"رحلة إلى جنوب الصين"
في أوائل عام 1992 ، قدم “دينغ شياوبينغ” كتابه “رحلة إلى جنوب الصين ” وهو عبارة عن زيارات قام بها إلى مواقع الإصلاح – لا سيما المنطقة الاقتصادية الخاصة في “شنتشن”- وقد أعرب “دينغ” عن إعجابه بما شاهده، فالانفتاح الاقتصادي ولد دينامية ونموا اقتصاديا سريعا، بفعل تفاعل عدة عوامل كان في مقدمتها ارتفاع حجم تدفقات FDI .. وهذا ما جعل الإصلاح الاقتصادي يوضع مرة ثانية في صدارة النقاش العام، فكان لابد من تسريع النمو الاقتصادي بهدف توليد المزيد من فرص العمل لامتصاص السخط السياسي الذي اندلع بعد 1989 من جهة، والرغبة في اللحاق بركب النمو السريع المسجل في البلدان المجاورة للصين من جهة ثانية .
آراء أخرى
ففي أكتوبر 1992، تم تجديد برنامج الإصلاح الذي اقره مؤتمر الحزب الرابع عشر –فتم في هذه الفترة تحديد هدف بناء ” اقتصاد السوق الاشتراكي “، واتخذ هذا التوجه منحى أكثر وضوحا في المؤتمر الرابع عشر للجنة المركزية في عام 1993، فكلمة “التخطيط” لم تعد عبارة أساسية لوصف أهداف الإصلاح… وبدلا من ذلك، أصبح الهدف الرئيسي هو بناء “اقتصاد السوق الاشتراكي”، و الاندماج في السوق الدولية عبر الانضمام لمنظمة التجارة العالمية…
أولا – إصلاحات 92 / 97 و تسريع وثيرة الانتقال لاقتصاد السوق
بين عامي 1992 و 1997، اتخذت الحكومة سلسلة من الإصلاحات، كان لها اثر ايجابي على أداء المؤسسات المملوكة للدولة… إذ تحرير المزيد من أسعار المدخلات والمخرجات الصناعية ، كما سمحت الحكومات المحلية بهيكل للأسعار يعكس الأسعار الدولية… وتم إصدار نظام للمحاسبة في عام 1993 ليحل محل النظام القديم القائم على الجداول الماركسية…
وفي عام 1994، اعتمدت الحكومة الضريبة على القيمة المضافة، التي كانت موحدة بين جميع المؤسسات على اختلاف نوع الملكية، وجاء هذا الإصلاح في سياق الرغبة في الحد من اعتماد الدولة على أرباح المشاريع بوصفها المصدر الرئيسي للإيرادات للحكومة ، وما شجع الحكومة على تبني مثل هذا القرار، هو عجز المؤسسات المملوكة للدولة عن تحقيق الأرباح نتيجة للإصلاحات التي مست نظام الأسعار، فإيرادات الدولة كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي قد نزلت من 31 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1978 إلى 22 % عام 1985، وبنحو 16 % في عام 1990، و 14 % في عام 1992. ونتيجة للانخفاض في الإيرادات العمومية عملت SOEs على تمويل الاستثمار من خلال القروض المصرفية و أرباح SOEs بدلا من المنح المقدمة من الميزانية العامة للدولة.
