وجدت نفسي في العدالة والتنمية ساعة كنت طفلا. كنت قد قصدت مكتبة العمومية في حي برنازيل بالدار البيضاء، ومنها الى الحركة، ثم الى الحزب. تعرفت في تلك التجربة الطويلة على أناس صادقين ومؤمنين فعلا بقيم الاستقامة والبدل، كما تعرفت على منافقين كسالى. هي تجربة مفيدة استفدت منها الكثير. وبدلت الجهد الجهيد للاستقطاب واقناع الناس في الحملات الانتخابية كما للجلسات التربوية في حي “الفاروق”، وهو الاسم الحركي للمنطقة التي تربيت فيها.

غادرت مركب الحركة وقبلها الحزب في شبابي. ساعة انهار أمام عيني النموذج الذي حاول بنائه فينا نحن أبنائه وأتباعه ومتعاطفيه. نموذج يقوم على “أهل الحق” مقابل “أهل الباطل”. وممارسة السياسة بافتراض أن الحق معنا والباطل في صف المقابلين لنا. تخليت عن هذا اللغط الساذج القائم على تقسيم العالم لأبيض وأسود، بعد انقضاء مرحلة مراهقتي. رغم أني لم أنكر يوما أنها كانت تجربة جيدة في مساري وساهمت بشكل كبير في بناء وعيي.

شاركتُ في حراك عشرين فبراير بحماسة وفرح. حاولت تجنب السقوط في نفس الفخ. لم أدافع عن مجموعة سياسية معينة داخله. بل رغبت -كما رغب الكثير من زملائي فيه- في تسطير قواعد يحتكم لها الفرقاء السياسيون في بلدي. حراك شبابي لم تقده مجموعة سياسية بعينها، بل شارك فيه المختلفون من أجل رسم القواعد لنستبعد الانفجار. قواعد تضمن التداول والاختلاف على أرضية صلبة من الديمقراطية وحقوق الانسان والشفافية والاستقرار المبني على قواعد صلبة. لكني صدمت من ردة فعل الحزب الذي تربيت فيه. اعتبر رئيس الحزب أننا “طبالة وغياطة” وسند التحكم في سياق حرج. 

افترض بنكيران أن التحكم ضروري للاستقرار وعارض “الملكية البرلمانية”. وخاض معاركه الكلامية بقليل من التريث وكثير من الوعود ووصل الى قيادة الحكومة كما رغب. وحصل على النتائج الذي تمناها لما صوتت عليه المدن التي بنى شعبية الحزب فيها مناضلون صادقون.

ما نعيشه اليوم في لعبة التحالفات لقيادة المدن والجهات قد يُشكل صدمة لحزب “العدالة والتنمية” ومناضليه وجمهوره، الذي سندت قيادته استمرار التحكم.

اليوم، وقد حصل حزب “العدالة والتنمية” على أغلبية في مختلف المدن. خرجت الدولة لتعيده الى نقطة البداية. لترسم تحالفات على المقاس المناسب، عبر حزب العهد الجديد وخردة أحزاب العهد القديم. وقلزات له. خرج الكثير من رفاقي السابقين في الحزب ليُعلنوا غضبهم. إنها لحظة وقع فيها تكثيف من الخيبات. تداعي النموذج الذي سوق له بنكيران وادعاءاته.

تربينا في الحركة كما الحزب على مضمون حديث كنا نكرره “.. الذي ينفع الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم..”. هو حديث ملهم. لكن اليوم يقود الرجل الفرح بمعاركه الكلامية، مناضلي الحزب وقواعده الى وضع يخالطون فيه الناس ويبيعونهم الوهم وتحصده الدولة.

لنكتب جملة “الدولة المغربية غير ديمقراطية والمشهد السياسي مضحك”. الجميع يعرف ذلك. إنها جملة تدخل في باب البديهيات. هي تتحكم وتعجن وتشكل وترسم وتحكم في كل التفاصيل. لكنها تفعل ذلك غالبا وهي مستترة، وفي لحظات متفرقة في الزمن. إلا أن ما نعيشه اليوم في لعبة التحالفات لقيادة المدن والجهات قد يُشكل صدمة لحزب “العدالة والتنمية” ومناضليه وجمهوره، الذي سندت قيادته استمرار التحكم. لأن في هذه اللحظة تكثيف من الخيبات في لحظة محددة ومحدودة من الزمن، وبالوجه المكشوف وسير تضيم.

الى صديقي المناضل الصادق، أتمنى أن تمر عليك لحظة تكثيف الخيبات هذه على خير وبالفائدة. سيجد بنكيران كيف يُبرر فشله في قيادة المدن. وسنسمع ما يقترب من ضحكته الساخرة في الخلفية.. سنسمع ضحكة حقيقية قوية ومجلجلة. لن تصدر عنه هذه المرة، بل ستكون صادرة عن التحكم والسلطوية. بالصحة القوالب.. وكل احباط وأنتم بخير.