حوار l المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه: لا يمكن لإسرائيل أن تكون قوة استعمارية وديمقراطية في آن واحد
يقدم المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” كقوة استعمارية غير ديمقراطية بطبيعتها بسبب القمع الضروري للفلسطينيين.
غالبا ما يُنظر إلى مكانة إسرائيل بصفتها ديمقراطية حقيقية كأمر بديهي لا يناقش ، لكن إن اي فحص أكثر انتقادا لتاريخ وواقع الصهيونية يدعو إلى التشكيك في ذلك. الـمسألة بسيطة جدا : كيف يمكن أن توجد ديمقراطية في بلد يعرف دستوريا بأنه دولة عرقية لا يمكن أن يعيش إلا من خلال قمع الآخرين وإبادتهم التدريجية ؟
في هذا الحوار ، الذي نشره موقع “ريزو انترناشيونال”، بين المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه والصحفي الأمريكي كريس هيدجز ، نقاشا عميقا عن إسرائيل كمشروع استعماري بطبيعته وبالتالي فهو غير ديمقراطي.
كريس هيدجز: حذر الباحث يشايا هو ليبوفيتز، الذي أطلق عليه أشعيا برلين لقب “ضمير إسرائيل”، من أنه “إذا لم تفصل إسرائيل بين الكنيسة والدولة، فإنها ستلد حاخامية فاسدة من شأنها أن تحول اليهودية إلى عبادة فاشية”. (وهنا كلمة الكنيسة ليس بالمعنى المسيحي بل تعني السلطة الدينية على العموم)، إن القومية الدينية هي بالنسبة للدين ما كانت الاشتراكية القومية (أي النازية) بالنسبة للاشتراكية” ، كما حذر ليبوفيتز ، الذي توفي في عام 1994. لقد أدرك أن التقديس الأعمى للجيش، خاصة بعد حرب عام 1967، التي تم فيها احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية، أمر خطير وسيؤدي إلى التدمير النهائي للديمقراطية ، ثم كتب “وضعنا سيتدهور حتى يصبح مثل فيتنام ثانية وحربا وتصعيدا مستمرا دون أي احتمال للتوصل إلى حل نهائي”.
لقد توقع آنذاك أن “العرب سيكونون هم العمال واليهود الإداريين والمفتشين والمسؤولين والشرطة، وخاصة الشرطة السرية. إن الدولة التي تحكم سكانا معادين لها من 1.5 إلى 2 مليون أجنبي ستصبح بالضرورة دولة بوليسية سرية. مع كل ما يعنيه هذا بالنسبة للتعليم وحرية التعبير والمؤسسات الديمقراطية. كما أن خاصية الفساد التي يتميز بها أي نظام استعماري ستسود في دولة إسرائيل.
يجب على الإدارة، من ناحية، قمع التمرد العربي، والتعامل مع العلاقات العربية من ناحية أخرى. وهناك أيضا أسباب وجيهة للخشية من أن يتحول جيش الدفاع الإسرائيلي، الذي كان حتى الآن جيشا شعبيا، إلى جيش محتل وأن قادته، الذين أصبحوا حكاما عسكريين، سيشبهون زملائهم في الدول الأخرى”.
من هو ليبوفيتز (1903-1994)؟ إنه طبيب إسرائيلي و فيلسوف الأديان و مؤرخ وأستاذ في الجامعة العبرية في القدس.
وهو الذي حذر من تصاعد العنصرية الخبيثة التي من شأنها أن تدمّر المجتمع الإسرائيلي. كان يعلم أن الاحتلال الطويل الأمد للفلسطينيين سيخلق معسكرات اعتقال للمحتلين وأنه، على حد تعبيره، “إسرائيل لن تستحق الوجود ولن تستحق الحفاظ عليها”.
لطالما كانت الرغبة في إبادة غزة حلم الـمتعصبين الإسرائيليين، ورثة الحركة الفاشية بقيادة المتطرف مئير كاهانا، الذي مُنع من الترشح وتم حظر حزبه كاخ في عام 1994 وأعلنته إسرائيل والولايات المتحدة منظمة إرهابية. هؤلاء المتطرفون اليهود، الذين يشكلون الآن الائتلاف الحاكم، هم الذين يدبرون الإبادة الجماعية في غزة، حيث يقتل أو يجرح مئات الفلسطينيين كل يوم. إنهم يدافعون عن أيقونات ولغة فاشيتهم الـمحلية. إن الهوية اليهودية والقومية اليهودية ما هي إلا نسخة صهيونية من الدم والتراب، التي تعتبر التفوق اليهودي مقدسا بقرار من عند الله، وكذلك قمع وقتل الفلسطينيين، الذين يقارنونهم بشعب العماليق التوراتيين الذين ذبحهم العبرانيون القدامى كما أن الأعداء ، وهم عادة المسلمون ، الـمحكوم عليهم بالانقراض ،ما هم سوى كائنات دون البشر يجسدون الشر. إن العنف والتهديد بالعنف هما الشكلان الوحيدان للتواصل اللذان يفهمهما أولئك الذين ليسوا جزءا من الدائرة السحرية للقومية اليهودية ويجب إبادة الـملايين من المسلمين والمسيحيين، بمن فيهم أولئك الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية.
إيلان بابيه، أستاذ التاريخ في جامعة إكستر في بريطانيا، الذي وصف ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين بأنه إبادة جماعية تدريجية، يرافقني من أجل مناقشة عواقب احتلال فلسطين على المجتمع الإسرائيلي وما تبشر به نتائج الحملة القاتلة الحالية في غزة والضفة الغربية بالنسبة إلى مستقبل إسرائيل.
وقد كتب العديد من الكتب، بما في ذلك “أكبر سجن على وجه الأرض: تاريخ الأراضي المحتلة” و “التطهير العرقي في فلسطين”، الذي توقف ناشره الفرنسي عن نشره على الرغم من زيادة حجم المبيعات منذ هجمات 7 أكتوبر. هذه نتيجة من نتائج الحملة التي يشنها الصهاينة ومؤيدوهم لتشويه سمعة الروايات المنتقدة لإسرائيل.
