تساءل عدد من المحللين الأجانب والعرب بالنظر لما يحدث في السودان والجزائر، هل تعيش منطقتنا ربيعا عربيا جديدا وهل سيكون هذا الربيع أجود إنتاجية من ربيع 2011.

إن المظاهرات الشعبية بالجزائر والتي تدوم منذ خمسين يوما والتي شارك فيها الملايين من كل الفئات الاجتماعية ومن كل الأطياف السياسية لم تحقق إلى اليوم هدفها الأساس، فهدفها الموحّد هو تحقيق العدل والديمقراطية ورحيل النظام بمدنييه وعسكرييه. إن استقالة، أو لنقل، إقالة الرئيس بوتفليقة من لدن رفاقه بالحكم تحت الضغط الشعبي مهم ولكنه لا يفي بالمأمول.

فنتائجه العملية محدودة، فهو كما يعلم الجميع أصبح عاجزا عن الحكم بل وعن القرار منذ ست سنوات ولكن بعض قياديي الجيش والطغمة المدنية النافذة والفاسدة في أغلبيتها استعملت مشروعيته التاريخية و«الانتخابية» ودوره الكبير في إنهاء الحرب الأهلية لتتابع ـ من وراء حجاب يكاد يكون شفافا ـ التحكم في الشأن العام وفي مقدرات البلاد الاقتصادية والمالية حيث يتم تحويل كل سنة جزء كبير من موارد الغاز والبترول إلى الخارج.

إن رعونة بعض الحكام وصلت بهم إلى حد الإستهتار بكرامة الشعب الجزائري والضحك على الذقون صباح مساء ولسنوات طويلة بالقول إن القائد الفعلي للبلاد هو إنسان وصل به المرض والهرم إلى حد لا يستطيع فيه حتى التصويت على نفسه في معزل الاقتراع. إن هذا لفضيحة حقيقية ستدخل التاريخ كواقعة من أغرب الوقائع التي أنتجتها عبر الزمان الأنظمة السلطوية، ومنها مثلا كما يحكي ذلك التاريخ أن ستالين بعد موته أو دخوله في الاحتضار ـ لا يمكن أن يعرف أحد يوما ما على وجه الدقة ـ لم يستطع أحد من رفاقه حتى أن ينادي على الطبيب خوفا من انتقامه في حالة إذا رجعت الروح إلى جسده أو إذا كان يعاني من إغماءة بسيطة أو مفتعلة ليعرف من يتمنى موته أو حتى يتجاسر على الاعتقاد أنه يمكن أن يموت.

القصة طبعا تختلف عن قصة بوتفليقة ولكنها تشبهها في الغرابة فإذا كان السبب في الأمر السخيف الذي حدث لستالين وهو في حالة ضعف بشري أو موت طبيعي، هو الخوف الذي زرعه هو نفسه في النخبة والشعب فإن الأمر الغريب الذي حدث لبوتفليقة هو المسؤول عليه كذلك، إذ أحاط نفسه بجماعة من المدنيين والعسكريين أغلبهم لا يهمه إلا جمع المال وقول «نعم فخامة الرئيس».

امتنع بوتفليقة عن استغلال مشروعيته الوطنية كمقاوم سابق للاستعمار والشعبية المهمة التي تمتع بها في بداية الألفينيات ليضع الجزائر على سكة الديمقراطية والمؤسسات وبناء نظام وطني للنزاهة، فضل التشبث بالحكم بل والخلود فيه وكأي حاكم مستبد قرب الأقرباء المتزلفين وأبعد النزهاء المنتقدين بل وقرر شخصيا وضع بعض الصحافيين في السجن لفضحهم فساد نظامه وطابعه القمعي. لقد أحبط بوتفليقة كثيرا من مثقفي ونخب المنطقة الذين رأوا فيه رجل اللحظة بالجزائر في نهاية القرن الماضي. لقد ظنوا وأنه، لكبر سنه وتجربته الطويلة و«شبعه» من السلطة والحكم: فقد قاد ديبلوماسية بلاده المتألقة بأمجاد الثورة والمستندة إلى خزينة الدولة الزاخرة بموارد الغاز والزيت وهو في العشرينيات من عمره، قلت ظنوا فيه خيرا لكل هاته الأسباب لكنه مع الأسف كان حاكما عربيا معتادا بل ومألوفا جدا.