هذه الإصلاحات المتصلة أعطت للشركات قدرا اكبر من المرونة في استئجار العمال، فمجموعة من الامتيازات الاجتماعية (كالعمل مدى الحياة في المشاريع والمعاشات التقاعدية للعمال ، والحق في السكن، …) بدأت تتعرض للهجوم لكونها تشكل عائقا أمام التشغيل الفعال للقطاع العام، وكما ذكر أنفا، هذا القرار اتخذ في عام 1986 لتمكين المؤسسات التابعة للدولة من توظيف عمال جدد لفترة زمنية محددة وليس بصورة دائمة.. ونتيجة لذلك، فعدد العاملين في قطاع الدولة بعقود قد ارتفع من 10،1 مليون في عام 1988، إلى 15،9 مليون في عام 1991 (بنسبة زيادة 16 ٪ في السنة)، و ارتفع إلى نحو 20،6 مليون في سنة 1992 و55،5 مليون سنة 1996 – أي بزيادة تصل إلى 28 في المائة في السنة…
أما العدد الإجمالي للموظفين والعاملين في قطاع الدولة فقد انتقل من 99،8 مليون في عام 1988 إلى 106،6 مليون في عام 1991 و 109،5مليون في عام 1996 ، الأمر الذي يعني أن عدد العاملين في قطاع الدولة المستفيدين من الفوائد الكاملة ل “سلطانية الأرز الحديدية” قد ارتفع بنسبة طفيفة، من 89،8 مليون في عام 1988 إلى 90،8 مليون في عام 1991 ، ثم انخفض العدد بشكل حاد إلى 54 مليون في عام 1996…
وهناك تغيير أساسي أخر خلال هذه الفترة، يتمثل في زيادة بيع أسهم الشركات التي وضعت على بورصتي “شنغهاي” و”شنتشن”.. وقد حصلت طفرة كبيرة في عدد الشركات المدرجة في البورصة، ففى عام 1993 كان هناك نحو 183شركة مملوكة للدولة مسجلة في البورصة، والأسهم المتداولة بلغت قيمتها حوالي9،6 مليار يوان، وفي عام 1997 كان هناك 745 شركة مدرجة في البورصة، ومعظمها من المؤسسات المملوكة للدولة سابقا، والأسهم التي تم إصدارها بلغت في نفس السنة حوالي 26،8 مليار يوان. القيمة الإجمالية للأسهم المصدرة بحلول عام 1997 كانت حوالي 1715،4 مليار يوان، ولكن فقط 520،4 مليار يوان من هذه القيمة يتم تداولها على البورصات.. و بعد مرور خمس سنوات بلغ مجموع القيمة السوقية للأسهم المدرجة من الأسهم “القابلة للتداول” نحو ضعف أرقام عام 1997…
والغرض الأساسي من بيع أسهم الشركات هو توفير رأس المال للشركات، سواء من الداخل أو الخارج، ففي الداخل شكلت هذه الأسهم للجمهور بديلا أفضل لاستثمار مدخراتهم، بدلا من إيداعها في مصارف تابعة للدولة أو تحت المراتب.. لذلك فإن عملية الإدراج في البورصة لم تؤثر على حوكمة الشركات المملوكة للدولة، لأن المساهمين لم يكن لهم الحق في اختيار إدارة الشركة، أو التأثير في سلوك الإدارة.. فهذه السلطة ظلت بيد الحكومة والحزب الشيوعي، إذ لهما كامل الحق في اختيار الإدارة العليا للمشاريع.
ففكرة أن نظام المساهمة في الصين سيسمح بالانتقال نحو نظام إدارة للشركات موجه لتحقيق الربح لحملة الأسهم، ومن شأنه أن يؤثر في اختيار مجلس الإدارة، لم يعتمد في هذه المرحلة ولو على سبيل التجربة… هذا عكس الاعتقاد السائد بين الأعضاء الرئيسيين في قيادة الصين، فالملكية لم يكن لها تأثير حاسم على أداء SOEs ، ففي عام 1995 ، صرح “جيانغ زيمين Jiang Zemin ” بأن “بعض المؤسسات المملوكة للدولة ، تفتقر إلى الحماسة ولا علاقة لذلك بنظام الملكية ” فمشاكل المؤسسات المملوكة للدولة يمكن إرجاعها إلى” البيئة الداخلية والمشاكل المتبقية من التاريخ ، ولا يمكن إيجاد حل كامل إلا من خلال تعميق الإصلاحات “.
إن التغيرات التي حدثت في المؤسسات الصناعية المملوكة للدولة في الفترة
1992-7 كانت عميقة، غير انه بدءا من 1997 ستعمد القيادة الصينية إلى تسريع وثيرة الإصلاحات بغرض التكيف مع ضوابط منظمة التجارة العالمية .
ثانيا- إصلاحات 1997/2003 و التكيف مع ضوابط منظمة التجارة العالمية
بحلول عام 1997 تحققت نتائج جد ايجابية في مسار إصلاح الصناعة، فنحو 86 ٪ من أسعار السلع المنتجة يحددها السوق، و 10 % فقط تحددها الدولة. كما أن المؤسسات المملوكة للدولة أصبحت تتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلال الذاتي، و تزايد عدد العمال المعينين بعقود قصيرة الأجل.
لكن بالرغم من هذا التحسن فان القيادة الصينية كانت على قناعة بأن مؤسسات الدولة لا تزال تمثل مشكلة، ففي الفترة من 1996/98 أرباح المؤسسات المملوكة للدولة انخفضت إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق، إذ وصلت إلى اقل من 2 ٪ من قيمة الإنتاج الصناعي الإجمالي، و ارتفعت خسائر المؤسسات المملوكة للدولة في السنوات نفسها، إلى ما يتجاوز نحو 3 % من الإنتاج الصناعي الإجمالي، هذا التراجع في الأرباح كان نتيجة منطقية لتحرير الأسعار ودخول شركات جديدة للسوق، مما أدى إلى زيادة المنافسة ومن ثم الضغط على الأرباح.