منذ عشرينيات القرن العشرين – أرض بلا شعب أو شعب بلا حقوق؟
كريس هيدجز: أود أن أبدأ بالنظر إلى حقبة ما بعد إسرائيل، والـمشروع الصهيوني الذي بدأ في عشرينيات القرن العشرين، ومعرفة ما إذا كان المشروع نفسه، حتى قبل إنشاء دولة إسرائيل، يحمل في داخله بذور تدمير ه الذاتي؟
إيلان بابيه: نعم، أعتقد ذلك. أنت محق في طرح عشرينيات القرن العشرين لأنه، بالطبع، كانت الحركة الصهيونية موجودة قبل ذلك، لكنني أعتقد أنه في منتصف عشرينيات القرن العشرين بدأت في شراء الأراضي وطرد الناس الذين عاشوا على تلك الأرض. حدث هذا حوالي عام 1926. لقد أصبح مشروعا استعماريا للاحتلال ولم يعد مجرد مشروع لإنقاذ اليهود من معاداة السامية أو إعادة تعريف الثقافة الوطنية لليهودية على أنها قومية ولم تعد ديانة.
بمجرد حدوث ذلك، أصبح من الواضح أن المشروع سيفرض بالقوة على السكان الأصليين. لذلك لم يكن الأمر مجرد فرض استعماري كلاسيكي للمستوطنين الأجانب الذين يفرضون أنفسهم على السكان الأصليين. كان الأمر يتعلق أيضا بخلق فكرة أنهم يستطيعون إنتاج أو إنشاء دولة أوروبية في العالم العربي، مثل الكثير من العنصريين البيض في جنوب إفريقيا. هناك حقيقتان: من ناحية، هناك تنفيذ مشروع لتهجير واستبدال السكان الأصليين، ومن ناحية أخرى، محاولة إنشاء كيان سياسي ثقافي لا علاقة له بالـمنطقة التي ينتمي إليها ثم يتم الترويج للفكرة. أعتقد أنه تم الترويج لها في عشرينيات القرن العشرين. يمكننا أن نرى اليوم آثار هذا الفعل، بلا شك.
كريس هيدجز: ومع ذلك، كان هناك دائما توتر داخل المشروع الصهيوني. أنا – ربما تعرفونه أيضا – كنت أعرف أبا إيبان Abba Eban وتيدي كوليك Teddy Kollek، عندما كنت في إسرائيل، تم حظر حزب مئير كاهانا “كاخ”. إن الأشخاص الذين يحيطون بنتنياهو اليوم هم بالطبع ورثة حزب كاخ. وفي وقت لاحق، حدث اغتيال هذا الحاخام اليميني [في عام 1990. أود أن تتحدثوا عن هذا التوتر، لأنه كان موجودا. كان تيدي كوليك رئيس بلدية القدس عندما كنت هناك. كان يبني شبكات الصرف الصحي للقدس. لقد كان نهجا مختلفا عن الاحتلال، أو ربما أكون مخطئا؟
إيلان بابيه: لقد كان نهجا مختلفا، لكنه كان لا يزال استعمارا. إذا قلت الأمر بصراحة أكثر قليلا، فسأقول إنه كان هناك بالتأكيد تيار أيديولوجي داخل الصهيونية يعتقد أنه يمكن للمرء أن يكون مستعمرا تقدميا أو مستعمرا مستنيرا. ومع ذلك، من وجهة نظر الشعب الخاضع للاستعمار، حتى لو كانت هناك فوائد من الناحية الاقتصادية، من حيث البنية التحتية، فإن الاحتلال لا يختفي فجأة بل يظل احتلالا. ولم يؤد الاستعمار إلى توفير أو عدم توفير شبكات الصرف الصحي في القدس فحسب، بل أدى أيضا إلى حقيقة أن تيدي كوليك، بصفته رئيس بلدية القدس، أشرف على إبادة أعداد كبيرة من الفلسطينيين في القدس الشرقية من أجل إفساح المجال لبناء أحياء يهودية جديدة، والتي ينبغي أن تسمى بحق مستوطنات أو مستوطنات يهودية.
وهكذا، في النهاية، كانت وجهة النظر الصهيونية، حتى في نسختها الأكثر ليبرالية، تعني أنه يمكن، في أحسن الأحوال، التسامح مع الفلسطينيين كأفراد في مساحات محدودة داخل فلسطين. وسيتم تحديد ذلك وفقا للمفاهيم الإسرائيلية للأمن القومي. في أسوأ الأحوال، فهم عقبة يجب إزالتها. مع مرور الوقت، تساءل معظم اليهود الإسرائيليين: “لـماذا نعمل من أجل تقليص وجودهم؟ لـماذا لا نتخلص منه تماما؟”
الانقسام بين دولة إسرائيل ودولة يهودا
كريس هيدجز: ومع ذلك، فإن هذه الشخصيات تمثل نزعة علمانية للصهيونية. أود منكم أن تتحدثوا قليلا عن يشاعياهو ليبوفيتز، الذي تعرفونه والذي ذكرت اسمه في التقديم. إنه يتحدث عن هذا الاتجاه الديني داخل الصهيونية ، حيث تصبح الأرض نفسها مقدسة ، باعتباره خطيرا بشكل خاص. أعتقد أنه يستخدم حتى كلمة “الفاشية”.
هناك هذا الانقسام. أبا إيبان [الممثل الدائم الأول لإسرائيل لدى الأمم المتحدة] ، على سبيل المثال ، كان يتحدث الإنجليزية بشكل أفضل مني. كان قد تلقى تعليمه في أكسفورد وكان رجلا أنيقا جدا. لذا أخبرنا قليلا عن هذا التوتر بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية. بطبيعة الحال، فإن الصهيونية الدينية الأرثوذكسية المتطرفة هي التي انتصرت في نهاية المطاف.
إيلان بابيه: نعم، أنا أسمي هذا التوتر، الذي تؤكده بحق، الصراع بين دولة إسرائيل ودولة يهودا. نمت فكرة دولة يهودا بين الجماعات الدينية الوطنية وأصبحت قوية بشكل خاص بعد عام 1967. إن المستوطنات في الضفة الغربية، وقبل ذلك، حتى في قطاع غزة، هي نوع من الحصار. لقد أصبحت قوة لا يستهان بها، وهي تجمع بالضبط ما كان يتحدث عنه ليبوفيتز ، وقد رآه يتشكل. بعد مرور الوقت، أود أن أقول إنه رآها وتنبأ بها وهذا يحسب له و لرصيده ـ و اليوم ، يتأكد لنا أنه كان على حق تماما.
