متجاوزة عندما تصدر الإسلاميين المشهد السياسي خلال ثلاث استحقاقات انتخابية بعد إقرار دستور 2011.
الملاحظة الثانية، تخص الترسانة القانونية المؤطرة للحقلين الحزبي والسياسي، ومدى علاقة هذه الترسانة بتطوير أو تراجع مسار البناء أو التحول الديمقراطي، من خلال محاولة تجديد الحقل السياسي وعقلنة المشهد الحزبي. خطوات ومبادرات اتخذت في هذا الاتجاه، من قبيل إقرار قانون تنظيمي للأحزاب السياسية وما يتضمنه من مواد تصب في اتجاه تقييد سلطات وزارة الداخلية في مسألة تأسيس الأحزاب أو منعها، مع إعطاء صلاحيات أوسع لمؤسسة القضاء الإداري، كما تضمن هذا القانون، مجموعة من الشروط الشكلية والإجرائية التي تخص الديمقراطية الداخلية داخل الأحزاب، كضرورة التنصيص عن مدة الانتداب وبعض الهياكل الأساسية، هذا، بالإضافة، إلى إعطاء صلاحيات واسعة للمجلس الأعلى للحسابات لمراقبة مالية الأحزاب بالشكل يسمح بمراقبة أوجه صرف الأموال العمومية.وبالموازاة مع ذلك، أقر القانونان التنظيمان الخاصان بمجلسي النواب والمستشارين منع ظاهرة الترحال السياسي.
وفي إطار محاولة عقلنة الممارسة السياسية، وانسجاما مع التوجهات الملكية الرامية إلى إقرار جهوية متقدمة كبداية و أرضية لجهوية موسعة على غرار بعض التجارب الأخرى كإسبانيا، سوف يتم لأول مرة إقرار ثلاث قوانين تنظيمية خاصة بمجالس الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات الترابية.
إن إقرار هذه القوانين التنظيمية وما تضمنته من صلاحيات واسعة للمنتخبين، بالإضافة إلى الوثيقة الدستورية التي شكلت بدورها الإطار الدستوري لتلك القوانين، تغيرات جاءت وفق سياقات خاصة، لاسيما مع بروز حركة 20 فبراير سنة2011 وخطاب 9 مارس من نفس السنة، وهذه السياقات ربما ترتبط بشكل أكبر بالملاحظة الثالثة.
الملاحظة الثالثة،وتهم الجانبين الانتخابي والقانوني، واللذين لا يقلان أهمية عن الجانب المتعلق بالنخب والأحزاب السياسية، فعملية ضبط إيقاع الممارسة السياسية كان يمر عبر توجيه وصناعة النخب السياسية، وتسييج الحقل الحزبي. ودون الخوض في تفاصيل الحياة السياسية طيلة العشرين سنة الماضية، فمن المؤكد أن الملك محمد السادس تعايش مع ” النخب السياسية الحسنية” نسبة إلى عهد الراحل الحسن الثاني، ولم تدرك المؤسسة الملكية مخاطر أعطاب الحقل الحزبي وضعف وعدم قدرة النخب السياسية الموجودة على التأطير ولعب دور الوساطة، إلا عندما وجدت نفسها وجها لوجه مع الحراك الفبرايري الذي انطلق في 20 فبراير من سنة 2011 في محيط مضطرب شهدته الرقعة العربية انداك.
“حراك شعبي” دفع بالملك إلى تصدر واجهة الأحداث عبر خطاب 9 مارس والإعلان تشكيل لجنة لتعديل الدستور، والقيام بخطوات موازية لاستنفار وتعبئة كافة الموارد المادية والبشرية لتجنيب المملكة مطبات لم تكن مهيئة لها، غير أن خروج ما يقارب 50 مظاهرة في كل أسبوع، وتلاشي أو اختفاء المكون الحزبي في تلك الفترة، فلم يجد الملك على يمينه سوى المؤسسة الأمنية التي كانت في قلب الحدث وساهمت في تدبير الحراك عبر مختلف المستويات من ضبط سقف وتسييج مجالات تحرك الفاعلين.
ليتكفل إسلاميو العدالة والتنمية بعد إجراء أول انتخابات تشريعية في ظل دستور 2011، بالقيام بأدوار سياسية على ما يبدو لم تكن مسطرة ومطلوبة منهم، لاسيما أنهم تصدروا المشهد السياسي رغم عدم مشاركتهم في 20 فبراير.
ومن خلال استقراء الحقلين السياسي والحزبي، يلاحظ أن هناك أخطاء وقعت في سياقات معينة، أخطاء ترتبط أساسا بترتيب النتائج، ويمكن هنا الحديث عن محطتين أساسيتين مفصليتين في تاريخ المغرب المعاصر، الأولى، تتعلق بطريقة التعامل مع نتائج انتخابات 2002، والمتمثلة في غلق قوس تجربة حكومة التناوب أي حكومة اليوسفي بطريقة لم تكن مدروسة، بطريقة تقترب إلى المزاجية والعشوائية. لذا، فارتدادات ونتائج تلك المرحلة حاضرة اليوم في تفاصيل المشهد السياسي بطريقة مباشرة وغير مباشرة، خاصة فيما يتعلق ببداية تفكك أحد أهم الأقطاب اليسارية وفراغ المشهد السياسي. المحطة الثانية، ترتبط بطريقة تدبير أو ترتيب نتائج حراك 20 فبراير، خاصة بعد انتخابات 2011، حيث انتقل صراع الدولة مع الإسلاميين من مواقع أو مستويات إلى أخرى، انتقل من خارج دوائر الحكم،(كانت تيارات الإسلام السياسي في موقع المعارضة)، إلى مربع السلطة(ترؤسهم للحكومة). هذا الوضع، أفضى إلى وجود صراع خفي يخاض داخل هياكل ومراكز مؤسسات الدولة، مما أسفر عن وجود نوع من التنافس أو الاحتكاك مما نتج عنه تعطيل وجمود على مستوى التفاعل مع انتظارات الشارع وهموم الناس.
الدولة وتدبير ملف الاسلاميين..احتواء وتمرد
ظهرت على الساحة السياسية المغربية، في الآونة الأخيرة، بعض المؤشرات التي تنذر أو تؤكد وجود سوء فهم كبير بين الدولة وإسلاميي العدالة والتنمية، وأن العلاقة بينهما متشنجة ومتوترة ولم تعد كما كانت في سابق عهدها، حيث باتت السلطة بالمغرب تسارع الزمن وتحاول جاهدة إعادة ضبط عقارب الساعة وفق النمط القديم في تدبير علاقتها بالمكونات الإسلامية؛ وهو النمط القائم على “الاحتواء” و”الضبط والتوجيه” و”رسم مجال الاشتغال مسبقا”…
وارتباطا بالأحداث المتتالية والمتسارعة، وباستحضار كافة المؤشرات والوقائع، يمكن القول أن السلطة السياسية في المغرب تتجه نحو غلق قوس تجربة مشاركة الاسلاميين في السلطة، أو في أقصى الحالات محاولة إعادة هذه التجربة إلى بداياتها الأولى، من خلال تسييج مشاركتهم وضبطها وفق سقف لا يتجاوز وجودهم بأعداد محدودة داخل قبة البرلمان، بعدما اتضح جليا أن حركات الإسلام السياسي يصعب ترويضها وضبطها وفق الميكانيزمات والضوابط السابقة.
صحيح أن العلاقة بين الطرفين مرت سابقا بحالات ومحطات عديدة من الشد والجذب، إلا أنها بقيت مؤطرة وفق سقف لم يصل إلى مستوى التوتر الحالي، بحيث حاول الحزب الإسلامي أن يدبر علاقته بالدولة وهو يعيش مخاض الاندماج والحصول على الشرعية والتطبيع مع المؤسسات بطريقة براغماتية قوامها التنازل والمهادنة والاصطفاف على يمين القصر في جميع المحطات، مقابل ضمان موقع سياسي/اجتماعي يسمح له بالانسياب الهادئ داخل دواليب الدولة.
