سردية الريف
تكاد السيرة الذاتية للكاتب محمد شكري، أن تختزل، أو قُلْ فيها انطوت سردية الريف. طفولة مَغْموسةٌ في الحرمان، والمسْغَبة، والعذاب، غُموس الخبز في المرَق. أُمِّية موروثة، وجهْل هو تجْهيل، وتَشرُّدٌ هو تشْريد، ضَرْب في الأرض، وتيْه في الفلاة. سوف ترمي به «لعبة الزمن» إلى أسفل سافلين، ويُرْغِمه شظف العيش على مُجاوَرةٌ الرذيلة. في المقابل، تجِدُ في الرجل مروءة، وشكيمة، وعزيمة، ومعاندة في مُجابهة رابع المستحيلات، وفي تجاوز مواقع النجوم. طاقة يَسْتمدُّها من مُكابدة البؤساء، ومُقاساة التُّعَساء. ذات يوم عزم الرجل، وهو في سن العشرين، على أن يخرج من ظُلمة الأُمِّية، دون عَوْن من أحد، فخرج. ثم أَزْمَع أن يقرأ، فقرأ بشراهة يعِزُّ لها نظير، و أن يَكْتُب فكتب، واستمسك بالكتابة حِرْفة حارقة، وبالكلمات حبَّات أمل : «لولا الخيال، لانْفجرتُ». حمل ما نفَثَتْ به القريحة إلى الأديب الكبير محمد الصباغ الذي همس في أذنه بأن الكاتب هو الأسلوب، فذهب للتَّو يبحث عن الأسلوب، إلى أن وجده، وهذَّبه، وصَقله. طلب منه بول بولز، الذي استشف الإبداع من حكايته الفظة، المضطربة، والحزينة، فحثَّه على الشروع في السرد والتدوين. بات محمد شكري ليلته يُفْرغُ على الورق جام آلامه، وعصارة معاناته مع صروف الدهر. وعند الصباح كان «الخبز الحافي» جاهزاً للطبع، أو يكاد. محمد شكري سيَّرتْه الأنفة كائناً عنيداً، صلْباً كجُلمود صخر، وصيَّرتْه النائبات»حالماً حقيقياً». يقول محمد شكري : «إن الفقراء هم الحالمون الحقيقيون»، يسقطون وبالأحلام ينهضون، يموتون وبها يحيون. ويقول أيضاً : «إن الله قد يرمي أمثالَنا، أحياناً، في بحرٍ هائج، لكنه لا يُغْرِقنا !». ذاع صيته، وذاع معه صيت الوطن. في حق الوطن، الذي لم يكن له منه النصيب الذي يَسْتوْجِب، قال : «سجن الوطن، ولا حرية المنفى». هكذا محمد شكري، هكذا الريف.