إن دولة يهودا، التي يمكن تسميتها دولة الاستيطان، هي مزيج من الصهيونية المسيحية والتفسير الأصولي لليهودية. إن أصحاب هذا التيار يريدون إنشاء ثيوقراطية يكون فيها اليهود العلمانيون هم أيضا العدو، وليس الفلسطينيون فقط. لقد كانوا هامشيين واعتقدنا أنهم لا أهمية لهم، ثم أصبحوا اليوم قوة مركزية في إسرائيل. وضدهم تقف الآن دولة إسرائيل. هذا هو نوع إسرائيل ما قبل عام 1967 التي أرادت أن تكون ديمقراطية ليبرالية وتعددية وعلمانية. لكنها خسرت المعركة ضد دولة يهودا.
ما هو مثير للاهتمام ومحبط في هذا الصراع هو أنه لا يتعلق بالفلسطينيين على الإطلاق. كما تعلمون على الأرجح – وقد نسينا هذا بسبب الأحداث الدراماتيكية التي وقعت بعد 7 أكتوبر – ولكن حتى 7 أكتوبر، شهدنا في إسرائيل نوعا من الحرب الأهلية المصغرة التي أتحدث عنها بين الدولتين. دولة إسرائيل ودولة يهودا، حيث يتظاهر مئات الآلاف من الإسرائيليين العلمانيين كل يوم في محاولة للدفاع عن نوع إسرائيل الذي يريدونه.
ولكن عندما يسألهم المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل: “هل يمكننا الانضمام إليكم؟ وهل يمكننا تضمين رفض الاحتلال في نضالنا من أجل إسرائيل أفضل؟” فإنه يتم استبعادهم من هذه الحركة الاحتجاجية لأنها لا تعارض الاحتلال، ولم تعارض شبه الفصل العنصري أو الفصل العنصري الكامل في إسرائيل. يتعلق الأمر بتحديد نوع الفصل العنصري الذي تريده في إسرائيل. فصل عنصري ليبرالي وديمقراطي لليهود أم فصل عنصري ثيوقراطي لفائدة اليهود؟
لكن لسوء الحظ، لا يتطور النقاش حول القضية الرئيسية. السؤال الأهم الذي بدأنا به حديثنا هو: هل يمكننا فرض أنفسنا عسكريا وبالعنف على ملايين الأشخاص ضد إرادتهم؟
1948 والتطهير العرقي واسع النطاق
كريس هيدجز: أود أن أتحدث عن عام 1948، وحرب الاستقلال. كانت كل المشاريع الاستعمارية تفرض بالقوة، كما كان الحال في وقت سابق في الولايات المتحدة. الفرق هو أنه حتى عام 1600، على مدى 100 عام ، انقرض ما لا يقل عن 56 مليون من السكان الأصليين في أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية بسبب المرض أو العنف ، و بحلول عام 1600 بقي حوالي 10٪ فقط من السكان الأصليين لقد سمحت هذه الإبادة الجماعية بشكل أساسي لمشروع الاستعمار بالاستمرار لأنه لا توجد معارضة أمامه و هذا ليس هو الحال في إسرائيل.
يعيش حوالي 5.5 مليون فلسطيني تحت الاحتلال و9 ملايين في الشتات. لقد كانت هذه مشكلة كبيرة للقادة الإسرائيليين منذ إنشاء دولة إسرائيل. كيف سيتعاملون معها؟ إن القنبلة الديموغرافية الموقوتة حقيقية: العرب لديهم عائلات كبيرة وهناك هجرة ضخمة للأدمغة التي تغادر إسرائيل. أعتقد أن هناك مليون إسرائيلي يعيشون في الولايات المتحدة. لكن دعونا نلقي نظرة على عام 1948 وكيف تعاملوا مع المشكلة. ثم سنذهب إلى عام 1967، عندما احتلت إسرائيل ما تبقى من فلسطين والضفة الغربية وغزة.
إيلان بابيه: نعم، كما تقول بحق، فإن المشاريع الاستعمارية للمستوطنين تنطوي دائما على هذين البُعدين: الجغرافي والديموغرافي، أو إذا كنت تريد السيطرة على مناطق مأهولة بالسكان، فأنت تريد في الحقيقة أرضا بدون سكان. وكلما زاد عدد الأراضي التي تستولي عليها زاد عدد السكان غير المرغوب فيهم. لذلك استغل القادة الصهاينة نهاية الانتداب. وهكذا، في عام 1948، استغل القادة الصهاينة نهاية الانتداب والظروف التي تطورت في المنطقة والعالم بعد ثلاث سنوات من المحرقة للقيام بإبادة عرقية واسعة النطاق. وبقي نصف اللاجئين الفلسطينيين، وطرد النصف الآخر من السكان الفلسطينيين. ودمرت نصف القرى الفلسطينية، أي أكثر من 500 قرية، وهدمت معظم البلدات الفلسطينية.
داخل الحدود التي أنشئت بعد عام 1948 – أي إسرائيل اليوم بدون الضفة الغربية وقطاع غزة – لم تتمكن إسرائيل من تنفيذ تطهير عرقي. كانت هناك أقلية فلسطينية صغيرة نسبيا لا تعرض الأغلبية الديموغرافية لليهود للخطر. لذلك كان من الممكن أن تكون هناك دولة ديموغرافية، لأنه كان من المعروف دائما أن الديمقراطية والديموغرافيا يسيران جنبا إلى جنب. ومع ذلك، بسبب جنون العظمة لدى ديفيد بن غوريون حتى عام 1966، على الرغم من أن الفلسطينيين في إسرائيل كان لهم الحق في التصويت والترشح، إلا أنهم كانوا يخضعون لحكم عسكري قاسي جدا.