أما السلطة السياسية، فكانت ترى في حزب العدالة والتنمية أداة تنظيمية وخزانا انتخابيا/ اجتماعيا صاعد، بالرغم من حساسيته الإيديولوجية وإمكانية منازعة ومزاحمة الملك في مشروعيته الدينية؛ لكن يمكن ترويضه وتوظيفه كورقة أو بيدق جديد على “رقعة الشطرنج” لتحقيق مجموعة من الأهداف والتوازنات السياسية، وفي إدارة وإعادة ضبط الحقل الحزبي.
ومع توالي الأحداث والوقائع، خاصة بعد تعديل الدستور سنة 2011، وما أعقبها من نتائج أفرزت فوز الفصيل الإسلامي بصدارة استحقاقين تشريعيين لسنتي 2011 و2016 وشبه اكتساح للمجالس البلدية في مدن كبرى خلال الانتخابات الجماعية لسنة 2015.
هذه النتائج والتحولات الإقليمية والدولية، خاصة بعد ظهور مؤشرات تؤكد تراجع المد الأصولي الذي حمله الحراك الشعبي في الرقعة العربية أواخر سنة 2010، سواء من خلال إغلاق قوس تجربة الإسلاميين في كل من تونس ومصر، أو من خلال تراجع الحماس أو الدعم الغربي لتجربة إدماج الإسلام السياسي.
كل هذه العوامل دفعت بالسلطة في المغرب إلى مراجعة تدبيرها لهذا الملف، من خلال محاولة إعادة ترسيم وضبط مجال وحدود تحرك إسلاميي هذا الحزب؛ لكن المفاجأة كانت غير سارة بالنسبة إلى المدافعين عن خيار إدماج الإسلاميين من دوائر السلطة بعدما أحسوا بالخطر، وأن الأمور بدأت تنفلت من بين أيديهم، بحيث أدركوا بعد حين أن ميكانيزمات الترويض والاحتواء لم تسعفهم في لجم وضبط إيقاع الصعود المتنامي للإسلاميين، فوجدوا أنفسهم أمام حزب يغيّر قواعد اللعبة بطريقة ذكية تخدم تمدده وتغلغله في المجتمع..
بالموازاة مع هذه التحولات التي مست قواعد اللعبة السياسية والمشهد الحزبي المتردي، لوحظ أن هناك تغيرا كبيرا على مستوى خطابات الحزب الإسلامي ونبرته تجاه السلطة والفرقاء السياسيين؛ فمقابل شعارات المهادنة والتنازل والتوافق التي اعتمدها في السابق، صار يتعامل بالندية والتحدي ولا يتردد كذلك في إشهار ورقة “شرعية الصناديق” و”الاختيار الشعبي” في المواجهة مع السلطة السياسية.
كما صار في حكم المتوقع أن هذا الحزب يتجه نحو اكتساح المشهد السياسي بشكل غير مسبوق، خاصة في ظل ضعف ومحدودية الفاعلين الآخرين وعزوف كبير للهيئة الناخبة.
أمام هذا الوضع، أصبحت السلطة تنظر بعدم الرضا وبتوجس كبير إلى هذا الحزب الإسلامي، وبات في نظرها “حزبا متمردا” وجب تقليم أظافره وإعادته إلى حجمه السابق؛ في حين أن حزب العدالة والتنمية يرى أن الديمقراطية تقتضي احترام إرادة الناخبين، وأن لا شرعية تعلو على شرعية الصناديق، وأن زمن “صناعة الخرائط الانتخابية قد ولى”.
وبالتالي، فهذا الحزب، الذي كان سابقا يصارع من أجل نيل الاعتراف والحصول على الشرعية القانونية، أصبح يحتج ويحاجج في مواجهة السلطة بالقانون والشرعية؛ وهو ما أثار حفيظتها، لا سيما أن ضبط وتوزيع الأدوار داخل الحقل السياسي كان ولا يزال تعتبره السلطة من صميم قواعد اللعبة السياسية المسطرة مسبقا.
من هنا، بدأ الصراع، كل طرف يحاول إضعاف الطرف الآخر وإنهاكه، فالإسلاميون يراهنون على الأوضاع الاجتماعية الهشة و”هامش الديمقراطية الموجود” وضعف المنافسين الآخرين للبقاء أكثر في دفة التسيير وانتظار “مرور العاصفة” داخليا ودوليا، مع تقديم بعض التنازلات التي تسمح ببقاء التنظيم في الساحة السياسية، والحرص كذلك على عدم ضياع مجموعة من المكاسب السياسية والانتخابية التي حققت طيلة عشرين سنة من مشاركتهم في العملية السياسية.
أما الدولة، فهي تسعى بدورها إلى كبح أو “فرملة تمددهم داخل الحقل السياسي” من خلال المراهنة على السياسات اللاشعبية التي يتخذها هذا الحزب على رأس الحكومة واللعب على التناقضات والمشاكل الداخلية التي طفحت على السطح بعد إبعاد بنكيران، والسقطات الأخلاقية لبعض المنتسبين ، وذلك بهدف إنهاكه والنيل من شعبيته قبل الاستحقاقات المقبلة. كما تراهن السلطة كذلك على اعتماد مقاربات ترتكز على “السخاء” في توزيع المنافع المادية والرمزية على قيادات الحزب، لاحتوائهم وضمان خضوعهم بشكل يسلبهم القدرة على التمرد أو اتخاذ المبادرة.
لذلك، بات الصراع مفتوحا على جميع القراءات والسيناريوهات.. ومن المحتم أن توظف فيه كذلك، في المستقبل، جميع الميكانيزمات، سواء المؤسساتية أو القانونية أو الانتخابية.
الاقتصاد والتنمية..أوراش كبرى وفشل المشروع التنموي
بدأت المعالم الجديدة لعهد الملك محمد السادس تظهر من خلال الإعلان عن مجموعة من الاوراش والإصلاحات الاقتصادية والسياسية و الاجتماعية، كما ركز منذ وصوله إلى السلطة على المدخل التنموي بشكل لافت( الإعلان عن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، الاوراش الكبرى مثل طنجة المتوسط، إنشاء مناطق صناعية كبرى، تقوية البنيات التحتية..).
ويأتي في مقدمة الاوراش الكبرى، الاقطاب المينائية، كمشروع طنجة الكبرى لتعزيز المركب المينائي طنجة المتوسط الذي أطلق في فبراير 2003 والذي يضم ميناء للمياه العميقة ومنطقة حرة للوجستيك (90 هكتار) ومنطقة صناعية (600 هكتار) ومنطقة للأنشطة التجارية (200 هكتار) ، فضلا عن عدة مشاريع سياحية. وتمت توسعة هذا الميناء(طنجة المتوسط 2) أواخر الشهر الماضي من هذه السنة، الذي يعتبر أكبر ميناء في إفريقيا، والأول في حوض البحر الأبيض المتوسط.
وفي إطار سياسة الأقطاب المينائية، أشرف الملك محمد السادس، على إطلاق ميناء “الناظور غرب المتوسط”، حيث من شأن هذا المركب المينائي، أن يعزز إلى جانب ميناء طنجة المتوسط مؤهلات المنطقة الشمالية للمغرب، ويجعلا منها نقطة محورية في الخريطة العالمية للنقل البحري. هذا بالإضافة إلى ميناء الداخلة الأطلسي الذي سيكون منصة المغرب تجاه افريقيا.
مشاريع أخرى لا تقل أهمية، مثل مشروعي ترامواي الرباط سلا، والبيضاء اللذان أطلقا على التوالي في ماي 2011 ودجنبر 2013، من تخفيف ضغط حركة السير داخل المجال الحضري، وتعزيز البعد البيئي من خلال استخدام الطاقة النظيفة.