كما أن الأزمة المالية في شرق آسيا بين 1997/98 جلبت إحساسا جديدا بضرورة إدخال إصلاحات على (SOEs) و القطاع المصرفي. وكانت الصين إلى حد كبير معزولة عن الأزمة، لأنه قبل حلول الأزمة كانت الحكومة قد تمكنت من بناء احتياطي ضخم من النقد الأجنبي، وتحقيق فائض كبير في الحساب الجاري، وهو ما ساعدها على الاستفادة من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر ومن تم التحكم في الأزمة، فالمستثمر في الصين، سواء كان محلي أو خارجي، كانت لديه قناعة بأن الصين لن تضطر إلى إجراء أي خفض حاد في قيمة عملتها…
وفي حين أن الصين تجنبت حدوث أزمة مالية، غير أن الصعوبات التي واجهتها بلدان الجوار شكلت تحذيرا للقيادة الصينية ، فالأزمة يمكن أن تصيب القطاعات الأضعف في الاقتصاد، وتشمل- في حالة الصين- المؤسسات المملوكة للدولة والمصارف الحكومية. لذلك، عملت الحكومة منذ عام 1998، على خفض عدد العاملين بالوحدات المملوكة للدولة.
ولما كانت القوى العاملة لديها القدرة على خلق متاعب سياسية، فقد بدء مؤتمر الحزب الشيوعي الخامس عشر المنعقد في سبتمبر 1997، تداول قضية التقليل من فائض العمالة بالقطاع العام، لكن هذا التوجه لم يتم الشروع في تنفيذه، و تم تأجيل إغلاق المؤسسات المملوكة للدولة وفصل العمال إلى حين التأسيس لنظام للرعاية الاجتماعية يحل محل النظام القديم.
كما أن الحكومة المركزية في هذه الفترة عبرت عن نيتها في التخلص من المؤسسات المملوكة للدولة الخاسرة، وقد تباينت الآراء حول عدد المؤسسات التي ستحتفظ بها الحكومة المركزية وتراوح العدد بين 500 و 1000، ولكن في النهاية استقر العدد عند 520 مؤسسة تجارية و نحو 514 مؤسسة لازالت للحكومة المركزية السيطرة عليها..وما تبقى أي نحو 8700 مؤسسة كبيرة و متوسطة الحجم كانت مضطرة للكفاح بشكل ذاتي من أجل البقاء أو طلب المساعدة من الحكومات دون الوطنية.
أما مؤسسات الدولة الصغيرة فلم تخضع لبرامج الخصخصة التي تمت على المستوى المركزي، لأن الكثير من هذه المؤسسات مملوكة لحكومات المقاطعات والحكومات المحلية.. ومن تمت فإن مسؤولية كفالة هذه المشاريع يعود إلى الحكومات المحلية.. ولما كانت حكومات المقاطعات والحكومات المحلية -على خلاف الحكومة المركزية- ليست لديها القدرة على إصدار النقود، فإن أي من الإعانات المحلية للمؤسسات التابعة للدولة يجب أن تخرج من إيرادات هذه الحكومات المحلية.. وفي الممارسة العملية، المسألة لم تكن بهذه البساطة، وهذا ما يفسر، جزئيا، لماذا كان إصلاح النظام المصرفي متزامنا مع تزايد قيود الميزانية على المؤسسات المملوكة للدولة..
ثالثا- قرار الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية
واضعي السياسات الاقتصادية في الصين لم يكن بإمكانهم الوصول بسرعة إلى إدخال تغييرات جذرية في المؤسسات الصناعية المملوكة للدولة، وذلك بسبب السلطة السياسية لقادة العديد من هذه المشاريع و المتحالفين مع الحكومة والحزب الشيوعي. السياسة الاقتصادية التي انتهجها الإصلاحيين لجأت لمجموعة من الإجراءات بهدف تقويض المقاومة السياسية الداخلية. والطريقة التي تم اختيارها هي زيادة الضغوط التنافسية على قطاع الدولة من خلال تعريض هذا القطاع لمزيد من المنافسة الأجنبية القوية.. ولتحقيق هذه الغاية تم تخفيض التعريفات الجمركية ومختلف القيود الكمية المفروضة على الواردات .
ذلك أن الصين لكي تحافظ على شركائها التجاريين كان عليها تقديم تنازلات لولوج السلع والخدمات إلى السوق الصيني، أو التعرض لخطر قطع صلاتها بأسواق التصدير ، وهي احد المحركات الأساسية للنمو السريع في الصين خلال فترة الإصلاح.