ليس من المستغرب أن بن غوريون، المهندس الكبير للتطهير العرقي عام 1948، حاول الضغط على حكومة إسرائيل. كان قد تقاعد بالفعل من السياسة في عام 1963، ولكن بعد يونيو 1967 حاول إقناع الحكومة الإسرائيلية بالانسحاب من الضفة الغربية، وقال لها بشكل أساسي: “لقد تمكنت من التخلص من حوالي مليون فلسطيني، والآن أنتم تضمون عددا أكبر من الفلسطينيين تحت سلطتكم”. إن القادة الذين تبعوه – بعضهم كانوا جنرالات شباب خلال حرب 1948 وسياسيين آخرين مثل ليفي إشكول وأبا إيبان وتيدي كوليك الذين ذكرتهم بالفعل – كانوا يعتقدون أنه لا توجد حاجة للتطهير العرقي الشامل من أجل الحفاظ على التركيبة السكانية بطريقة لا تعرض الديمقراطية اليهودية للخطر.
فماذا فعلوا؟ قرروا إبقاء ملايين الأشخاص في الضفة الغربية وقطاع غزة دون الحق في المشاركة في النظام السياسي الإسرائيلي. عندما قال لهم البعض: “حسنا، هذا جيد، ولكن في المقابل، هل يمكنكم إعطاء الفلسطينيين الحق في تقرير مستقبلهم في دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة؟” لم يقبلوا ذلك أيضا.
إنهم اعتقدوا أن بإمكانهم احتواء الطموح الوطني الفلسطيني والمقاومة في إطار فكرة الضفة الغربية وقطاع غزة اللذان سيكونان جيوبنا التي تسيطر عليهما إسرائيل، مع جرعة من الحكم الذاتي للفلسطينيين في الداخل، وإقناع العالم بأن هذا هو الحل الأفضل وحتى تسميته نوعا من حل الدولتين. بالطبع، هذا لا علاقة له بحل الدولتين.
من الناحية التاريخية، إنها دائما نفس المشكلة، كما تقول بحق، كريس ، هي الرغبة في الأرض بدون الشعب ، ولكن بسبب الظروف والأشياء التي تغيرت ، فإن عام 1948 ليس هو عام 1967 و 1967 ليس هو عام 2023 ، وبسبب ذلك ، فإن طرق الحفاظ على هذا التوازن بين الإقليم والسكان تتغير. لكن الرؤية هي نفسها دائما، والهدف لا يزال هو نفسه، والإخفاقات هي نفسها.
الطرد الجماعي لم ينجح. إن فكرة إبقاء الناس دون حقوق المواطنة غير مجدية، وحتى فكرة وضعهم تحت الحصار، كما رأينا قبل 7 أكتوبر، لا تنفع . وأيا كان ما يدور في ذهن الإسرائيليين بالنسبة لغزة، يمكنني أن أؤكد لكم، دون أن أعرف كيف ستؤول الأمور، أنها ستكون فشلا ذريعا، ستكون للأسف التكلفة البشرية باهظة جدا وخاصة بالنسبة للفلسطينيين.
1967 بداية نظام الفصل العنصري
كريس هيدجز: يرى ليبويتز أن حرب عام 1967، التي استولت فيها إسرائيل على الأراضي المتبقية من الفلسطينيين، هي جوهر المسألة. هو يعرّف نفسه بأنه صهيوني. ويبدو أنه يعتقد أن حدود ما قبل عام 1967، والمعروفة باسم الخط الأخضر، يمكن أن تنجح. ولكن بالنسبة له، فإن عام 1967 ورفض القادة الإسرائيليين التخلي عن الاحتلال أو العودة إلى حدود ما قبل عام 1967 يعني من نواح كثيرة موت الديمقراطية والمجتمع المدني الإسرائيليين، كما كان يدافع عن ذلك بكل حماس. هل يمكنك شرح ذلك؟
إيلان بابيه: بادئ ذي بدء، أود أن أقول إن بذور هذه النهاية أو الانفجار الداخلي قد زرعت قبل ذلك بكثير ، في عشرينيات القرن العشرين. لكن دعونا نتبع هذه الأطروحة، على الرغم من أنني أعتقد أنه كان محكوما عليها بالفشل منذ البداية. ولكن ليس هناك شك في أن احتلال عام 1967 سرع هذه العمليات من خلال إنشاء نظام قانوني وسياسي وثقافي يبرر الانتهاك اليومي لحقوق الإنسان والحقوق المدنية للفلسطينيين، على الأقل داخل إسرائيل. في إسرائيل قبل عام 1967، كانت هناك محاولة مستمرة لتحسين وضع المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. وكما قلنا، كان لهم الحق في التصويت، وأن يُنتخبوا، وفي نهاية المطاف سمح لهم حتى بتأسيس أحزابهم الوطنية، إلخ.
ولكن في الوقت نفسه، كانت الضفة الغربية وقطاع غزة يتوجهان نحو مستقبل مختلف هو بناء لا نهاية له لسجنين ضخمين في الهواء الطلق: أحدهما في الضفة الغربية والآخر في قطاع غزة ، يديرهما مئات الآلاف من الإسرائيليين. كان عليهم المشاركة في صيانة هذا السجن الضخم من خلال الحفاظ على النظام لملايين الأشخاص كل يوم. لقد حذّر ليبوفيتز كوليك وأبا من نقطة اختلافه معهما. وهي الفرضية القائلة بأنه يمكن الفصل بين الاثنين ومن الاعتقاد أنه ستكون هناك إسرائيل الديمقراطية والليبرالية والتعددية، داخل حدود ما قبل عام 1967، وأنه سيكون هناك فضاء أقل سعادة وأقل حظا، ولكن يمكننا أن نفلح في تدبيره، خارج الخط الأخضر، خارج حدود إسرائيل.
لقد كان محقا في تحذيره من أنه لا يمكن احتواء ذلك الفضاء، وأنه سيمتد إلى إسرائيل، وأنه لن يكون لدينا كيانان في نهاية المطاف، أي إسرائيل ليبرالية وديمقراطية إلى جانب فلسطين المحتلة.