أما بالنسبة للبنيات الأساسية، كالطرق السيار، والطرق القروية، والمدن الصناعية في كل من طنجة والقنطرة، فقد شكلت الجانب المضيء في العشرين السنة الماضية، والتي جعلت المملكة محط انبهار وإعجاب من طرف مختلف الدول العربية والإفريقية، بل أصبح البعض ينظر إلى المغرب كنموذج ملهم وناجح على المستوى الاقتصادي وعلى مستوى تطوير البنيات الأساسية.
ورش آخر حيوي ومهم يوليه الملك أهمية كبيرة، وهو ورش الطاقات المتجدد، حيث لأول مرة في تاريخ المغرب سيتم اعتماد مخطط للطاقة الشمسية في إطار الإستراتيجية الطاقية للمملكة، والهدف من مخطط الطاقة الشمسية هو انتاج ألفي ميغاواط في أفق 2020 ، وذلك عبر خمسة مواقع وهي ورزازات وبني مطهر وفم الواد وبوجدور وسبخة الطاح.
طفرة نوعية على مستوى الاقتصادي شهدها المغرب خلال العشرين سنة من حكم الملك محمد السادس، غيرت من معالم ومكانة المملكة، لكنها لم تنعكس على المستوى التنموي، الذي شكل ركيزة أساسية خلال هذه المرحلة، حيث انعكس وبشكل سلبي الجمود السياسي وضعف النخب الموجودة وغياب الحكامة وعدم تفعيل مؤسسات الرقابة في تغلغل وانتشار الفساد الإداري والمالي، مما أدى في النهاية إلى انحسار وفشل النموذج التنموي باقرارا صريحا من طرف الملك شخصيا.
مؤشرات تنموية لم تكن في مستوى التطلعات، خاصة في مجال التعليم والصحة والسكن والشغل، إذ ارتفعت نسبة البطالة بشكل كبير(حسب المندوبية السامية للتخطيط وصلت إلى 9,8 سنة 2018/ 10,2 سنة2017)، وبروز اختلالات مجالية، الأمر الذي يضع السياسات العمومية المتبعة موضع تساءل ، خاصة وأن الاحتقان الاجتماعي بلغ مستويات غير مسبوقة.
لكن، المثير أنه رغم الاعتراف الملكي بفشل المشروع التنموي والدعوة من خلال خطاب افتتاح الدورة التشريعية الخريفية الأخيرة إلى تشكيل لجنة للإشراف على إعداد وبلورة مشروع تنموي جديد، إلا أنه وبعد مرور ما يقارب عشرة أشهر، ما تزال حالة الانتظار والترقب هي السائدة.
حقوق الإنسان والحريات ..الريف وجرادة
المفهوم الجديد للسلطة، هيئة الإنصاف والمصالحة، العدالة الانتقالية، هي عناوين كبرى طبعت بداية مسار حكم الملك محمد السادس،حيث تم الإقرار والاعتراف بالاختلالات التي شابت وتشوب علاقة المواطن بالسلطة، ومحاولة التأسيس لعلاقة جديدة تقوم على مرتكزات ومفاهيم مغايرة للسابق.
على مستوى الملف الحقوقي، وجد الملك على طاولة حكمه بعض الملفات الحارقة، وكان من بينها ملف ما يعرف بسنوات الجمر والرصاص، وهو ملف يتعلق بمرحلة درامية عاشها المغرب، اتسمت بالتعذيب والاعتقالات والاختفاء القسري.
لم يتأخر الملك في التعاطي بجرأة كبيرة مع هذا الملف، حيث لم يتردد في إعطاء موافقته على توصية للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة لتسوية ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. ليتم الإعلان في يناير 2004 عن هذه الهيئة التي كلفت بطي صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال الفترة ما بين 1956 و1999، من خلال العمل على الطي النهائي لهذا الملف، وتعزيز التسوية العادلة غير القضائية، وتضميد جراح الماضي، وجبر الضرر.
لا يختلف اثنان أنه كان لهذه المحطة أثر بالغ الأهمية في تاريخ المغرب المعاصر، بعدما نقلت جلسات الاستماع على شاشة التلفزة وأمواج الإذاعة، وتابع المغاربة بذهول الشهادات المؤلمة لبعض الضحايا وأقاربهم، مما دفع بالأكثر تشاءما في الملف الحقوقي إلى الإقرار بأن المملكة دخلت منعطفا جديدا وأغلقت قوس الانتهاكات والتجاوزات.
المصالحة مع الماضي عززت بترسانة قانونية، والمصادقة على اتفاقيات دولية تهم حقوق المرأة والطفل، والانخراط في المنظومة الكونية على مستوى منع التعذيب وضمان شروط المحاكمة العادلة، وإقرار مدونة الأسرة سنة 2004 عبر التحكيم الملكي، بعد انقسام المجتمع، حيث اعتبرت هذه المدونة انداك ثورة غير مسبوقة لما تضمنته من حقوق وضمانات للمرأة.
هذا التحول والنفس الجديدين على مستوى الممارسة الحقوقية والمنظومة القانونية المرتبطة بحقوق الإنسان والحريات العامة، اصطدما بأحداث ووقائع أثرت سلبا على صورة المملكة وعلى الجهود التي بدلت سابقا، حيث فتحت أحداث الحسيمة التي وقعت سنة2017 وأحداث جراد سنة2018 ، النقاش من جديد حول الوضع الحقوقي بالمغرب.نقاش أثير من طرف المنظمات الحقوقية والصحافة، وتفاعلت مع المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان، حيث اصدرت تقريرا يوم 4 يوليوز من هذه السنة.
تفاعل الدولة مع التقارير والنقاشات، وإصدار المندوب الوزاري تقريرا في هذا الموضوع، يؤكد أن هناك وعي على ضرورة معالجة الإشكاليات الراهنة بالشكل الذي يحفظ هيبة الدولة وفي نفس الوقت يضمن حريات وحقوق الأفراد، ويجنب المغرب الوقوع في الأخطاء السابقة.
وفي هذا الإطار، لابد من الإشارة، إلى أن ملف الريف، حظي باهتمام خاص من طرف الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش، فعند استقراء أو محاولة فهم ما جرى ويجري على مستوى علاقة الدولة بمنطقة الريف مند الاستقلال إلى اليوم، فالأكيد أن هذه العلاقة تحتاج إلى الفهم والى الدراسة. وبقراءة سريعة لتاريخ و واقع ومستقبل علاقة الدولة بمنطقة الريف، يمكن الإشارة إلى محطتين أساسيتين :
الاولى، هذه المرحلة تمتد طيلة عهد الراحل الملك الحسن الثاني، حيث اتسمت هذه العلاقة بشكل عام بالتوتر او سوء الفهم أو في أقصى الحالات بنوع من البرود والفتور، بفعل تراكم مجموعة من الاحداث والوقائع التي لا يتسع المجال للخوض فيها .
الثانية، امتدت هذه المحطة منذ تولي الملك محمد السادس الحكم إلى سنة 2017، حيث قام الملك بعدة مبادرات ومجهودات لطي صفحة الماضي المتشنجة، وعمل على فتح عدة اوراش تنموية في كافة مناطق الريف(الريف بمفهومه الجغرافي يمتد من طنجة الى تخوم وجدة)، بالإضافةإلى قيامه بمبادرات، اتسمت بالرمزية والعفوية (قضاء العديد من عطله الصيفية بهاته المناطق)، الأمر الذي لقي استحسانا وصدى طيّباً من طرف ساكنة الريف.
