هكذا يبدو للناظر سير اليسار، أو توخِّياً للدِّقة الفصائل الوازنة منه، منذ فترة ليست بالقصيرة، يمُدُّ قدماً نحو الغايات المكوِّنة لحمضه النووي، ثم يتوسل إليها بوسائل، وآليات، وسياسات اقتصادية تجنح إلى الليبرالية. ليبرالية أمسى يمشي في ركابها، يحذو حذوها تارةً، ويُضْفي عليها مُسْحَة اجتماعية تارةً أخرى. لمع بريق السوق في الثمانينيات من القرن الماضي فمشى اليسار نحوه لا يلوي على شيئ. كان في ما مضى يسعى بكل قواه الحية، وقواه الشعبية إلى ركوب مَتْنِ الدولة وتوظيف مؤسساتها وأجهزتها لغاية التنمية الوطنية، الشاملة، والمستقلة، ولتحقيق العدل، والمساواة، والحرية، والرفاه للجميع. لكنه وهو يقود تجربة التناوب التوافقي في أواخر التسعينيات سوف ترتخي الأذرع الاقتصادية، والاجتماعية للدولة باجتراح الخوصصة، والانفتاح المفتوح على الاستثمارات المباشرة الأجنبية، وهو ما سوف يُمكِّن الرأسمال الدولي من إحكام قبضته على مفاصل الاقتصاد الوطني، في شروط تتسم بفتور الاستثمار الخاص، وبقصور المقاولة المغربية قصوراً بنيوياً. الخطوة إلى اليمين في مجال السياسة الاقتصادية تمَّت باسم الإكراهات الماكرواقتصادية طوراً، وباسم التوازنات المالية طوراً آخر، وبحجة “الواقعية الاقتصادية“، والانخراط في العولمة في كل الأطوار.
خطوة أخرى، أجَلُّ من الأولى، لليسار نحو اليمين الليبرالي تتعلق بالرؤية الفكرية، وبتجلياتها السياسية. لم يعد مفهوم التقدم، بكافة أبعاده الاقتصادية، والتكنولوجية، والاجتماعية، والثقافية، والمعرفية، هو المُحدِّد لخطوات اليسار، والمُوجِّه لطموحاته، والمُحفِّز لصراعاته، بل الحداثة هي التي أضحت المرجعية، والإيديولوجيا، والمنهاج. هي الفاصل بين القوى الاجتماعية، والمُحرِّك للتناقض الرئيسي السياسي والثقافي؛ وهي، أيضاً، القاسم المشترك بين اليسار واليمين الليبرالي.
الحداثة بمفرداتها الميكرواقتصادية التي صاغتها الليبرالية الجديدة وحوَّلتها إلى ناموس (النجاعة، التنافسية، المرونة، الانفتاح، التوازن المالي، حقيقة الأسعار)، وليس الحداثة ذات الحمولة الاجتماعية التي ناضل اليسار التاريخي منذ القرن التاسع عشر من أجلها، والتي بموجبها تمكنت الحكومات الاشتراكية والاشتراكية الديموقراطية من ضبط أداءات الرأسمالية، والحد من “قوانينها الدموية” (ماركس)، ومن إخضاع التحوُّل الاقتصادي للرأسمالية للضرورات الاجتماعية، بتعبير كارل بولانيي. حداثة كونية، بمعنى التقدم الشامل، قوامها الدولة الاجتماعية المُنْشَدَّة إلى إشباع الحاجيات، والتمكين من القدرات ومن الحقوق، والارتقاء بالمجتمع بكافة مكوناته نحو الأفضل. الرؤية التقدمية هي الشرط اللازب، وهي القيمة المطلوبة، هنا والآن، لكي يستعيد اليسار ماهيته وهويته المفقودة، ويجمع أشتاته المبعثرة، المرتبكة والحائرة، ويستجمع قواه الخائرة، ويسترجع حيويته الفاترة، ويستأنف خطواته نحو المستقبل المنشود، ويستكمل بذلك مشوار الألف ميل التاريخي.