لا، في نهاية المطاف، أصبح لدينا نظام فصل عنصري قد يكون له تنوع في الطريقة التي يسيطر بها على حياة الفلسطينيين، ولكن في جوهره، كما قالت هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية مؤخرا، يحكمه الفصل والتمييز والقمع. لا يهم إذا كنا نتحدث عن تل أبيب وحيفا، أو نابلس وغزة. لقد أصبحت دولة عضوية يخضع فيها الفلسطينيون لـمجموعة متنوعة من الأنظمة القانونية والعسكرية التي تنتهك الحقوق المدنية والإنسانية الأساسية.
كريس هيدجز: أود فقط أن أقول إن عرب إسرائيل، على الرغم من اتخاذ خطوات لإدماجهم قبل عام 1967، لم يشتغلوا في الجيش أو في وحدات الاستخبارات. هذا صحيح ، أليس كذلك؟
إيلان بابيه: نعم.
تربيع الدائرة – القيم العالمية أو القمع
كريس هيدجز: بالنسبة لليبوفيتز، لا يقتصر الأمر على أن احتلال غير مستدام، بل هو أيضا ما يفعله، وكيف يشوه المجتمع الإسرائيلي. أتساءل عما إذا كان بإمكانك إخبارنا بما حدث. أنا مهتم بشكل خاص بمعرفة لـمـاذا تعتقد أن هؤلاء المتعصبين الصهاينة، هؤلاء المتعصبين والفاشيين، هؤلاء الأشخاص حول نتنياهو، قد اكتسبوا كل هذا النفوذ؟
إيلان بابيه: أعتقد أن هناك أزمتين تعملان هنا. الأول هو ما يمكن تسميته باليسار الصهيوني. هذه المحاولة لتربيع الدائرة، والتي تتكون من الاعتقاد أنه يمكن للمرء أن يكون محتلا واشتراكيا أو ليبراليا. فشلت هذه المحاولة في كثير من النواحي. أولا، لم يقتنع الفلسطينيون بهذا الهراء. لقد أدركوا، كما قلت ذات مرة، أنه عندما يضع صهيوني حذاءه فوق وجهك، لا يهم إذا كان يحمل كتاب ماركس أو الكتاب المقدس، ما يهم هو الحذاء. أعتقد أن هذا أحد أسباب فشل اليسار الصهيوني.
ثانيا، شعر الناخبون اليهود الإسرائيليون أن هذه كانت خدعة. قالوا: “أنتم تفكرون مثلنا، لكنكم تتمنون أن تكون الأمور أحسن. تمنيتم لو أن العالم لم يدرك ذلك تماما. أنتم لا تريدون فقدان شرعيتكم الدولية. ليس لأن لديكم نهج أخلاقي مختلف، ولكن لديكم نهج أكثر وظيفية “. وهذا لم يقنع الناخبين اليهود.
لذلك كانت الأزمة الأولى هي ما أسميه عدم القدرة على تربيع الدائرة ، وأخذ القيم العالمية ومحاولة إ رغامها على التعايش مع قيم الاستعمار والقمع.
الأزمة الثانية، التي لا تقل أهمية، هي فشل أو انهيار فكرة أن اليهودية يمكن إعادة تكييفها بصفتها قومية. لقد حاولوا خلق ثقافة يهودية، هوية يهودية، علمانية، لكنها لم تنجح. وقد تحققت بعض النجاحات. ليس هناك شك في وجود ثقافة عبرية. أنا أحلم بالعبرية والعبرية هي لغتي الأم ولذا فأنا أدرك تماما نجاح الصهيونية في خلق ثقافة عبرية. لكن الثقافة العبرية ليست بديلا عن اليهودية. إنها خلقت ثقافة حول اللغة، لكنها لا تتمتع بقوة الانتماء الديني.
ما حدث هو أنه بينما كان لدى اليهود المتدينين فكرة واضحة عن ماهية اليهودية، لم يعرف اليهود الإسرائيليون أبدا ما يعنيه أن تكون يهوديا إسرائيليا. كما تعلمون على الأرجح، على بطاقات هويتنا، جنسيتنا ليست إسرائيلية. لا، الإسرائيليون لديهم هوية وطنية، هوية كونهم إسرائيليين.
على بطاقة هويتي مكتوب أن جنسيتي يهودية، وعلى بطاقة هوية جاري وهو فلسطيني إسرائيلي تقول إن جنسيته مسلم وليس فلسطيني أو مسيحي. إنهم يحاولون فرض فكرة أنهم يستطيعون اللعب بالهويات الدينية وحتى فرضها على المسيحيين والمسلمين. هذا لا ينجح أبدا. وأعتقد أن محاولة خلق هوية دولة مساوية للهوية الدينية في العالم الحديث لا تجدي نفعا في أي مكان في العالم.
أدت هذه الأزمة إلى عودة العديد من اليهود الإسرائيليين إلى اليهودية كديانة، بما في ذلك اليهود العرب الذين كانوا أكثر تقليدية على أي حال. ثم طرحوا على أنفسهم أسئلة مشابهة لتلك التي تثار في الإسلام السياسي. هل يمكننا نقل الكتب المقدسة اليهودية إلى الوثائق السياسية في عصرنا؟ هل يمكننا فرض تعاليم الديانة في المجال العام، في سياسة الدولة، داخليا وخارجيا؟ بالنسبة للإسرائيليين العلمانيين، هذا شيء لا يمكنهم استيعابه ولكن ليس لديهم إجابة صحيحة حقا. ماذا يعني إذا أن تكون يهوديا إذا لم تكن يهوديا متدينا؟ من هو اليهودي العلماني؟ من هو المسلم العلماني؟ أو الـمسيحي العلماني؟ إنها أزمة قد تكون موجودة في أماكن أخرى، ولكن ليس مثل طنجرة الضغط هذه في إسرائيل حيث تصبح هذه الـمواضيع حيوية ووجودية.
كريس هيدجز: عندما تحدث ثوسيديدس عن توسع الإمبراطورية الأثينية ، كتب أن “الطغيان الذي فرضته أثينا على الآخرين ، فرضته في النهاية على نفسها”. إلى أي مدى يفرض الطغيان الذي فرضته إسرائيل على الفلسطينيين المحتلين نفسه الآن على إسرائيل بنفسها؟
إيلان بابيه: كانت لدينا مؤشرات واضحة. كانت موجودة بالفعل، لكنني أعتقد أن 7 أكتوبر كان ذريعة لتوجيه هذا الطغيان ضد المواطنين الإسرائيليين ذوي التفكير الحر الذين، وهذا أمر بديهي، هم يهود أيضا. لدينا حالة واضحة في شخص مدرس التاريخ في lمديمة ببتاح تيكفا (الذي طرد من عمله لأنه قال إن الجنود الإسرائيليين “يغتصبون النساء الفلسطينيات منذ عام 1948″، وإن الشعوب المحتلة لها الحق في القيام بكل ما هو ضروري لتحرير نفسها.)