لا يختلف اثنان أن المجهودات الكبيرة التي قام بها الملك، ساهمت في تضميد جراح الماضي، وتأسيس لمرحلة جديدة على مستوى علاقة الدولة بهذه المناطق وساكنتها، وهو ما انعكس إيجاباً على تخطي الموروث الثقافي والتاريخي الذي تكرس وفق سياقات تحتاج إلى الفهم والاستيعاب.
انفراج او علاقة جديدة بدت تلوح في الأفق لم تعمر طويلاً، نتيجة سوء الفهم الذي ظهر بفعل بروز وتنامي موجة الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي، سرعان ما تطورت إلي أشكالا اتارث توجس السلطة، واتخذت منحى كان من الممكن تفادي نتائجه.
وارتباطا بالواقع الحالي فالمقاربة التي اعتمدت في معالجة هدا الوضع أفضت إلى ظهور قراءات مختلفة حول تدبير هذا الملف، وضريبته الحقوقية والسياسية. حيث يرى الفريق الأول أن القضاء قال كلمته في هذا الملف، وحسم الأمر وأن أي تراجع قد يمس هيبة الدولة ومؤسساتها، أما الفريق الثاني، فيرى أن الدولة مطالبة بإعادة النظر في التعاطي مع هذا الملف من خلال بعض المداخل السياسية كإصدار عفو من طرف ملك البلاد على المعتقلين الشباب وإغلاق قوس التوتر وتجنيب البلاد مشاكل واضطرابات ليست في حاجة إليها.
بين الفريقين، من المؤكد والمرجح أن هناك تباين واختلاف عميق لايسعف ولا يساعد على تجاوز الوضعية الراهنة، لكن الكل ينتظر فتح نقاش حقيقي يؤسس لمصالحة جديدة بين المركز والريف، ربما من بوادر أو مؤشرات الانفراج هو العفو الملكي الذي تم خلال عيد الفطر الأخير عن بعض معتقلي الحسيمة، مما فتح الباب حول إمكانية الإعفاء عن الباقين على غرار معتقلي جرادة.
الوحدة الترابية والمحددات الجديدة في السياسة الخارجية
خلال العشرون سنة الماضية، عرفت السياسية الخارجية المغربية في عهد الملك محمد السادس عدة تحولات وتغيرات جوهرية، يمكن إجمالها في ثلاث مستويات أساسية: العلاقة مع الغرب خاصة اسبانيا وأمريكيا وفرنسا، وقضية الصحراء والعمق الإفريقي، بالإضافة إلى العلاقة مع الدول العربية والخليجية.
العلاقة مع الغرب..بين التعاون والفتور والندية
اتسمت العلاقة مع الشركاء الغربيين بدورها بالتحول، حيث بدا واضحا أن هناك عقيدة سياسية جديدة في إطار التبلور، عقيدة ربما ترتكز على ثلاث مقومات، استقلالية القرار المغربي، تنويع الشركات من خلال الانفتاح على روسيا والصين وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، الدفاع عن مصالح المغرب بشكل برغماتي وعقلاني..لكن العنوان لتدبير الملفات الخارجية طيلة العشرين سنة هو الندية والعقلانية أحيانا، والمزاجية والتسرع أحيانا أخرى.
بالنسبة للجار الاسباني، فعلى مستوى علاقة المغرب ببعض الحلفاء التقليديين، أو الجارة الاسبانية، فقد تراوحت بين المد والجزر، ووصلت في بعض الأحيان إلى درجات عالية من التوتر والاحتكاك وسوء الفهم.
فصعود اليمين بزعامة اثنار في هذا البلد انعكس سلبا على العلاقة بين البلدين، حيث سرعان ما اصطدمت هذه العلاقة على صخرة جزيرة ليلى سنة 2002، وكادت إلى تؤدي إلى هذه الأزمة إلى وقوع سيناريوهات غير متوقعة وصعبة، لولا الوساطات الأمريكية والفرنسية.
امتحان صعب عاشه الطرفين خلال هذا الحادث، سرعان ما عادت العلاقة المغربية الاسبانية إلى طبيعتها، خاصة في ظل تزايد الطلب الاسباني على التعاون الأمني المغربي خاصة وأن درس تفجيرات 2004 كان صادما ومؤلما بالنسبة للنخبة اليمنية الاسبانية، التي أدركت أنه لا يمكن حماية أمنها القومي من شبح الخلايا الإرهابية دون الاعتماد على الخبرة والتمرس المغربيين في هذا الجانب.
حافظ مع المغرب خلال هذين العقدين على علاقته مع الجارة الايبرية وفق مستويات مقبولة رغم تقلبات السياسة التي عاشتها اسبانيا، خاصة صعود أحزاب جديدة مناوئة لمصالحه ووحدته الترابية، مثل حزب بوديموس، حيث أن اندفاع الساسة الجدد باسبانيا اصطدم بتعقيدات الواقع والمصالح، لاسيما وأن المغرب في عهد الملك محمد السادس تمكن من توظيف ملفات الإرهاب والهجرة والمخدرات بشكل جيد واستطاع بواسطة هذا الثالوث تطويع المارد الاسباني.
أما العلاقة مع فرنسا، فقد حافظ المغرب طيلة العشرين سنة على علاقته مع هذا الحليف التقليدي، بل شهدت هذه العلاقة طفرة نوعية فيما يتعلق بالاقتصاد والتعاون الأمني والتنسيق بين البلدين. لكن، شهدت هذه العلاقة بدورها نوع من التوتر والفتور، خلال أزمة سنة 2014 التي امتدت سنة تقريبا بسبب محاولة اعتقال المدير العام لمديرية مراقبة التراب الوطني بسبب شكاية ضده عندما قام بزيارة لهذا البلد،
لكن المتغير الأساسي والجوهري، أنه بعد هذه الأزمة التي تعامل معها المغرب بندية كبيرة كانت مفاجئة حتى لدوائر الحكم في الاليزيه، أن استطاعت المملكة أن تؤسس لمحددات جديدة في علاقتها بفرنسا، علاقة لا تأثر بتغير الرئيس، لاسيما بالاعتماد على مكانيزمات جديدة لاختراق الوسط السياسي والاقتصادي والمالي والفني في فرنسا، وتوظيف حجم المصالح الفرنسية الكبيرة بالمغرب.
بالنسبة للعلاقة مع أمريكا، الأصل في علاقة المغرب بأمريكا، أنها طبيعية وتدبر وفق مستويات تتداخل فيها المصالح والملفات ومدى تأثير اللوبيات في تطوير وتدبدب هذه العلاقة، لكن، من اللافت أنها خلال العشرين سنة الماضية تراوحت العلاقة كذلك، بين التعاون والتوتر والفتور، لاسيما في ظل الرئيس السابق بارك أوباما والرئيس الحالي ترمب. ويمكن إجمال أبرز المتغيرات والمحطات في حادثين اثنين :
الأول، وقوع أزمة غير مسبوقة مع إدارة أوباما سنة 2013، عندما تم تسريب مسودة مشروع القرار الخاص بالصحراء يتضمن توسيع صلاحية بعثة المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان، ليتم استنفار كافة الإمكانات والحلفاء واللوبيات من طرف المغرب، استنفار وتمرد مغربيين على الإدارة الأمريكية ساهم في تراجعها عن مسودة القرار بتلك الصيغة، تراجع بطعم الانتصار ما كان ليكون لولا توظيف جيد لبعض الأوراق من طرف الملك وحزم يستدعي التأمل..
أما الحادث الثاني، فيرتبط بمجيء إدارة ترامب، هذا الأخير من الواضح أنه لا يحمل الكثير من الود تجاه المغرب، وذلك، بسبب المغامرة غير المحسوبة التي قامت بها المملكة إثر حديث بعض التقارير والتسريبات عن تمويلها بما يقارب 12 مليون دولار لحملة هيلاري كلنتون الرئاسية التي كانت تنافس ترمب.