فرغم التنبيه الذي مثله الربيع العربي لكل حكام المنطقة أن الزمن تغير وأن المواطن العربي والمغاربي لم يعد يطق طرق الحكم المعتادة من فساد وإفساد وتقريب وإبعاد وضغط وحيل وبروباغاندا لتزوير إرادة الشعوب والسخرية منها والتجبر عليها بالسلاح وبالإعلام والدين، تملك بوتفليقة ناصية الأمر والحكم واستمتع بها وكأنه مقبل على حياة بل وعلى عمر جديد، ناسيا أن بلاده يمكن أن تمثل الاستثناء بالمنطقة. فهي تتوفر على ثروات هائلة وساكنة ضخمة ومتعلمة ومحبة لوطنها ولها عزة نفس عالية يمكن أن تمثل قاعدة لمواطنة مشاركة ومنتجة حضاريا وديمقراطيا. لكن مع الأسف لم يتميز بوتفليقة عن الآخرين، إذ قبض على تلابيب «الدنيا الفايتة» كما يقول الجزائريون الحكماء مستسلما لبهرجتها المنومة ومفوّتا على بلاده عشرين سنة كاملة من التقدم والازدهار في إطار العدل والحرية والإخاء الذي لا يتحقق الا بالديمقراطية التعددية التي يختار فيها الشعب حكامه ويراقبهم ويغيرهم كلما حادوا عن الصواب أو فشلوا في تحقيق حياة أفضل.

لنعد الآن لعمر البشير والذي ملفه أسوأ بكثير من ملف بوتفليقة، فهذا الأخير على الأقل أرجع بلاده إلى السلم وحافظ على وحدتها ولم يأمر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين أما «جنرالنا» فإن حالة بلاده وهو يغادر حكمها أبأس من وضعها وهو يعتلي عرش السلطة فيها منذ ثلاثين سنة. فقد أصبح السودان سودانين وأصبح الفقراء أكثر فقرا، أما النخبة المثقفة وذات الكفاءات التكنوقراطية الرفيعة فقد غادر جزء كبير منها البلاد إلى الخليج أوالغرب. أما التعذيب في قاعات أجهزة الأمن الرهيبة فقد أصبح أداة من أدوات الحكم والتحكم في رقاب الناس.

والآن ماذا يمكن أن «نتمنى على» جنرالات الجيش وقد أصبحوا متحكمين من جديد، ودون رتوش مدنية، في مصيري الشعبين الجزائري والسوداني بعد خروج الزعيمين الرسميين من الباب الخلفي؟

كلمة واحدة موجهة لكل الحكام العرب: إن الشعوب لم تعد مغلوبة على أمرها وأن زمن التحكم في رقابها بالعصا والجزرة قد ولى، فإذا تبقت لكم ذرة من وطنية فغادروا من فضلكم مرفوعي الرأس بعد أن تضعوا مصير البلاد بين يدي ممثلين حقيقيين للشعب ومنتخبين من لدنه دون شراء للذمم ودون ذباب إليكتروني تموله وتتحكم فيه أجهزة الأمن السرية… لقد أصبح كل شيء عاريا كالوليد وقد وضعته أمه.

غادروا من فضلكم لتنفلت طاقات الشعوب من عقالها وليتحرر الإنسان من المهانة التي تثبط الهمم وتمنع منطقتنا من دخول زمن الحرية والعدل والرخاء.

• المصدر: موقع القدس العربي