لقد شارك مع تلامذته فقط وجهات نظر بديلة لتلك التي يسمعونها في وسائل الإعلام الإسرائيلية. تم اعتقاله لبضعة أيام قبل إطلاق سراحه. إن أي محاولة من قبل المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل أو المواطنين الإسرائيليين المناهضين للصهيونية للتعبير عن شكوكهم أو حتى القول بأن سياق 7 أكتوبر يجب أن يفهم تعتبرها الشرطة تحريضا على الإرهاب. كما يعلم جميع المؤرخين، من الـمؤكد ألا يقتصر هذا أبدا على مجموعة معينة من الناس. لذلك ينتهي الأمر باستخدام تلك القوة ضد الشعب وما يهم هو الشخص الذي يستخدم السلطة.
يوجد بعض علماء الاجتماع الناقدين في إسرائيل، وأنا لست واحدا منهم، لكنهم اتبعوا الطريقة التي تعتمدها الآن المستويات العليا لجهاز الأمن الإسرائيلي والمستويات العليا للجيش، ما أسميه دولة يهودا، أي المستوطنين. يحتل المستوطنون المتدينون الآن موقعا مهما للغاية. المثال النهائي هو، بالطبع، إرهابي دولة يهودا، بن غفير، الذي يشغل منصب وزير الأمن الداخلي.
لذلك هناك أيضا شخص في القمة لا يتردد في أن يستخدم ضد الإسرائيليين الذين يفكرون بحرية، سواء كانوا يهودا أو عربا، نفس الوسائل التي يريد استخدامها ضد الفلسطينيين. على الرغم من أنه أضحوكة إلى حد ما بالنسبة إلى مرؤوسيه، إلا أن هناك أشخاصا مهمين تحت قيادته يعملون بالفعل في الوظيفة العمومية ولم يتم انتخابهم سياسيا. لكنهم يأتون من هذه الحاضنة الأيديولوجية التي ترى أشخاصا مثلي خطرا مثل أي فلسطيني، وهذا شيء ينتشر الآن في إسرائيل.
7 أكتوبر – العواقب المباشرة
كريس هيدجز: لنتحدث عن 7 أكتوبر، سواء آثاره على المستوى الجزئي ، وكمؤرخ ، على المستوى العام.
إيلان بابيه: التأثير على المستوى الجزئي غريب حقا وأنا أحاول فهم ذلك. لقد بدأت أدرك قليلا. لنبدأ بالمجتمع الإسرائيلي اليهودي. هناك هذا المزيج الغريب من عدم التصديق المطلق في قدرة الدولة اليهودية على الدفاع عن مواطنيها أو حتى تزويدهم بالخدمات الأساسية. لذا فهو انهيار كامل للثقة في قدرة الدولة على تلبية حاجيات الناس. هذا ليس فقط لأن الجيش فشل في الدفاع عنهم، ولكن أيضا لأن الدولة لم تعد موجودة بعد 7 أكتوبر. لا أعرف إلى أي مدى يدرك الناس ذلك، لكن الدولة لم تعمل منذ حوالي شهرين، لا اجتماعيا ولا اقتصاديا. وقد تكلف المجتمع المدني بأدوارها. لم تساعد الحكومة المرحّلين من الشمال أو الجنوب على الإطلاق.
لذلك، من ناحية، هناك انهيار الثقة في الدولة. ومن ناحية أخرى، توجد مساندة كاملة لسياسات الإبادة الجماعية في غزة. إنه تناقض لكن يمكننا أن نفهم من أين يأتي. هذا هو أحد الآثار الصغيرة: بعد يوم 7 أكتوبر أصبح المجتمع الإسرائيلي اليهودي في إسرائيل أكثر تعنتا وثيوقراطيا وأكثر تعصبا.
فيما يتعلق بالفلسطينيين، أعتقد أنه سيتعين على الحركة الوطنية الفلسطينية أيضا أن تسأل نفسها بعض الأسئلة الكبيرة، لأنها مسؤولية ثقيلة أن تنظم عملية بهذا الحجم وربما تكون لديها معرفة مسبقة بما سيكون عليه رد الفعل الإسرائيلي.
لقد ساهمتُ في ندوة عبر الإنترنت مع بعض اللبنانيين وتحدثنا عن ذلك، وأعتقد أن هناك أوجه تشابه. قال لي بعضهم “لكن حماس كانت تبني نوعا ما فرضياتها على إرث عام 2000، عندما تمكن حزب الله بشجاعة من طرد الجيش الإسرائيلي من لبنان”. هذا مثال على مجموعة شبه عسكرية عربية تمكنت من التنافس مع قوة الجيش الإسرائيلي. لكنني قلت، “نعم، ولكن هناك إرث آخر وهو إرث عام 2006، عندما قال حسن نصر الله، زعيم حزب الله: “لو كنت أعرف أن رد الفعل الإسرائيلي على اختطاف ثلاثة جنود سيكون تدمير بيروت، لـما أمرت بهذه العملية”.
لذلك فهو تحدث عن المسؤولية: عندما تتبع استراتيجية ، فأنت مسؤول أيضا عن جنودك سيكون من المفيد أن نرى كيف سيكون رد فعل الفلسطينيين على الرد الإسرائيلي، الذي من الواضح أنه يتجاوز قدراتهم. أعتقد أنهم تمكنوا من تعبئة الرأي العام لإظهار أن التضامن المتزايد مع الفلسطينيين لا يضعف، سواء أدان المرء عملية أكتوبر أم لا.