مغامرة يحاول الملك تجاوزها ويعمل على تفادي تأثيرها على مصالح الأمن القومي المغربي، لاسيما أنها لا تزال ترخي بظلالها على العلاقة بين الطرفين(التأخر كثيرا في تعيين سفير لدى المغرب، تقليص مدة بعثة المينورسو لستة أشهر بدل سنة..)، خاصة في ظل وجود طاقم كمستشار الأمن القومي جون بولتون، الذي يتبنى مواقف وتصورات من المؤكد أنها لا تخدم الوحدة الترابية.
قصية الصحراء المغربية.. مكاسب وجبهات جديدة وفرص ضائعة
شهد مسار قضية الصحراء طيلة العشرين سنة الماضية، عدة منعطفات وتحديات كبرى إن على المستوى الاممي والأوربي والإفريقي، خاصة وأن مقاربات تدبير الملف من لدن المغرب تراوحت بين ردود الفعل والدفاع في مرات عديدة، والهجوم واخذ زمام المبادرة في مرات أخرى قد تكون محدودة ومحتشمة.
فعلى المستوى الاممي، فالعنوان الأنسب لتدبير ملف الصحراء على الرقعة الدولية والاممية طيلة العشرين سنة من طرف الملك محمد السادس، هو الحفاظ على الوضع القائم والإقبار النهائي لخيار الاستفتاء. وربما هذا الأمر يعتب مكسبا كبيرا للمغرب في ظل تقلبات موازين القوى وتعقد خريطة التحالفات واتساع دائرة الخلافات بين القوى الكبرى.
إن أبرز امتحان عاشتها المملكة خلال هذه المرحلة هو عدم الانجرار وراء استفزازات الجزائر والبوليسايو على شريط الجدار الدفاعي، ففي تحدي سافر لقرارات مجلس الأمن خاصة رقم 2414 حول الصحراء، قامت البوليساريو ، بخطوات استفزازية في منطقة التفاريتي من خلال القيام باستعراض عسكري وتنظيم مناورات عسكرية سنة2018 أو في قبلها في منطقة الكركرات، وبغرض النظر عن الخلفيات والرسائل التي تحاول الجزائر من هذا السلوك، فإن المغرب تعامل ببرودة وتجاهل مكتفيا برسالة تنديد واحتجاج موجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة.
إن عدم انسياق المملكة وراء هذه الاستفزازات ونزوعها إلى ضبط النفس وعدم الانجرار والتسرع في اتخاذ ردود فعل غير مدروسة، وإن كان يرتبط بوجود مسوغات موضوعية وتكتيكية صرفة، فإن القراءة المتأنية والاستشرافية تستلزم كذلك استحضار كافة الجوانب والنتائج والتداعيات المحتملة لمثل هذه الخطوات والتحركات التي يقوم بها خصوم المغرب.
وللتدقيق أكثر، فإذا كان خيار التجاهل أو المعالجة الدبلوماسية فوت على الجزائر فرصة استدراج المغرب إلى المواجهة المباشرة التي تسعى من خلالها إلى تحقيق مجموعة من المكاسب الرامية إلى إعادة طرح ملف النزاع بقوة على الساحة الدولية.
فإن هذا الخيار يبقى محفوفا بالمخاطر كذلك، حيث أن المراهنة على ضعف الأمم المتحدة وانقسام مجلس الأمن حول ملف الصحراء، شجع الجزائر على التمادي في تحركاتها من خلال بلورة خطط جديدة تفرغ التجاهل المغربي من محتواه، وتجعله خيارا يخدم أجندتها الرامية إلى تغيير معالم المنطقة العازلة والشريط المحادي لشرقي وجنوبي الخط الأمني/الدفاعي، بمعنى، أن عسكر الجزائر حاول أن يستثمر ” عدم انسياق المملكة” وتجاهلها لخلق واقع جديد في منطقتي بئر لحلو تفاريتي عبر توفير الأجواء والأرضية المناسبة لترحيل ساكنة تندوف لهذه المناطق وفرض الأمر الواقع.
لكن، مع صدور قرار مجلس الأمن رقم 2414 ، فقد شكل محطة فاصلة فيما يخص الأساطير الدعائية التي روجت طيلة أربعة عقود من الزمن، حيث عرى البوليساريو و فند ادعاءاتها المتمثلة في وجود ” أراضي محررة “، لاسيما أن هذه المنظمة الانفصالية حاولت من خلال ترويج هذه الادعاءات واستفزاز المغرب باحتفالاتها في تلك المناطق، أن ترمم صورتها التي اهتزت في المخيمات بفعل وضعية الجمود والفساد المستشري ، وأن تبحث عن قطعة أرض مفتقدة لتدارك النقائص المرتبطة بمقومات الدولة المتعارف عليها وفق القانون الدولي.
عنوان آخر، يمكن إضافته لمرحلة العشرين سنة من تدبير الملف، يتعلق بفشل سبعة مبعوثين امميين في مهمتهم في فك طلاسيم هذا النزاع وإيجاد حل عبر الوساطة، ودون الحديث عن مرحلة المبعوثين الأوائل الثلاثة الذين لم يسجل في مرحلتهم أي مبادرة أو شيء يذكر، وهما جوهانس مانس، وصاحب زاده خان يعقوب خان، ايريك جينسن، فخريطة الاستقالات توزعت بين الدبلوماسي الأمريكي المخضرم الذي استقال سنة 2004 بعض رفض مقترحاته الثلاثة، واستقالة كذلك بيتر فان والسوم سنة 2008، الذي دق آخر مسمار في نعش الاستفتاء عندما أقر في خلاصاته أن خيار الاستقلال الذي تطالب به البوليساريو ” خيار غير واقعي ومستحيل، وأن “خيار الاستفتاء تجاوزه الزمن”.
مسلسل الاستقالات امتد ليطال، كل من كرستوفر روس، سنة 2017، وهورست كولر الذي أعلن عنها خلال شهر ماي الماضي بدعوى المرض، لكنها، في حقيقة الأمر، فاستقالة كوهلر، شكلت ضربة موجعة لخصوم المملكة الذين راهنوا عليه لاستئناف المفاوضات، بعدما نجح في إجراء لقاءين رباعيين في جنيف جمع كل من المغرب والجزائر وموريتانيا والبوليساريو.
ويعتبر المغرب أكبر مستفيد من هذه الاستقالة، لاسيما وأن كوهلر كان يضغط بشكل قوي وحاول بشتى الطرق أن يلين مواقف المملكة، ووظف كذلك الدعم الأمريكي وتقليص مدة بعثة المينورسو لستة أشهر، وناور واستعمل كذلك مجموعة من التكتيكات مثل لقاء لشبونة وبرلين الذي رفضه المغرب و تم في فرنسا. كما أن محور الدول الداعمة لاطروحة الانفصال راهنت بشكل كبير على هذا المبعوث بغية حلحلة الملف، وإخراجه من دائرة النسيان. لكن، من المؤكد أن هذه الاستقالة ستعيد ملف النزاع إلى نقطة الصفر.
أما على مستوى الجبهة الداخلية، فباستثناء زيارة الملك للعيون سنة 2015 بمناسبة الذكرى الأربعون لمسيرة الخضراء، وإعلانه عن المشروع التنموي في الأقاليم الجنوبية، واستثمار أموال ضخمة في المناطق الجنوبية، مجال الطرق والموانئ والخدمات وفي قطاع الصيد البحري والسياحي، فقد ظل المغرب وفيا لتدبيره السابق لهذه المنطقة، تدبير موغل في الريع والزبونية، ومرتهن للنزعة القبلية، والاتكال على المشيخة بدل الاستثمار في شباب متعلم يحمل ثقافة تتجاوز رواسب الماضي. وبذلك، يكون المغرب، قد فشل في تجديد أو التأسيس لمنظومة جديدة في الاستقطاب والتأثير داخل البنيتين الاجتماعية والثقافية في النسيج الصحراوي.
