بخطاب غير مسبوق يُصور وجود معركة “بين المسلمين والكفار” وبين “تيار حداثي وتيار ديني” اختار بعض الخطباء في مصلات بعض المدن استغلال صلاة عيد الفطر لرفع حدة الخطاب على ضوء النقاش الدائر حول مدونة الأسرة والتعديلات المرتقب إجراءها عليها، إلى درجة القول من أعلى المحراب أمام مئات المصلين بأن هنا من يتربص بغاية “تبديل كلام الله” و”تشتيت الأسر المغربية”، وهو الأمر الذي أثار جدلا واسعا واستدعى رفع مطالب تدعو وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للتدخل.

“إذا سلمت من الأسد فلا تطمع في صيده”..”لقد سلمُوا في بلاد الإسلام ولم ينلهم ضرّ” بهذه العبارات، أختار خطيب يدعى “أبي حمزة إبراهيم بقلال” تسويق فكرة وجود صراع غايته استهداف “الدين الإسلامي في المغرب” أمام المئات من المصلين في مصلى (بوعيطة) بأيت ملول، وجرى تصوير خطبته بكاميرات ثابتة وبثها عبر قنوات تابعة له على موقع “اليوتوب” ومواقع إلكترونية محسوبة على تنظيمات إسلامية سلفية، وقبل أن يغوص في تعداد أسباب “الهجوم المزعوم”، قال الخطيب: “إن هؤلاء يُطعمون من قنوات خارج بلاد الإسلام ويتجشؤون في بلاد الإسلام بالكفر الصريح”.

أما تسجيل صوتي لخطيب آخر، (لم يتسنى لموقع “لكم” التأكد من مكان الخطبة واسم الخطيب) يبدو أنه، تلي في إحدى مصلات عيد الفطر، اختار الاستناد على تقارير المندوبية السامية للتخطيط، للقول بأن “الشريعة الإسلامية” ليست هي مصدر العنف ضد النساء، محذرا من إرهاصات فتنة صامتة ضد الإسلام، قائلا: إن “السيادة الدينية خط أحمر”.

أبوحفص: هؤلاء يزعمون وجود معركة من خيالهم 

وبخصوص إصرار بعض الخطباء على ربط تعديل مدونة الأسرة بـ”الهجوم على الإسلام” و”المخطط الغربي لإفساد المجتمع” قال محمد عبد الوهاب رفيقي “أبو حفص”، مفكر وباحث في الدراسات الإسلامية: “للأسف الشديد، كنتُ أعتقد أن هذه المصطلحات البالية والمفاهيم القديمة، عفا عليها الزمن، وأن المتدينين بأنفسهم، قد خضعوا، لا في حياتهم الواقعية، ولا من خلال القوانين التي يحتكمون إليها، إلى متغيرات، تفرض تعديلات في هذه القوانين تؤطر الحياة الاجتماعية والعلاقات الأفقية”.

واستغرب محمد عبد الوهاب رفيقي في تصريح لموقع “لكم” من نبرة خطاب بعض الخطباء في صلاة العيد الأخيرة وردة فعلهم معتبرا أن هؤلاء يطاحنون الهواء ويختلقون معركة لا وجود لها، خصوصا حول موضوع مدونة الأسرة، مشيرًا إلى أن منهجية تعديل المدونة تختلف كثيرًا عن أي تعديلات سابقة، باعتبارها انطلقت بخطاب ملكي ورسالة ملكية أطرت هذا التعديل وحددت سقفه، وأقرت بأن التعديلات لن تصطدم مع الهوية الإسلامية بعبارة صريحة قالها الملك تقول: ” فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية”.

“الخلافة الإسلامية” سبب استنفارهم 

وأوضح أبوحفص، أن الهاجس الذي يستدعي استنفار وخوف هؤلاء الخطباء، هو إيمانهم بالمشروع الذي قامت لأجله حركات الإسلام السياسي، وهو إقامة الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية، حيث أن هؤلاء في تصورهم ومشروعهم يُريدون إعادة المغرب إلى قرون سابقة وسالفة، حيث كان الفقه الإسلامي هوَ المؤطر للعلاقات المجتمعية والحاكمة والمهيمن على القوانين والقضاء والعدالة.

وذكر أبوحفص في هذا الصدد، أن المتغيرات التي عرفها المغرب بعد الاستقلال، استدعت المغرب إلى أن يُغير أغلب قوانينه، خصوصا فيما يتعلق بالقوانين المدنية والجنائية والتجارية، وبتالي، خرجت عن المنظومة الفقهية، وتتطور إلى قوانين وضعية ملائمة للدولة الوطنية، وملائمة لانفتاح المغرب على الحداثة والقيم الكونية، لذلك، يرون أن الأمر انفلت من أيديهم في اغلب القوانين التي يحتكم إليها المغاربة، ولم يبقى من التراث الفقهي إلا مدونة الأسرة، لذلك نجد الكثير منهم (العينة من الخطباء) يقولون صراحة إن مدونة الأسرة هي آخر حصن من حصون الإسلام في هذا البلد والبقية الباقية من الشريعة الإسلامية، حسب تصورهم”.