الآن دعنا نتحدث عن المستوى الكلي. المستوى الكلي هو أن إسرائيل لن تهزم حماس بسهولة وستتعثر. من أجل الحفاظ على شكل من أشكال النجاح والنصر، سيتعين عليهم البقاء هناك لسنوات في احتلال مباشر. يمكن أن يتطور هذا الوضع بسهولة إلى انتفاضة في الضفة الغربية وهجوم من طرف قبل حزب الله من الشمال، ومن يدري، حتى التيارات الخفية في العالم العربي التي من شأنها أن تغير التسامح العربي مع إسرائيل الذي رأيناه حتى الآن. يمكن أن يتحول هذا الوضع إلى حرب إقليمية شاملة وهذا هو السيناريو القاتم.
إن السيناريو الأكثر إيجابية على المستوى الكلي هو أن المجتمع المدني، الذي أصبح الآن متعاطفا مع الفلسطينيين بل وحتى يدعم مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها، قد ينجح في إقناع بعض الحكومات في الشمال، وبالتأكيد في الجنوب، بتجاوز تصرفات المجتمع المدني وفرض العقوبات والضغط على إسرائيل. قد يكون هناك تصور جديد تماما يتطور حول الحاجة إلى الضغط على إسرائيل للتخلي عن سياساتها الاستعلائية وعن القمع، وما إلى ذلك.
ومن السابق لأوانه الحكم على أي من هاتين الفرضيتين ستحدث. بل قد تحدث الاثنان معا بالتوازي، أي أنه كلما أصبحت المنطقة أكثر عنفا، كلما كان المجتمع الدولي أكثر استعدادا لتغيير تصوراته الأساسية لجوهر المشكلة وكيفية معالجتها.
كريس هيدجز: لكن أليست واشنطن هي المفتاح؟ أعني أن إسرائيل، مثل الولايات المتحدة، تواجه بالفعل هذه القضية. كلاهما دولتان منبوذتان، كما رأينا في التصويت في الأمم المتحدة. طالما أن إسرائيل تحظى بدعم واشنطن غير المشروط، يمكنها تحمل أي شكل من أشكال الضغط، أليس كذلك؟
إيلان بابيه: هذا سؤال مهم جدا، لأنني أعتقد أن الجنوب لديه قوة أيضا. ومؤخرا، في سبتمبر، قمت بالتدريس في جامعة صينية، وكان من الواضح جدا أن الصين، على سبيل المثال، لا تزال مترددة في التورط في قضية فلسطين. ذلك لأن السياسة الخارجية الصينية، على عكس الطريقة التي يتم تصويرها بها في أمريكا، مهتمة بالمكاسب الاقتصادية أكثر من أي شيء آخر. فلسطين بالتأكيد ليست منجم ذهب اقتصادي في الوقت الراهن. لذلك لا أعتقد أنهم سيشاركون كثيرا في الموضوع.
لكنني أعتقد أن هناك قوى أخرى على الخريطة الدولية يمكنها تحدي الهيمنة الأمريكية على قضية فلسطين، هذه نقطة أولى. ثانيا، نعم، لا تزال أميركا عنصرا أساسيا. ومع ذلك، هناك شيء ما يحدث في المجتمع المدني الأمريكي.
يحب الإسرائيليون والأمريكيون المؤيدون لإسرائيل أن يسموا هذا صعودا لمعاداة السامية الجديدة، وهو تحليل سطحي للغاية لأن جيل الشباب من الأمريكيين هم من ناحية أكثر اطلاعا بكثير من الجيل السابق على ما يحدث في فلسطين ومن ناحية أخرى ، هم أكثر انخراطا. قد يقول البعض إنهم سذج، لكنهم أكثر التزاما بالأبعاد الأخلاقية للسياسات الخارجية والأمنية. وهذا يشمل قطاعات واسعة من الجالية اليهودية الأمريكية الشابة. لذلك لست متأكدا من أن هذه النظرة الحتمية للسياسة الأمريكية هي النهج الصحيح. أعتقد أن هناك أيضا فرصة لتغيير سياسة الولايات المتحدة.
تحالفان مختلفان
لكنني أعتقد ،يا كريس ، أن الأمر الأكثر ترجيحا هو القول إن هناك الآن تحالفين فيما يتعلق بفلسطين. واحد منهما هو ما أسميه إسرائيل العالمية. وهو يتألف من الحكومات الغربية، والشركات متعددة الجنسيات، والصناعات العسكرية، والصناعات الأمنية، والمسيحية الصهيونية واليهود الذين يواصلون منح إسرائيل الحصانة بعد كل ما تفعله تقريبا، تلقائيا ، كنوع من أنواع الإيمان.
و أمام هذا التحالف هناك فلسطين العالمية، وهو تحالف يتألف من مجتمعات مدنية وبعض الحكومات في الجنوب العالمي الذين ليسوا فقط مؤيدين للفلسطينيين، ولكنهم يؤمنون حقا بأن النضال من أجل العدالة في فلسطين يرتبط ارتباطا وثيقا بنضالاتهم ضد الظلم في مجتمعاتهم. هذا هو جيل الشباب في العالم..
أعتقد أن هذا الصراع يتجاوز فلسطين. إنه يربط بين القضايا البيئية وقضايا الفقر وقضايا حقوق الأقليات في فلسطين وما إلى ذلك، وبالتالي لا أعتقد أن ميزان القوى يتعلق فقط بالولايات المتحدة مقابل بقية العالم. أعتقد أن هناك تحالفات عالمية أكثر تعقيدا، لا تتعلق فقط بفلسطين. أرى بروز هذا النزاع بشكل رئيسي في حالة فلسطين لأنني مهتم بها. لكنني متأكد من أنه يمكن رؤيته أيضا في أماكن أخرى من النزاعات وحيثما لا تزال الصراعات مستعرة.
نظرة على غزة
كريس هيدجز: أخيرا، دعونا نلقي نظرة على الوضع في غزة. في البداية أود أن أتحدث عن النوايا. تقول الأمم المتحدة إن نصف سكان غزة معرضون الآن لخطر المجاعة. كنت في سراييفو أثناء الحرب، كان هناك 300 إلى 400 قذيفة تسقط في اليوم على المدينة والنتيجة هي أربعة إلى خمسة قتلى في اليوم وحوالي عشرين جريحا. هذه مجرد مقارنة. ولا أريد أن أقلل من شأن ما حدث في سراييفو؛ و لا زلت أشكو من كوابيس هذه التجربة. لكن هذا لا شيء مقارنة بما يحدث في غزة من حيث مستوى القصف.