أما على المستوى الأوربي، فقد استفاق المغرب على مفاجئة من العيار الثقيل، عندما أصدرت محكمة العدل الأوربية قرارها بتاريخ 27 فبراير 2018، القاضي باستثنائها الأقاليم الجنوبية من الاتفاقية الموقعة مع المملكة. حيث بالنظر إلى النقاط التي تضمنها هذا القرار الذي جاء ضد مصالح المغرب فهو يؤسس لسوابق قانونية لا تخدم مصالح المغرب. مثل الإشارة بصريح العبارة إلى أن ” ضم الصحراء إلى نطاق تطبيق اتفاق الصيد يُخالف عدة بنود في القانون الدولي، وبالتالي فإن اتفاق الصيد البحري لا يشمل المياه المتاخمة للأقاليم الصحراوية”.
قرار استنفر الدبلوماسية المغربية، ودفعها إلى الإعلان على أن أية اتفاقية لا تشمل مناطق الجنوبية لن يوقعها المغرب، وبعد سلسلة من اللقاءات والمفاوضات، خاصة والطرف أغلبية الدول الأوربية كانت تسعى جاهدة إلى إعادة تجديد اتفاقية الصيد البحري، خاصة اسبانيا، بحكم طبيعة وحجم المصالح الاقتصادية الموجودة. وليتوج مسار المفاوضات بالإعلان عن مصادقة البرلمان الأوربي بأغلبية ساحقة لصالح تجديد اتفاقية الصيد البحري بتاريخ 12 فبراير من هذه السنة، حيث صوت لصالح الاتفاقية 415 برلمانيا مقابل تصويت 189 برفضها وامتناع 49 عن التصويت.
العودة إلى منظمة الاتحاد الإفريقي..فك “عقدة الصحراء”
يعتبر قرار عودة المغرب إلى الحضن الإفريقي قرارا إستراتيجيا وحيويا، إذ ساهم في إعطاء دفعة قوية وزخم جديد للدبلوماسية المغربية على مستوى آليات الترافع عن قضية الوحدة الترابية من داخل القارة الإفريقية. غير أن هذه العودة؛ بالنظر إلى دلالاتها وخلفياتها، لاقت تجاوبا كبيرا من لدن حلفاء المغرب، وكذلك معارضة قوية من طرف المحور الموالي للجزائر داخل الرقعة الافريقية. كما أفرز مسار انضمام المغرب إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، منذ إعلان الطلب إلى قبول الانضمام، ظهور حالة من التقاطب الحاد بين المعسكرين؛ الأول الذي يقوده المغرب، والثاني الذي تقوده الجزائر.
وطفت على السطح ثلاث محطات رئيسية تعكس “الاشتباك الدبلوماسي” واشتداد المعارك التي قرر المغرب خوضها، بعدما اتضح أن هناك تباينا بين مواقف منظمة “الاتحاد الإفريقي” ومواقف عدد كبير من أعضائها.
سياقات ومحددات العودة المغربية إلى الأسرة الإفريقية
قرر المغرب أن يعود إلى الحظيرة الإفريقية بعد مضي 32 سنة من انسحابه من منظمة الاتحاد الإفريقي (الوحدة الإفريقية سابقا)، من خلال الرسالة التي بعث بها الملك إلى القمة 27 للاتحاد الإفريقي، التي عقدت بالعاصمة الرواندية كيغالي، المتضمنة طلبا رسميا بالعودة إلى أحضانه، بعدما أدرك أن سياسة المقعد الشاغر أثرت سلبا على مصالحه الحيوية.
وجاء قرار العودة بالتناغم مع “العقيدة السياسية” الجديدة للمغرب على مستوى الرهانات الدبلوماسية تجاه القارة الإفريقية، وذلك من خلال تكثيف وتنويع العلاقات الاقتصادية والعسكرية والأمنية والدينية مع مختلف دول إفريقيا، لاسيما أنه بعد إعلان المغرب عن نيته العودة إلى منظمة “الاتحاد الإفريقي” في نفس السنة تم تغيير 80 في المائة من المناصب الدبلوماسية بإفريقيا، وفتح خمس سفارات جديدة بتانزانيا ورواندا والموزمبيق وجزر موريس والبينين.
ومن أجل تحقيق هذا الرهان الاستراتيجي قاد وأشرف الملك شخصيا على جميع التحركات والمبادرات الميدانية الرامية إلى عودة المغرب إلى أسرته الإفريقية، وبغية اختراق القلاع الموالية لأطروحة الانفصال، تم تحييد ملف الصحراء، ولم يعد هذا الملف عقدة في تحركات المغرب، حيث تم التركيز على نسج علاقات ثنائية في كافة المجالات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية مع مختلف دول شرق وغرب ووسط إفريقيا..هذا التحول الإستراتيجي في السياسة الخارجية ظهر بشكل جلي في الزيارات الملكية إلى روندا وتنزانيا ونيجيريا وأثيوبيا.
لم يكن خيار العودة سهلا، لكن تحقيق هذا الرهان، جاء بعد معارك دبلوماسية شرسة خاضها المغرب ضد الجزائر وجنوب إفريقيا. ورغم أن الملك حضر شخصيا وكان يتواجد على بعد أمتار قليلة من مقر القمة ويقود بنفسه “غرفة العمليات” المتعلقة بالتنسيق والتشاور مع الحلفاء والأصدقاء لإنجاح رهان العودة، إلا أن كان العودة اتخذ في أخر لحظة، وهو مؤشر على فشل جميع المخططات والمناورات التي وظفها الخصوم لعرقلة وإفشال انضمام المغرب إلى أسرته المؤسسية
إن العودة المملكة إلى الاتحاد الإفريقي، تعني إغلاق قوس سياسة الكرسي الفارغ التي انتهجها المغرب طيلة ثلاثة عقود منذ انسحابه من هذه المنظمة الإفريقية سنة 1984، ويعتبر أبرز حدث دبلوماسي تحقق طيلة العشرون سنة من حكم الملك.
وبقدر ما تتيح عودة المغرب إلى أسرته الإفريقية مزايا عدة للدفاع عن مصالحه من داخل الاتحاد، فإن الانضمام وفق الشروط الحالية والسياقات المرتبطة بوجود كيان وهمي يحظى بدعم بعض الدول الإفريقية يطرح إشكالات عديدة ومحاذير قانونية وسياسية يحاول خصوم المملكة، دون شك، توظيفها لتسييج المغرب وتضييق هامش تحركاته داخل الاتحاد، وجعله يقبل بالوضع القائم الذي يخدم أطروحة الانفصال.
لكن من جانب آخر، فالانتصار وتحقيق خيار العودة إلى المنظمة الافريقي، وإبرام عدة شراكات واتفاقات واختراق معاقل الخصوم، قابله فشل في الانضمام إلى بعض التكتلات الاقتصادية في افريقيا، كتجمع دول غرب افريقيا المعرف ب” اكواس”، رغم ما يقارب سنتين على وضع الطلب.
العلاقة مع الدول العربية والخليجية
تحولات مهمة مست السياسة الخارجية المغربية في عهد الملك محمد السادس، وأول هذه التحولات هو الموقف الرسمي المغربي من القمم العربية، حيث اعتاد الملك محمد السادس على مقاطعة القمم العربية منذ سنة 2005، بفعل الاختلالات التي تشوب العمل العربي وتجعله غير مجد كما جاء في احد الرسائل الملكية، هذا، بالإضافة لحالة البرود والجفاء والتوتر التي صارت عناوين بارزة لعلاقة المغرب ببعض دول الخليج.