لذلك، دخلت الصين في مفاوضات مع أوروبا، والولايات المتحدة، وغيرها من الدول للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، طيلة عقد من الزمن..، لكن التقدم نحو الاتفاق كان بطيئا بسبب الشروط الصارمة للحصول على العضوية. ففي الماضي البلدان النامية تمكنت من الانضمام إلى “الغات” (والذي تحول إلى منظمة التجارة العالمية) بشروط اقل و متساهلة نسبيا، حيث انه سمح لهم بإجراءات تقييدية لتشجيع الصناعة المحلية، غير أن هذا الخيار لم يعد مسموحا به للبلدان التي تحاول الانضمام للمنظمة خلال التسعينات من القرن الماضي.
بل إن الولايات المتحدة لم تسمح حتى بتصنيف الصين على أنها من البلدان النامية، واشترطت لقبول انضمام الصين إلى منظمة التجارة التزام الصين بإلغاء جميع القيود الكمية على التجارة، وخفض التعريفات الجمركية إلى المستويات التي من شأنها أن تقدم إلا حماية محدودة لعدد قليل من الصناعات الناشئة، مع ضرورة حماية حقوق الملكية الفكرية.
ونظرا لصرامة هذه الشروط ، أقدم رئيس الوزراء “Zhu Rongji” على زيارة الولايات المتحدة في ابريل 1999 وعرض على إدارة كلينتون اقتراحا لتعجيل انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، مقابل الموافقة على أهم الشروط التي أصر عليها الجانب الأمريكي . إدارة كلينتون الأولى قد رفضت في البداية عرض “ Zhu Rongji“ لكن الموقف انقلب بعد عدة أيام ، وتم فتح باب المفاوضات مع الصين على انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية.
وعندما نشرت الولايات المتحدة الشروط المعروضة من قبل الصين بعد فترة وجيزة، شكلت هذه الشروط صدمة بالنسبة لمديري المؤسسات التابعة للدولة و غيرهم من المسؤولين رفيعي المستوى، فهذه الشروط كانت في وثيقة سرية لا يعرفها سوى بعض من كبار المسؤولين، وقد شكل هذا التوجه تحولا كبيرا في السياسات التجارية التي سادت في الماضي القريب. وفي الواقع ، فان الصين قد وافقت في وقت سابق، على تفكيك العديد من الإجراءات التي تم استخدامها لحماية المؤسسات المملوكة للدولة من المنافسة الأجنبية.
وعلى الرغم من الصدمة الأولية و المشاكل السياسية التي أوجدها هذا التوجه، فان المفاوضات سارت قدما نحو الأمام، وبعد الانتهاء من مفاوضات مماثلة مع سائر أعضاء منظمة التجارة العالمية، انضمت الصين رسميا إلى منظمة التجارة العالمية في نوفمبر 2001.مع ما تضمنه الاتفاق من إزالة لجميع الحواجز الكمية على الواردات بحلول عام 2005، بما في ذلك نظام الحصص ، والتصاريح ، و باقي التدابير المماثلة.
وعموما، فان قرار انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية ، شكل محاولة شجاعة لتسريع وتيرة إصلاح المؤسسات. ذلك أن، المنافسة الأجنبية وحدها، سواء الناجمة عن التجارة أو الاستثمار الأجنبي المباشر، قادرة لوحدها على تأمين الانتقال الكامل للصين نحو اقتصاد السوق، حيث أن المؤسسات الصناعية و المالية التابعة للدولة ستنافس على أساس متكافئ مع جميع المشاريع على اختلاف أشكال الملكية..
و قد بينت السنوات الماضية أن سياسة الصين في الانفتاح و الإصلاح كانت ناجعة وفعالة، و مكنت البلاد بالفعل، من الانتقال من اقتصاد منغلق يقوم على التخطيط و ملكية الدولة، إلى اقتصاد أكثر انفتاحا على التجارة الخارجية ورؤوس الأموال الأجنبية والتكنولوجيا المتقدمة، و تحليل تاريخانية إصلاح الشركات المملوكة للدولة، يؤكد على هذه الفعالية والنجاعة، فالإصلاحات اتسمت بالتدرج و المرونة، و لم تكن إصلاحات ارتجالية أو عشوائية، صحيح أن بعض هذه الإصلاحات لم يكن مخطط لها، ولم يكن أحد يتوقع نتائجها، لكن أسلوب الإصلاح بالتدرج و التجريب جعل صناع القرار يتحكمون في مدخلات و مخرجات هذه الرحلة من الإصلاحات الممتدة في الزمان والمكان… و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي..