يشرح المؤرخ والجامعي المعطي منجب أن أزمة “كورونا” كشفت أن “للمغرب إدارة قوية نسبيا لما تتوفر الإرادة السياسية لتفعيل أجهزتها ومواردها البشرية وأن هناك تعاضد وتضامن بين المغاربة. كما أظهرت أرقام وزارة المالية الخاصة بالدعم أن أكثر من نصف المغاربة يعيش وضعية فقر مدقع أو هشاشة”.

ويعتقد منجب في حوار مع موقع “لكم” أن “بعض مراكز القوى داخل الدولة تحاول استغلال ظروف الجائحة التي تفرض على المجتمع المدني نوعا من الشلل لتصفية حساباتها مع المنتقدين وشن حملة تشهيرية ضد آخرين”.

ويتوقع منجب أن “تزيد الدولة خلال الزمن التالي للجائحة من تصرفها السلطوي وقد شجعها نجاحها في السيطرة على أزمة الجائحة وبروز نوع من الوحدة الوطنية الظاهرية حول النظام”.

وفي ما يلي نص الحوار

ماذا تعني لك الجائحة و الحجر الصحي الذي يرافقها؟

كل هذا يُخيِل لي أن الأخر أصبح يمثل الخطر. وهذا شيء مخيف ومفاجيء لي حقا. إنه شيء جديد تماما بالنسبة لي. فقد اعتقدت دائما في الحكمة الإفريقية التي تقول: الإنسان ترياق الإنسان. طبعا هذا سيدوم مادام الحجر. ولا أنسى أن الإنسان كذلك هو من سيجد مخرجا سيبعدنا في الأخير من هذا الخطر المحدق بنا في كل آن وحين.

ما الذي تنشغل به يوميا في الحجر الصحي؟

أقوم بتمارين بدنية كل يوم حوالي ساعة ونصف. كما أني أقضي حوالي ثلاثة أرباع ساعة كل يوم بالمطبخ لطهي الطعام وهذا تمرين كذلك وإن كان خفيفا. كما أقضي معظم ساعات يومي في القراءة.

قرأت كتبا صدرت مؤخرا ككتاب عبد المجيد قدوري عن عبد الله العروي كما قرأت بعض الكتب التي كنت أريد قراءتها منذ سنوات طويلة وأتاح لي الحجر قراءتها في الأخير ككتاب عبد الله حمودي “الشيخ والمريد” وهو يحلل فيه خطاطة السلطة في المغرب، وكتاب عبد العزيز بنبين في نسخته الإنجليزية عن جحيم سجن تازمامارت. هذا الأخير الذي وضع فيه الحسن الثاني أعداءه، وكثير منهم أبرياء تماما ومن بين هؤلاء بنبين، لمدة تقارب العشرين سنة، كلها أنين وآلام لا يمكن أن يتخيلها إنسان لم يعشها، حتى أن حوالي نصف المختطفين مات قبل أن تضطر حملة دولية حقوقية وإعلامية، الحسن الثاني لإطلاق سراحهم سنة 1991. المدهش أن والد بنبين كان صديقا مقربا من الحسن الثاني بل ومرافقه ومضحكه الدائم، الملك يعذب ابنه ويبكيه كل يوم وهو يضحكه كل يوم، هذا واقع لا يستساغ، ولا أعرف حدثا مثله في التاريخ السياسي خصوصا وأن هذه الحال استمرت حوالي عقدين من الزمن. إن المجتمع المخزني لغريب الأطوار والقيم حقا.

وماذا عن البحث والتأليف؟

بالنسبة للكتابة في الحقيقة أقرأ أكثر ما أكتب.. كتبتُ بعض المقالات القصيرة على علاقة بكورونا أو وضعية حقوق الإنسان ونشرتها بالصحافة المغربية أو الدولية. كما أني اكتب الآن تصديرا لأحدى روائع الأدب العالمي وهي “مذكرات ثائر” لفيكتور سيرج وهو روسي-بلجيكي. إنه أحد كبار مثقفي الثورة الأمميين البلاشفة. كان صديقا لتروتسكي وللينين وزينوڤييڤ وهم يمثلون الترويكا القيادية الأساسية للبلاشفة بالإضافة إلى كامينيڤ.. إلا أن المفكر الحر سيرج عانى الكثير بسبب مناهضته للتوجه السلطوي لقياديي الثورة كما سيعزله ستالين من الحزب بعد أن تحكم في الدولة السوفياتية ثم سجنه بالجولاج في بداية الثلاثينيات. هذه المذكرات الرائعة والطويلة كانت قد نشرت منذ سبعين سنة بالفرنسية، أشرفتُ على ترجمتها التي دامت سنوات، وأنا الآن اجري المراجعة الأخيرة لنصوصها قبل خروجها للقراء.

وما قراءتك لما يقع اليوم في المغرب وما الذي كشفته هاته الأزمة؟

الأزمة كشفت أولا أن للمغرب إدارة قوية نسبيا لما تتوفر الإرادة السياسية لتفعيل أجهزتها ومواردها البشرية وأن هناك تعاضد وتضامن بين المغاربة. كما أظهرت أرقام وزارة المالية الخاصة بالدعم أن أكثر من نصف المغاربة يعيش وضعية فقر مدقع أو هشاشة.

الجائحة أبرزت كذلك أن بعض الموظفين الساهرين على تطبيق القانون يكنون احتقارا كبيرا للشعب ولا يحترمون دائما روح القانون في محاولتهم فرض الإجراءات الاحترازية، وهذا أمر صعب طبعا، ولكن أن يصل بهم الغضب المفهوم إلى التهور والتعنيف والضرب في حالات عديدة أو تجميع المعتقلين قبل نقلهم في أماكن ضيقة ودون كمامات أو تباعد بدني، فهذا تعدي على حقوق الناس وكرامتهم.