وتابع أبوحفص في تصريح لموقع “لكم”: أن الهجوم في هذا السياق يُعتبر مستغربا، إذ أن الأمر برمته غير مرتبط بالدين الإسلامي أو هوية المغاربة، بينما يتعلق الأمر بتعديلات لبعض الفصول والمواد والتي أبانت خلال مرحلة تطبيقها وتنزيلها خلال 20 سنة الماضية عن قصور أو عدم تأديتها للوظائف المرجوة منها، وأن هذه هي سنة القوانين في كل زمان ومكان عبر التاريخ، حيث أنه أي قانون لابد أن يتعرضَ للتطوير والتعديل والتغيير حتى يستجيب لحاجيات المجتمع ومتغيراته وما يقع فيه من نوازل وحوادث”.

وأشار أبوحفص إلى أن الهيئة المشرفة على التعديل هي هيئة معينة من إمارة المؤمنين، وأن هذه المؤسسة، تضمن منطلقات الحفاظ على الدين وحمايته، وأن هذه الهيئة تتكون من أعضاء من مختلف المشارب والتوجهات بما فيها، تمثيلية المؤسسة الدينية الرسمية والتي هي المجلس العلمي الأعلى”.

البوحسيني: ثوابت الأمة بالنسبة لهم هي “قضية الإرث”

واعتبرت الأستاذة الجامعية بكلية علوم التربية بالرباط، لطيفة البوحسيني، أن خروج هؤلاء الخطباء بهذه الحدية في إسماع صوتهم، بعد صمت طويل وبعد استكمال لجنة تعديل مدونة الأسرة المشاورات ورفعها إلى الملك، يُبرهن على أنهم يدافعون عن مواقعهم بدرجة أولى وليس على الدين، وأن أبرز ما يثيرهم في قضية مدونة الأسرة هو قضية “الإرث”.

وقالت البوحسيني في تصريح لموقع “لكم”، إن ثوابت الأمة التي يزعمون، بالنسبة لهم هي قضية “الإرث” أما المساءل الأخرى، عمليا كلها لا تطرح مشاكل كبرى وفقا للمرجعية الدينية حتى ولو تمت قراءتها بأكثر القراءات تشددًا، وأن ما أزعج هذه العينة، هو أن الناس أصبحت تطالب فعليا بإصلاحات جذرية في مدونة الأسرة، وهذا بالنسبة لهم خط أحمر.

وذكرت البوحسيني أن هؤلاء يصمتون صمتا مطبقا أمام الإبادة التي يمارسها الغرب الاستعماري الصهيوني، فعدد منهم في خطبهم “الحماسية والحادة الأخيرة” سها حينما تطلب الأمر إدانة العدوان الصهيوني على غزة، لكنهم يقيمون الدنيا ويرغون ويزبدون حينما يتعلق الأمر بتعديل قانون الأسرة بدعوى الخوف على الشريعة من الأجندة الغربية”.

وتساءلت البوحسيني: “هل من المنطقي اعتبار تعديل المدونة خطرا على الهوية في الوقت الذي تجند فيه الامبريالية كل أسلحتها ضد وجودنا ككيان حضاري؟”.

“الأوقاف تتحمل المسؤولية”

وفي مقابل هذه الخطب التي اعتبرت “حادة” و”غير مسبوقة”، حمل مدونين على مواقع التواصل الاجتماعي، مسؤولية بث “خطاب الكراهية” و”العنف والتكفير” إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وقال الباحث في قضايا الإسلام السياسي والإرهاب، سعيد لكحل، إن أمثال الخطباء الذين بثوا خطابات في صلاة العيد تُحرض على الكراهية والمناهضة لتوجهات الدولة للنهوض بحقوق المرأة يتوجب إعفاؤهم من الخطابة ومنعهم من اعتلائها حماية لوحدة النسيج المجتمعي.

وفي مقابل هذه الأصوات من بعض الخطباء التي أثارت الجدل، في 13 أكتوبر عام 2023، تناول خطيب الجمعة، بحضور الملك محمد السادس موضوع الميراث وتعديل مدونة الأسرة، وقال إن “الله تعالى قد ضمن في كتابه من العدل والمساواة ما يحفظ كرامة الإنسان ذكرا كان أو أنثى، فهي كما قرر بعض المفكرين مساواة قائمة في أصل الخلقة ومساواة في المسؤولية، وفي الولاية العامة، وفي حق التملك وفي الاستقلال المالي، وفي حق ممارسة العمل المهني وفي الأجر، وفي الأهلية القانونية وفي الشهادة وفي اختيار الزوج، وفي الميراث”.

واعتبر الخطيب أن “غياب وازع القرآن والفهم السليم للدين هو الذي يعرض المرأة للتمييز في التعليم والصحة والاقتصاد والمشاركة السياسية، وغياب هذا الوازع غياب لمسؤولية الرجل، الأمر الذي يترتب عنه تعريض النساء لأشكال العنف المختلفة”.