في وطني، الجميع يعبر عن آراءه بحرية..

 من يقول العكس؟ ..

من هذا العدمي العميل المتآمر على الوطن الذي يقول غير ذلك؟

وطني جنةٌ للحريات،  لدينا كل الحرية في التعبير عن الرضا،  بل نمتلك الفائض منها في التعبير عن الامتنان لحكامنا،  وفي أن نهجو كما شئنا الأصوات المعارضة،  وفي أن نَنْظُم معلقات لا متناهية في المديح على صفحات وأثير وشاشات الوطن..

الحرية عندنا متاحة ولا تحتكم لمدونة السلوك والأخلاقيات؛ حين يتعلق الأمر بالدعاية والتزلف وتشويه المعارضين وانتهاك الحياة الخاصة والمس بسمعة وشرف الخصوم السياسيين،  لكنها تصير حرية مقيدة، حين يتعلق الأمر بالتعبير عن الآراء المختلفة المغردة خارج سرب الإجماع الرسمي..

هذه هي حرية التعبير في وطني، لكن هل هذه هي الصحافة؟

يبدو المشهد الإعلامي المغربي مُغريا وقُزحيا بألوانه المتناثرة،  من الأبيض الفاتح إلى البنفسجي الحزين،  ومن المائي المحايد إلى الرمادي الكئيب،  كل تدرجات الألوان الإعلامية متاحة،  ورقا وصورا وأصواتا، كل العناوين البراقة والملونة والجذابة توحي بأن هناك حرية واختلافا وتعددية..  لكننا حين نتجاوز إغراء النظرة الأولى، ونغوص في تذوق نكهة الوجبات الإعلامية التي تعرضها الصحف والإذاعات والتلفزيونات،  نصطدم بتشابه الطعم،  ونشعر فجأة  بالمرارة والدّوَار، فتمتزج كل الألوان الزاهية لتصير لونا واحدا، قاتما، يحجب الرؤية..

يبدو المشهد الإعلامي المغربي مُغريا وقُزحيا بألوانه المتناثرة،  من الأبيض الفاتح إلى البنفسجي الحزين،  ومن المائي المحايد إلى الرمادي الكئيب

 فكما هو الحال في كل الأنظمة التي تقف في النقطة الرمادية بين الانفتاح والانغلاق وبين الحرية والتضييق،  يعيش المغرب حالات مد وجزر في حرية التعبير، فالسلطة  تسمح بهوامش وجزر للإعلاميين لممارسة مهنتهم باستقلالية وحرية بشرط عدم تجاوز الخطوط الحمراء أو النبش في ملفات وتجاوزات ذوي النفوذ،  كما أنها انتبهت بعد الربيع المغربي إلى قوة الإعلام الجديد في التأثير وفي صناعة الرأي العام، وأدركت أن إعلامها الرسمي والتقليدي قد أصبح فاقدا للمصداقية رغم إمكانياته المالية والبشرية الضخمة،  فسعت عبر أجهزتها ونخبها ولوبياتها المالية إلى خلق صحافة متسترة  خلف العديد من العناوين،  تقدم نفسها للمتلقي كمقاولات صحفية مستقلة،  تعرض موادا إعلامية مغرية،  مكتوبة ومهيأة بمهنية عالية،  تشغل صحفيين أكفاء ومبدعين بأجور محترمة،  تفتح  فضاءاتها  للآراء المختلفة دون تجاوز الثوابت والمقدسات،  تناقش قضايا جريئة ومسكوت عنها في المجتمع والجنس والجريمة،  تنتقد السياسات الحكومية بجرأة وموضوعية أحيانا، تنجز تحقيقات مميزة عن مآسي الناس البسطاء؛ وتتسلى بقضايا المفسدين الصغار، وحين تثار قضايا الفساد الكبرى للشخصيات النافذة أو انتهاكات حقوق الانسان في صحف العالم أو فضاءات التواصل الاجتماعي،  تصمت!.. أو تتحول لمحامٍ فاشل في تبرير التجاوزات،  أو تُشغل الرأي العام بتقديم كبش فداء أو افتعال قضايا مثيرة للجدل  لإلهاء الناس عن المسؤولين الحقيقيين..

هكذا يبدو المشهد الإعلامي  في ظاهره،  تعدديا ومستقلا،  يتناول بمهنية وجرأة وحرية قضايا الفساد الصغيرة التي يقترفها الفاعلون السياسيون في الأحزاب والحكومة وفي التدبير المحلي؛ لكن حين يندفع الصحفي في الصعود إلى أعلى في تتبع سُلَّم المسؤوليات،  متوهما بأن حرية الصحافة والتعبير حق يكفله الدستور؛ يتعثر في أول محاولة للقفز على الأسلاك الشائكة للخطوط الحمراء..

والنهاية نعرفها، فهناك دائما” كاتالوغ” من التهم الجاهزة المعدَّة على المقاس، وهناك دائما قضاة مستعدون للاحتكام للتعليمات، وهناك طبعا “زملاء صحفيون” جاهزون  للسخرة  وللتكفل بنشر الغسيل.

© حقوق النشر محفوظة لكم2. كوم(2015)