تابعتُ ردّ وزير الصحة الحسين الوردي على إضراب طلبة الطب، فبدا لي الرجل يتّبع أسلوب الخلط والتدليس، ففي معرض ردّه  حاول أن يبدو وكأنه (ضربته النفس) على بائعي الكلينيكس، وراح يلوم الطلبة بكونهم استخفوا بمهن شريفة، وهذا لعمري قمة الاستخفاف، هل يعتقد السيد الوزير أن بيع الكلينيكس مهنة؟ حتى وهو يضيف إليها نعت “صغرى”؟ هل فعلا يعتبر السيد الوردي “بيع الكلينكس” مهنة صغرى؟ أم أن الرجل أعوزته الحجج وراح يحطب من خطاب شعبوي مقيت تناثر على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ووجد فيه القشة التي يتمسك بها، هل يعلم السيد الوزير أن جزءاً كبيراً من بائعي الكلينكس رمت بهم ظروف الحياة في هذا الوطن ليسلكوا هذا الطريق، وعدد كبير منهم كان ضحية للمؤسسات التي تشتغل تحت امرته؟ هل يعرف السيد الوزير أن العديد من الأطفال الذين يبيعون الكلينكس يفعلون ذلك من أجل شراء الدواء لأمهاتهم المريضات؟

 “بيعُ الكلينكس” هو عنوان البؤس في هذا الوطن سيدي الوزير، “بيعُ الكلينكس” ليست مهنة، إنها “حكرة” يتجرّعها يوميا ألاف المواطنين المغلوبين على أمرهم في مقاهي و طرقات وأزقة الوطن، فرجاء ابحث عن حجة أليق لتردّ على شرعية مطالب الطلبة..

المشكل الذي سكت عنه السيد الوزير، هو أن هذا المشروع الذي يريد فرضه بالقوة على الطلبة، ليس متعلقاً في أساسه باجبارية الخدمة في العالم القروي، هذا حق أريد به باطل، هذا المشروع أساسه هو تفكيك الوظيفة العمومية، واعتماد العمل بالتعاقد (الكونترا)، وهذا مطلب البنك الدولي الذي يحثّ على المزيد من تقليص النفقات الموجهة للقطاعات التي تسميها تقاريره ب” القطاعات غير المنتجة” (الصحة، السكن، التعليم). وبالمناسبة، طالب تقريره الاخير المتعلق بالمغرب بمزيد من تقليص مناصب الشغل ومزيد من التقشف، رغم أن السكين قد وصل العظم، لكنهم ما زالوا يطلبون المزيد والمزيد.. والحكومة ووزرائها ينفذون ما يطلبون منهم.

المشروع الذي يريد تنزيله السيد الوزير في قطاع الصحة، ليس معزولا، بل هو سليل سياسة عامة تنهجها الدولة بايعاز من المؤسسات المالية الدائنة، لذلك شرعوا في تنزيله أيضا في قطاع التعليم، عبر فرض مباراة أخرى للتوظيف بعد استكمال سنة من التكوين في المراكز التربوية، انذاك من نجح في المباراة سيلتحق بالوظيفة العمومية، ومن لم ينجح سيعودون إليه لتشغيله عبر عقود عمل، بالنتيجة؛ إن خريجي التكوين من الآن فصاعدا، سيتم دمج نصفهم في الوظيفة العمومية، وسيتم توقيع عقود العمل مع من تبقى منهم، إلى أن ينتهوا أخيرا إلى تشغيل خريجي مراكز التكوين عبر عقود العمل، وسيتم إغلاق باب الوظيفة العمومية بشكل نهائي..

إن حقيقة الاشتغال بعقود العمل، هي عبودية مقنّعة، تسميه تقارير البنك الدولي ب “مرونة الشغل”، والتي تعني فيما تعنيه؛ وضع ُرقبة الأجير تحت تصرف المُشغل، لا حقوق نقابية، ولا مكتسبات ولا شي.. 

في رد السيد الوزير تحدى الطلبة أن يأتوا بالبديل لما يرفضونه، ولا أدري هل الوزير جاد في طلبه أم هي فقط مناورة يهدف من ورائها اظهار الطلبة بأنهم لا يعرفون ماذا يريدون، فقط راقهم الاحتجاج وهاهم يحتجون؟

 إن كنت جادا في تحديك سيدي الوزير، فالجواب واضح وضوح الشمس في نهار صائف، فخذه وأرينا “حنة يديك”، سيقبل الطلبة بسنتي العمل الاجباري في العالم القروي، سيعملون بجد وتفان كبير، لكن بعد استكمال المدة يُفترض أن يدمجوا مباشرة في الوظيفة العمومية، لا أن يتركوا على قارعة البؤس، لتساومهم وزارتكم بعقود عمل مجحفة، أنت تعلم سيدي الوزير أن قطاع الصحة في المغرب بحاجة ماسة إلى ألاف الأطر، لتحقيق الحد الأدنى من التطبيب للمواطنين، وللاقتراب (لاحظ مجرد الاقتراب) من معدلات التغطية الصحية في بلدان المنطقة (تونس والجزائر مثلا). سيدي الوزير لا تتعلل بانعدام الموارد المالية لإحداث مناصب الشغل في القطاع، انذاك سندخل نقاشاً اخر، نقاش يرابض الشيطان عند رأسه…

إن حقيقة الاشتغال بعقود العمل، هي عبودية مقنّعة، تسميه تقارير البنك الدولي ب “مرونة الشغل”، والتي تعني فيما تعنيه؛ وضع ُرقبة الأجير تحت تصرف المُشغل، لا حقوق نقابية، ولا مكتسبات ولا شي.. وإذا ما عنّت له نفسه أن يطالب بحقوقه كما هي متعارف عليها في قوانين الشغل الوطنية والدولية على علاتها، سيقدم المشغل على فسخ عقده، أو في أحسن الأحوال، سيتركه حتى نهاية عقد العمل ثم سيرفض تجديده، وسيكون ذلك من حقه، دام ما يربطه بالمشغل هو عقد عمل محدود الأمد، والمُشغل من طبعه سيعمل على تقديم عقود العمل قصيرة المدى (غالبا ستة أشهر أو سنة) حتى يتم التخلص من الأجير بأسرع وقت ممكن إن لم يقبل بشروط العبودية الجديدة..

مرونة الشغل تعني في اخرة المطاف أن تشتغل لتأكل وتجدد طاقتك من أجل استغلالها من طرف مشغلك، لا ضمان اجتماعي، ولا حق الترقية، ولا تقاعد… 

سيدي الوزير، عبثا تحاول أن تُظهر نفسك ابن القطاع، وأنك تعرف مشاكله جيداً، لتتعالى على الطلبة، كان عليك عندما طلب منك أسيادك أن تخفي الشمس بالغربال أن تقول لهم: الشمس لا يخفيها الغربال، لا أن تتمسك بقشة الدفاع عما أسميته بالمهن الصغرى، وتمارس التدليس، لتحاول تسفيه مطالب الطلبة التي أنت في قرارة نفسك تعرف أنها مشروعة ومشروعة.. لكن..