يوم الاثنين 2 ماي 1994 كنا في القسم نتابع درساً في اللغة الفرنسية للأستاذ محمد الفاضيلي في ثانوية محمد الخامس في كلميمة، ثانوية غريس سابقا، حتى دخل علينا مرسول من الإدارة أخبرنا أن أستاذ مادة الفيزياء برمج ساعتين إضافيتين في صباح اليوم الموالي، لتنضافا إلى الساعتين الرسميتين المرتقبتين.

لم يطرح الأمر أي علامة استفهام من جانبنا. خلنا أن السبب هو اقتراب امتحانات آخر السنة، خصوصاً أن الأستاذ إياه كان يلح دائما على أن نكون خير خلف لأحسن سلف في هذه الثانوية التي ذاع صيتها جهوياً ووطنياً بعد الرتب المشرفة التي حققها تلاميذها خصوصا في سلك العلوم الرياضية، وكان يعبر عن ذلك بحرقة بالغة في جملة تختزل واقع التعليم في بلادنا حيث يقول:

“واش ليسي غريس الي كان تيخرج مهندسين كبار ولى كيخرج شفارا؟”.

وهذه شهادة في حق هذا الاستاذ الذي ليس سوى أحمد كيكيش، المدير الاقليمي السابق للتعليم في القنيطرة، الذي أثار إعفاؤه الجدل في الإعلام .

في اليوم الموالي دخلنا إلى الفصل على الساعة الثامنة فوجدنا الاستاذ كيكيش ينتظرنا في القسم كعادته. كان الرجل مواضبا مخلصا محبا لمهنته رغم الصعوبات التي واجهها مع الادارة في تلك السنة. وقبل ان يبدأ الدرس بادرنا بالقول:

فكرت أن نضيف هاتين الساعتين، وأقصى ما يمكن من الساعات طيلة هذا الاسبوع، والسبب أنني من المحتمل جدا ان أتعرض للاعتقال لأننا أول أمس في مسيرة عيد الشغل في الرشيدية رفعنا لافتة كتب عليها “لا ديمقراطية بدون امازيغية”، ما أثار غيظ السلطات فسحبها منا الباشا بالقوة وتوعدنا”.

وكذلك كان، بعد أقل من ساعة دخل علينا مرسول الادارة فاستفرد بالاستاذ خارج الفصل لبضع ثوان قبل أن يعود إلينا ليستأنف الدرس بدم بارد.

بعدها بدقائق أتى المدير، محمد لخباب، فاستفرد به هو الاخر عند باب القاعة حتى سُمع صخبهما. بعد بضع دقائق عاد إلينا فاخبرنا بأن الشرطة القضائية تنتظره في الادارة وتضغط على المدير لكي يرخص لها بدخول المؤسسة، غير أن كيكيش أبلغه بأنه لن يتحرك من الفصل حتى يسلمه المدير استدعاءً مكتوبا.

غاب المدير لمدة نصف ساعة ثم عاد وهو يحمل في يده ورقة رمادية لم يراودنا الشك أنها الاستدعاء، وإذاك أوقف الاستاذ الدرس وغادرنا الفصل وودعنا واعتقل، وبالطريقة نفسها اعتقل الأستاذ امبارك الطاوس في الاعدادية المجاورة، والأستاذ علي إيكن في الرشيدية، وعلي حرش الراس في بيته في حي أوعثمان في كلميمة، وآخرين.

اقتيد الشباب الى وجهة مجهولة وخيم الغضب على وجوه الساكنة في تلك المدينة الصغيرة التي عانت الويلات طوال سنوات الرصاص الأولى ولم تعاف بعد من جحيم الاعتقالات بالجملة والتعذيب الذي طال شبابها بسبب كلاب ذبحها أحدهم وعلقها على جدار “القصر” وكتب بالقرب منها “ذبح كبشا وذبحنا كلبا”، وذلك احتجاجا على قرار الحسن الثاني منع الأضحية أوائل الثمانينات..

يوم الخميس الموالي، 5 ماي، ستعلم العائلات، أخيرا، أنهم يتواجدون في مخفر الشرطة القضائية في الرشيدية حيث علمنا في ما بعد أنهم تعرضوا لاستنطاقات مارتونية وصلتنا منها بعض الأصداء، غير المؤكدة، وأتمنى أن يكتبوا عنها، هم، في مذكراتهم، للتاريخ.

قدموا للمحاكمة، وآزرهم مئات المحامين من مختلف ربوع البلاد وخارجها، وحظيت القضية باهتمام دولي شكل ضغطا على الحسن الثاني في عز جبروته، ما جعله يخفف الأحكام من السجن لسنوات عديدة في الابتدائي إلى “ما قضى” في الاستناف..

ورغم أن الأجواء كانت مشحونة بالحمولة السياسية القوية للقضية في تلك الفترة، وامتحانات الباكالوريا التي كنا نستعد لها، فقد نظمنا مسيرات للتضامن مع أستاذتنا، وحضرنا محاكماتهم، وكانت هذه الاعتقالات محطة مفصلية في تاريخ الحركة الامازيغية وبداية فصل جديد، دشنه نقاش في البرلمان لأول مرة، وإطلاق ما سمي بنشرة اللهجات، وإصرار الحسن الثاني على استوزار النائب البرلماني بكلميمة، محمد حما، السفير الحالي في اليمن، في حكومة الفيلالي الثانية، وفوق هذا وذاك إطلاق نقاش عمومي أسقط الكثير من الأصنام ولم يتوقف إلى اليوم..

طبعا، كل الاسماء التي أشرت إليها أعلاه لا تعرفونها لأن آخرين سطوا على المكاسب والرصيد النضالي الأمازيغي، وتلك حكاية أخرى..