العلاقة مع الجزائر ..بين التوتر والمهادنة
العلاقات المغربية-الجزائرية اتسمت وعلى مدار أزيد من خمسة عقودبالخلاف والعداء الذي وصل إلى الحرب بين الطرفين بسبب مجموعة من الرواسب التاريخية والسياسية التي يبقى أبرزها ملف الصحراء.
وقد ظهرت في الآونة عدة مؤشرات تؤكد رغبة المغرب في تطبيع علاقاته مع الجزائر والتقرب أكثر من هذا الجار رغم الخلافات الجوهرية بين البلدين والعداء المستشري بسبب ملف الصحراء، هذا العداء وصل مداه عندما رفضت الجزائر فتح حدودها مع المغرب، وأخد أشكالا متعددة إن على مستوى ” الاشتباك الدبلوماسي” ودخول الطرفين في حرب استنزاف في عدة مناطق في العالم سواء افريقيا و أوربا وأمريكا اللاتينية.كما وصلت هذه “العلاقة العدائية” إلى مستويات غير مسبوقة من التوجس وانعدام الثقة من خلال استعداد كل طرف لإمكانية الدخول في مواجهات مباشرة من خلال ارتفاع نفقات العسكرة والتسلح في كلا البلدين.
وفي ظل هذا الوضع المتسم بالتوتر وتبادل الاتهامات بين الطرفين، وقع تحولا مفاجئ على مستوى السياسة المغربية تجاه الجار،حيث ظهر بشكل جلي رغبة المملكة في مد يدها إلى الجزائر من أجل بناء جسور الثقة وتقوية العلاقة الثنائية بين الطرفين وتجاوز وضعية الاحتقان الحالية،وأول بوادر هذا التحول تمثل بالأساس في الخطاب الملكي الأخير لذكرى المسيرة الخضراء، في 6 يونيو 2018، حيث وجه الدعوة للجزائر إلى ضرورة تجاوز الوضع الراهن، وتشكيل آلية مشتركة بين البلدين لبحث الخلافات وتقوية العلاقة بين الطرفين.
وقد غدى هذا التحول المغربي أكثر وضوحا على مستوى الخطابات الملكية، فبعدما كانت تتسم سابقا بنوع من الحدة والصرامة والوضوح ضد الجزائر، إلا أن الخطابات الأخيرة لسنتي 2016 و2017 و2018 سواء بمناسبة عيد العرش أو ثورة الملك والشعب أ, المسيرة الخضراء، فقد خلت-الخطابات- من تلك اللهجة أو النبرة المنتقدة التي تم استبدالها بلهجة أكثر هدوءا وودية، حيث خصصت هذه الخطابات الخطاب حيزا هاما لعلاقة المغرب بالجزائر والإشارة إلى الروابط التاريخية والنضالية التي تجمع البلدين.
لكن الدعوات المغربية لم تجد أذانا صاغية، فبعد مرور اسبوعين على الدعوة التي وجهها ملك المغرب بمناسبة ذكرى 43 للمسيرة الخضراء، جاء الرد الجزائري رافضا ومناورا في الشهور الأخيرة لرئيس بوتفليقة- قبل دفعه إلى تقديم الاستقالة- من طرف الحراك الشعبي، حيث ردت الجزائر بالدعوة اجتماع وزراء الخارجية لدول المغرب الكبير، وهو رد مبطن على رفض الدعوة الملكية، لأن دعوة اجتماع وزراء خارجية دول المغرب العربي يأتي خارج السياق وبمثابة هروب إلى الأمام، لاسيما وأن تعطيل وجمود اتحاد المغرب العربي يرتبط أساسا بالصراع المغربي الجزائري.
علاقة المغرب بالخليج .. بين الأمس واليوم
تحولات وتغيرات هامة مست العلاقة بين الطرفين خلال السنتين الأخيرتين، خاصة العلاقة مع السعودية والإمارات، فسابقا كانت الأخوة والصداقة والعلاقات الشخصية والاسرية هي المفردات والمصطلحات التي تحكم العلاقة بين ملك المغرب وحكام السعودية والإمارات، وانتقلت العلاقة سنة 2012 إلى مستويات جديدة وعرفت تحولا نوعيا بفعل سياقات ومتغيرات الحراك الشعبي الذي عرفته المنطقة العربية.
واندرج هذا التحول النوعي في إطار الشراكة الاستراتيجية التي تمت بلورتها على المستويات الاقتصادية والعسكرية والأمنية والاستخباراتية، شراكة تمتد من شمال أفريقيا إلى غرب أسيا، محورها المغرب ودول مجلس التعاون الخليجي، هذا المحور عجلت التحولات المتسارعة التي تعرفها المنطقة العربية والتوازنات الجيواستراتيجية في ظهوره، حيث كان ينظر إلى الحلف المغربي-الخليجي آنذاك خيار استراتيجي لكلا الطرفين، إذ يشكل متنفسا اقتصاديا وماليا للمغرب، من خلال سعيه إلى بناء شراكة استراتيجية، توجت في سابع نونبر 2012 بتوقيع الجانبين في المنامة على مخطط عمل بينهما عن الفترة (2012-2017)، ثم تعديله إلى الفترة (2013-2018).
أما دول الخليج، فالحليف المغربي بالنسبة إليها يتوفر على عدة مقومات على المستويات اقتصادية والعسكرية والأمنية، حيث يعتبر المغرب بوابة مجلس التعاون الخليجي تجاه أفريقيا و أوربا نظرا لموقعه الاستراتيجي المهم، مما يمكنها من التوسع اقتصاديا في هذه المناطق، أو بغرض الاستفادة عسكريا وأمنيا واستخباراتيا، وذلك بغية الحد من التغلغل الشيعي مغاربيا وأفريقيا، ونظرا كذلك لحاجتها الملحة والحيوية للجيش المغربي للدفاع عن سيادتها وأمنها القومي.
تحالف استراتيجي بلغ مداه عندما أعلن مجلس التعاون الخليجي دعمه للوحدة الترابية للمغرب خلال القمة الخليجية المغربية الأولى التي انعقدت بالرياض في 20 أبريل سنة 2016، وكان هذا الإعلان مؤشرا قويا آنذاك على متانة وقوة التحالف المغربي-الخليجي.
لكن، سرعان تعرض هذا التحالف لهزات قوية افتقدته زخمه وقوته، خاصة خلال الأزمة الخليجية البينية عندما قررت السعودية والإمارات في 5 يونيو 2017 مقاطعة قطر اقتصاديا وسياسيا لدفعها إلى الرضوخ لبعض المطالب. حيث تدهورت العلاقة بين المغرب والسعودية والإمارات بسبب موقف الحياد الايجابي الذي تبناه العاهل المغربي تجاه هذه الأزمة، ورفض المغرب التدخل في استقلالية وسيادية قرارته.
عدم استساغة موقف المغرب من الأزمة الخليجية البينية من طرف السعودية والإمارات، دفعهما إلى إنتاج مواقف عدائية تجاه مصالح المغرب، وبدأ مسلسل معاكسة المغرب بالتعبئة ضده ترشحه لاحتضان كأس العالم 2026، ليرد المغرب بالانسحاب من قوات التحالف في اليمن، بعدها لم يتأخر رد السعودية والإمارات من خلال بث تقرير يمس الوحدة الترابية للمغرب.
لينتقل مسلسل الخلاف إلى أن وصل إلى استدعاء السفراء و تضارب مصالح بين الطرفين في عدة ملفات وقضايا، سواء صفقة القرن، أو التنسيق الإماراتي/الجزائري ودعم القايد صالح، وتحركات الإمارات في ليبيا ودعمها للجنرال حفتر، وشراء ميناء نواذيبو في موريتانيا ومحاولة جعله منصة تنافس وتهدد الأدوار الحيوية المتوقعة لميناء الداخلة المتوسطي.