كيف يمكن لعناصر السلطة أن تقدم على هدم منزل قرب تاونات في عز الجائحة وأمام أعين مالكيه وأمام الأطفال وهم يصرخون، هل كان هناك استعجال إلى هذا الحد؟ أليس في قلب هؤلاء الناس رحمة؟ نتج عن كل هذا وفاة امرأة مسنة يقول ابن الضحية إن “القايدة” ضربتها وتركتها ساقطة على الأرض دون مساعدة طبية، ويدعي ابنها كذالك أن سبب الهدم الحقيقي هو انه في الليلة السابقة أتى المقدم وطلب رشوة من رب العائلة ولما رفض هذا قائلا إنه دفع للقائد السابق غرامة قانونية عن البناء العشوائي وأن هذا يكفي، انتقمت منهم السلطات. لا أخفيكم أن هذا الحدث المؤلم وأحداث أخرى تشبهه نغص علي لبضعة أيام هاته الخلوة الاضطرارية والتي حاولت أن أجعل منها فرصة للتقدم في بعض القراءات.

مسار تاريخ الأوبئة في المغرب زاخر بالمقاربات. كيف كانت السلطة تتعامل؟

المخزن لم يكن يتوفر على الإمكانيات والجهوزية التي يتوفر عليها الآن. ولكن كان يقوم أحيانا بإجراءات احترازية كالكارانتينا ومنع رسو السفن القادمة من المناطق الموبوءة وأحيانا إغلاق الحدود الشرقية، ومن يريد أن يطلع على الكتابات المفيدة في هذا المجال فليرجع لكتاب محمد أمين البزاز وأبحاث نبيل مولين، كما أن مجلة زمان أصدرت ملفا خاصا حول تاريخ الأوبئة بالمغرب موجود على الويب.

هناك من يعتبر أن سلوك التضامن والتآزر الذي تنامى خلال الأزمة، يدفع السلطات لتمرير قرارات أو مواقف والإجهاز على الحقوق والحريات كما نبهت إلى ذلك الأمم المتحدة. هل لديك هذا التخوف؟

نعم تماما. تحاول بعض مراكز القوى داخل الدولة استغلال ظروف الجائحة التي تفرض على المجتمع المدني نوعا من الشلل لتصفية حساباتها مع المنتقدين من جهة، هكذا شنت حملة تشهيرية يندى لها الجبين كانت خديجة رياضي وأنا شخصيا ورضا بنشمسي بعض المستهدفين فيها، طبعا كان موضوع التشهير بنا وبحقوقيين وصحفيين آخرين هو كورونا. غريب أمر هاته الدولة! بعد مدة من ذلك شنت حملة على المحاميين زيان والنويضي نظرا لدفاعهما عن منتقدي السلطة، وخصوصا توفيق بوعشرين ومعتقلي الريف. لقد تم سب وشتم وانتقاد هاتين الشخصيتين بعشرات المقالات وآلاف التعاليق المفبركة التي تهدف إلى اغتيالهما المعنوي رغم أن القضاء يتابع نجليهما وليس هما، وحتى هاذين الشابين لا زالا بريئين مادام القضاء لم يقل كلمته في القضية.

هناك دوائر داخل السلطة تظن أن مشروعية النظام ضعيفة جدا ولهذا يجب ضرب مصداقية المعارضين. هذا تكتيك لا أخلاقي ولن يفيد النظام كثيرا. ومن جهة أخرى، رأينا كيف أن نفس هاته القوى فرضت على وزارة العدل تمرير مشروع قانون سري كاد يجهز على الحريات المتبقية في البلاد لولا وصوله إلى الشبكات الاجتماعية… وهكذا تراجع النظام مؤقتا عن المشروع في انتظار ظروف أفضل.

البعض يرى خلال هاته الأزمة، أن دور الأحزاب محدود ومقلص ومهمش. أين يكمن الخلل؟

النظام يعتبر عموما وتقليديا أن الأحزاب يجب أن تكون في خدمته مكتفية ببعض من فتات السلطة والامتيازات، وإلا فلتختفي أو تهمش أو تضطهد. وهكذا فإن دور الأحزاب لم يكن يوما قويا منذ اعتلاء العرش من لدن الحسن الثاني منذ حوالي ستين سنة إذا استثنينا أحزاب الحركة الوطنية سنوات 1961-1963 ثم الاتحاد الاشتراكي من أواسط التسعينيات إلى نهاية 1999. ثم البيجيدي خلال سنوات الربيع المغربي. إذن لا جديد اليوم، وقد تم تطويع البيجيدي بشكل شبه كامل بعد قضية البلوكاج. لما يكون الشارع متحركا أو على الأقل في وضعية تمكنه من التحرك والانتفاض تتراجع السلطة ولما تتراجع دينامكية الشارع تعود النخبة المولوية – الأمنية لتقبض بيد من حديد على جهاز الدولة مسخرة إياه لمصالح القصر والعائلات والفئات الحليفة.

في ظل هاته الأزمة، كيف تنظر لمستقبل عيشنا المشترك؟

لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل ولكن اتركني أجازف: أعتقد أنه ربما ستزيد الدولة خلال الزمن التالي للجائحة من تصرفها السلطوي وقد شجعها نجاحها في السيطرة على أزمة الجائحة وبروز نوع من الوحدة الوطنية الظاهرية حول النظام، ثم وبسبب هذا وبسبب تدهور الوضعية الاقتصادية الاجتماعية الناتجة عن الحجر، يكون هناك رد فعل قوي من لدن المجتمع المدني وقوى المعارضة قد يفتح آفاقا ديمقراطية أمام المغرب.