ما هي النوايا ؟ هل هي مسألة الرغبة في اختلاق أزمة إنسانية من الحجم بحيث يضطر المجتمع الدولي إلى التدخل ويصبح شريكا في الإبادة؟ ماذا ترى؟ أنت تعرف أفضل مني عقلية الحاشية حول نتنياهو.
إيلان بابيه: حسنا، أولا وقبل كل شيء، أعتقد أنه في البداية، كان الإصرار على الانتقام أكثر من التخطيط الدقيق للغاية. لا ينبغي أن يعزى كل شيء إلى التخطيط الواضح والمنهجي. مع مرور الأيام، أصبح من الواضح لمجموعة واحدة على الأقل من صانعي السياسة الذين اعتقدوا أن الحرب كانت ذريعة للتخلص من غزة وأن هناك حاجة إلى تخطيط أكثر دقة ومنهجية. وهكذا، فإن النتيجة، بالنسبة لهم، هي إخلاء أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من قطاع غزة، إما إلى مصر أو إلى مناطق أخرى من العالم، لأنه إذا لم تكن السيطرة على قطاع غزة مستدامة اليوم، فستكون أقل استدامة في المستقبل. أعتقد أن هناك طائفة بين صانعي السياسة الإسرائيليين الذين يعتقدون أن لديهم القدرة على فعل ذلك.
وهناك أشخاص أكثر اعتدالا، أو في رأيي أكثر براغماتية، مثل بنيامين غانتس وغادي آيزنكوت، الذين انضموا إلى الحكومة في اللحظة الأخيرة قادمين من المعارضة. لا أعرف ماذا سيكون تأثيرهم في اليوم التالي. ولكن إذا كانوا لا يزالون مؤثرين في اليوم التالي لنهاية الحرب، فإن لديهم هدفا معينا في أذهانهم، وهو ضم جزء من قطاع غزة مباشرة إلى إسرائيل. وهذا من شأنه أن يترك مساحة صغيرة من الأرض مع عدد كبير من الناس والأمل في أن يدير طرف آخر الشؤون الداخلية لغزة، سواء كانت السلطة الوطنية الفلسطينية أو قوة متعددة الجنسيات.
لكنهم لا يعتقدون أنه من الممكن حتى مناقشة السيناريوهات لليوم التالي قبل أن يدركوا ما وعدوا به للجمهور الإسرائيلي، وهذا شيء لا يمكنهم تحقيقه. هذا أحد أسباب المذبحة التي نراها، لأنهم يريدون صورة النصر هذه. وهي صورة النصر التي تظهر أن حماس لم يعد لها وجود في غزة، أو على الأقل أنها لم تعد مرئية كقوة عسكرية. لا أعتقد أنهم يستطيعون النجاح في تحقيق هذا المبتغى ولكنهم ما زالوا يؤمنون به.
وإلى أن يحدث ذلك، فإنهم يحاولون بلا هوادة، [مما يعرض حياة ما يقرب من 130 رهينة إسرائيلية لا تزال تحتجزهم حماس في قطاع غزة للخطر]. وهم يزعمون أن الهدفين لـما يسمونه المناورة البرية هما تدمير حماس كقوة عسكرية وإنقاذ الرهائن. والطريقة التي يتصرفون بها توضح أنهم تخلوا عن الرهائن.
لكنهم ما زالوا يعتقدون أن لديهم القدرة على الحصول على الصورة التي يريدونها، إما السنوار ميتا أو السنوار مطرودا، مثل ما حدث في لبنان في عام 1982 عند مغادرة ياسر عرفات إلى تونس رفقة بقية القيادة الفلسطينية. هذه هي السيناريوهات التي لديهم وكل الوسائل تبدو مبررة في نظرهم لتحقيقها.
مستقبل قاتم لإسرائيل؟
كريس هيدجز: إذن أنت تقول إنهم لن يفلحوا. ماذا يحدث إذا لم يفلحوا ؟
إيلان بابيه: هذا ما أردت قوله من قبل. ما سيحدث هو أنهم سيظلون عالقين هناك لفترة أطول بكثير مما يعتقدون، ويشاركون في حرب عصابات أطول بكثير مما يعتقدون، وبالتالي يخاطرون بالتصعيد في أي لحظة ويمكن أن يستدرجوا عوامل أخرى ولاعبين آخرين إلى هذا الصراع، مع عواقب وخيمة على إسرائيل نفسها.
هل يمكنك أن تتخيل يا كريس ماذا كان سيحدث لو نسق حزب الله مع حماس في 7 أكتوبر هجوما مماثلا على الشمال؟ تذكر أن المشكلة العسكرية الرئيسية لإسرائيل كانت أن معظم جيشها كان في الضفة الغربية يدافع عن المستوطنين ويساعدهم في عملية الإبادة هناك. لذلك لم يكن عدد كاف من الجنود في الشمال ولم يكن هناك عدد كاف من الجنود على حدود غزة لـمنع عملية مثل تلك التي نفذتها حماس. تخيلوا ماذا كان سيحدث لو انضم حزب الله إلى العملية. كيف كان بإمكان إسرائيل التعامل مع هذا السيناريو؟ بطريقة ما، لم يتعلم السياسيون الإسرائيليون هذا الدرس.
لذلك أعتقد أنهم سيجرّون إسرائيل إلى مستقبل قاتم للغاية، حتى بالنسبة للإسرائيليين أنفسهم، من حيث الخسائر في الأرواح والعزلة الدولية والأزمة الاقتصادية. إن الاعتماد بشكل دائم على الكونغرس الأمريكي ليس أفضل وأقوى ركيزة في العالم لبناء مستقبل جيل الشباب وإقناعهم أنهم يعيشون في أفضل مكان يمكن أن يكون فيه اليهود في العالم الآن. بطريقة ما ، إنهم يحفرون قبرهم بأنفسهم ، لأنهم لا يريدون أن يروا ما هي المشكلة وما هو الثمن إذا كانوا يريدون حقا بناء مستقبل مختلف.