تحركات إماراتية في كل من ليبيا وموريتانيا والجزائر، تتناقض مع المصالح العليا للمغرب، أغضبت الرباط، وربما ساهمت مع تأزيم العلاقة معها مقابل الانفراج المسجل على مستوى العلاقة مع السعودية، حيث استثنى وزير الخارجية المغربي الإمارات خلال الجولة التي قام بها شهر أبريل الماضي إلى الخليج عندما نقل رسائل من الملك إلى معظم ملوك وأمراء دول الخليج(السعودية، الكويت، قطر)، الأمر الذي لم تستسغه الإمارات ودفعها إلى استدعاء سفيرها من المغرب.
محمد السادس.. تآكل المشروعيات التقليدية والبحث عن مصادر جديدة
المشروع المجتمعي ومحاولة البحث عن أنماط جديدة من المشروعيات، كالمشروعية التنموية، وتوظيف جيل جديد من الخطب الملكية، سواء من خلال التساؤل عن مال الثروة والتشخيص الحاد والجريءلوضعية الإدارة المغربية، كلها شكلت عناوين لأسلوب جديد اعتمده الملك طيلة العشرين سنة. لكن مع مرور الوقت، وعدم تنزيل أو استتباع الخطب والتوجيهات الملكية بخطوات عملية وإجرائية صارمة من طرف طاقمه القريب أو الحكومة، جعلت البعض ينظر إلى مضمون تلك الخطب نظرة ارتياب، بل تحولت في بعض الأحيان إلى وسيلة لمساءلة والتشكيك في التوجيهات والخطب الملكية سواء من طرف بعض التيارات المعارضة أو أفراد المجتمع، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
من جهة أخرى، فإن ضعف الأحزاب والنقابات، وسقوط البدائل أو الوسائط التقليدية، أدى إلى استدعاء المؤسسة الملكية، بحيث صار الشعب يستدعي الملك للخروج من الازمة، الكل أصبح يطالب بتدخله للخروج من الوضع المقلق المنتشر في صفوف المجتمع. وجدير بالذكر أن المطالبة سابقا بتدخل الملك في الأزمات والمحطات الكبرى كانت محكومة بروابط الثقة والتقدير اللذين تحظى بهما المؤسسة الملكية عند المواطنين.
لكن الملفت أن شكل وطريقة وكيفية المطالبة بتدخل الملك خلال الظرفية الراهنة، بدت مختلفة تماما عن سابقاتها، بحيث أصبحت توجه سهام النقد إلى المؤسسة نفسها، وهي التكلفة التي ظهرت بفعل الزج بالملك في الفضاء العمومي بتلك الطريقة والدفع به إلى واجهة الأحداث تارة باعتباره رئيسا للدولة، وتارة أخرى محاولة تصويره ” كالمنقذ “. ومن تداعيات ذلك، أن أصبحت المؤسسة الملكية في ” مواجهة السخط العارم” مما استهلك شيئا من رصيدها ومن مشروعيتها، بحيث صار الكل ينتظر قرارات كبرى من طرف الفاعل المركزي من شأنها أن تحدث رجة في الواقع المتردي وتحي آمال فئات عريضة من المجتمع المغربي في إحداث التغيير.
كما أنه، طيلة الفترة الممتدة من خطاب الملك في 9 مارس 2011، أي ما يقارب ثمانية سنوات لم تتخد أية مبادرة كبرى من شأنها أن تقوي أو تسمح بالحفاظ على المكانة الاجتماعية للمؤسسة الملكية، بل بالعكس، فالصراع الخفي الذي يخاض بأشكال مختلفة مع الإسلاميون المنخرطون في العملية السياسية وخارجها أفقدها ونال من بعض رصيدها المعنوي والرمزي، خاصة في ظل تفاقم وتردي الوضع الاجتماعي، وممارسات ومناورات كل من رئيس الحكومة السابق بنكيران الذي استطاع أن يمرر خطابا ورسائل مفادها أنه لا يحكم، ورئيس حكومي حالي يمرر بدوره نفس الرسالة من خلال صمته وكلامه الذي يوحي بأنه مجرد موظف سامي وليس رئيسا للحكومة بصلاحيات كبيرة ويشرف على تعيينات في مناصب سامية تفوق ألف منصب..
من جانب آخر، فطيلة العشرون سنة الماضية، سادت النخب نفسها التي اشتغلت مع الحسن الثاني، ولم تعمم مسألة دوران النخب على مختلف المستويات، بحيث ظلت الأغلبية الساحقة من القادة الحزبيين وبعض المسؤولين من مخلفات حقبة مضت. ومن تجليات ذلك، أن جيل السياسيين الموجودين، حاليا وقادة الأحزاب عاصرت فترة الراحل الحسن الثاني. فعدم إنتاج نخب جديدة والاعتماد على جيل سابق محكومة بثقافة ورواسب معينة، أفضى إلى توقف الزمن السياسي المغربي، وإلى تكرار وإعادة إنتاج نفس الممارسات العتيقة والمتجاوزة، مما نتج عن هذا الوضع كذلك، المراهنة على نفس البدائل واعتماد نفس الأساليب والطرق التي اعتمدت سابقا في ضبط الحقل السياسي والحزبي وتوجيهه خاصة فيما يتعلق بخلق تنظيمات وهيئات للمنافسة والتزاحم.
ورغم المجهودات التي يقوم بها الملك لامتصاص الاحتقان الاجتماعي والتفاعل مع انتظارات الشباب، من خلال توجيه الحكومة(تطوير قطاع التكوين المهني، التجنيد الاجباري..) إلا أنه خلال السنتين الأخيرتين، عرف المغرب مختلف أنواع الاحتجاجات، سواء السلوك الاحتجاجي/الشعبي في كل من زاكورة، الحسيمة، وجرادة، و الاحتجاج الفئوي، الأساتذة المتعاقدين، طلبة الطب، وكلها مؤشرات تؤكد أن ثمة تحولات بنيوية يعرفها المجتمع المغربي،.
وبقدر ما أن انتشار وتمدد الفعل الاحتجاجي بمختلف أشكاله، يعكس أو يؤشر على فشل المشاريع التنموية السابقة، بقدر ما يؤكد على أن هناك ” أزمة تصور ” في إدارة البلاد ، ” أزمة أو تآكل المشروعية”، وتفكك البنى التقليدية التي شكلت سابقا أهم أعمدة الحكم.
ختاما، من الواضح أن المغرب طيلة العشرين سنة التي مضت، قطع أشواطا كبيرة في مجال الأمن، إحداث المكتب المركز ي للأبحاث القضائية، تحديث طريقة وأسلوب عمل المؤسسة الأمنية، حماية البلاد من خطر الإرهاب، (عدد الخلايا التي تم تفكيكها منذ سنة 2002 إلى اليوم وصل إلى ما يقارب 190خلية)، لكن، استمرار الزج بهذه المؤسسة في المشاكل ذات الطبيعة الاجتماعية يعيد هذا الجهاز إلى نقطة الصفر، ويؤثر سلبا عن التراكم التي حققه المغرب في المجال الحقوقي، فارتفاع منسوب الاحتجاج وعدد المظاهرات، يستدعي البحث عن أجوبة تنموية واقتصادية اجتماعية.
أما المجال السياسي، فمن الواضح كذلك، أن يجري استنساخ وتكرار نفس المقاربات والحلول التي فشلت سابقا في التصدي للمكون الإسلامي، مقاربات أضحت متجاوزة ومبتذلة، ومن تداعياتها أن صارت المؤسسة الملكية في واجهة الأحداث وبدون الوسائط التي يفترض منها أو من الممكن أن تلعب أدوارا مهمة في امتصاص وعقلنة مطالب الشارع التي قد تبدو في بعض الأحيان مشروعة لكنها صعبة التحقق بتلك السهولة التي يعتقد البعض.
استاذ العلوم السياسية، جامعة القاضي عياض