هشام جعيط يقرأ ظاهرة "داعش": نحن إزاء صراع أصحاب ثقافة الموت.. وثقافة الحياة
الحديث الى المفكر والباحث الدكتور هشام جعيط يظل في كل مرة اشبه بشحنة أو جرعة من الافكار النقية الراقية التي نفتقر لها في عالم تتنافس على سطحه الرداءة في كل مظاهرها. قد تختلف أو قد تتفق معه، ولكن الأكيد أنك ستتعلم الكثير من هذا الهرم الموسوعي وطريقته المتأنية في التفكير والبحث عن إجابات لأسئلة لم تطرح في إطار حديث كلاسيكي، بل كانت في لقاء تطرقنا من خلاله الى كل شيء بطرف، فراوح بين الشخصي والسياسي، وبين المحلي والدولي، وبين جروح الوطن وجروح النفس، بتواضع العلماء الذي لا يليق إلا بمن كان في موقعه وحجمه، وسيخطئ من يعتقد أن الرجل من صنف المفكرين المنعزلين في برجهم العاجي وهو المتابع لكل الاحداث في البلاد وفي العالم.
بين مكتبه في بيت الحكمة ومكتبه في بيته بالمرسى، يقضي المفكر والباحث والمؤرخ الدكتور هشام جعيط وقته. وبعد فقدانه رفيقة دربه قبل أشهر فإنه يقضي وقته بين الكتب. يقول محدثنا أنه بعد الانتهاء من الجزء الثالث من السيرة النبوية لم يعد يفكر في الكتابة ولم يعد يملك القدرة على ذلك، ولكنه في المقابل يواصل القراءة بنهم وإن كان أقل من السابق، وهو لا يخفي أنه بصدد اعادة ما قرأه قبل عشرين عاما من كتب ومراجع لكارل ماركس ودوركهايم وماكس ويبرMARX DURKHEIM ET MAX WEBER الذي درسه لطلبته في الجامعة والذي يعود اليه اليوم بعين النظر والتأمل والمراجعة للكثير من المسائل الفلسفية.
الدكتور هشام جعيط وهو المترفع عن منابر التهريج، تحدث الينا بعين المؤرخ الناقدة لكل ما تلاحظه، ولكن أيضا بنفس وقلب الانسان والمواطن المتتبع للأحداث التي تعيش على وقعها البلاد، وللطبقة السياسية وما تشهده من صراعات وتناحر في خضم المخاطر الارهابية والتحديات الأمنية. يمضيالآن وقته بين أصدقاء ألفهم وألفوه لا يتودد لغيرهم ولا يقبل بغيرهم رفقة في وحدته بعد رحيل رفيقة دربه التي كان يعيد على مسامعها ما قرأه من كتب. أصدقاؤه، وهم كثر، يتكدسون في مكتبه المزدحم بالعناوين.. جعيط لا ينقطع عن القراءة مدة ساعتين على الاقل في الصباح وساعة بالليل..
يذكر أن بين مؤلفاته: الشخصية العربية الاسلامية والمصير العربي وأوروبا والاسلام صدام الثقافة والحداثة الفتنة جدلية الدين والسياسة في الاسلام في السيرة النبوية 1الوحي والقران والنبوة في السيرة النبوية 2 تاريخية الدعوة المحمدية في السيرة النبوية 3 مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام…
وفي ما يلي نص الحديث:
لو بدأنا من هجمات فرنسا وما أصاب تونس من اعتداءات إرهابية، كيف يمكن أن نفهم ما حدث وما سيحدث؟
– لو تأملنا أحداث فرنسا سأقول ان الفرنسيين لا يعرفون تاريخهم. جيسكار ديستانالرئيس الأسبق سبق له الاعتراف بأن فرنسا دخلت مرحلة الانحطاط وليس الانحدار La France en décadence ونحن نقول إذا حل الانحطاط بقوم فإنه لا يرتفع كما يقول ابن خلدون.
ليس هناك في التاريخ الانساني امبراطورية دامت أكثر من قرنين أو ثلاثة.. حتى الحضارات لا تستمر أكثر من مدة معينة. هذا قانون تاريخي… واليوم فإن من جملة المجموعات الكبرى التي تكوّن العالم الحديث أمريكا وروسيا والصين والهند وأوروبا، وقد لعبت دورا ولا زالت – ولكن أوروبا أضعفها في المنطقة.
أمريكا هي الغرب وأوروبا هي البطن الرخو لما يسمى الغرب بما في ذلك فرنسا، وفي جميع الميادين، خصوصا اذا قارنا هذه المجموعة بما كانت عليه قبل القرن التاسع عشر. قبل الحرب العالمية الاولى فرنسا وألمانيا كانتا تعتبران نفسيهما هما العالم والبقية لا شيء، وهو صحيح، فرنسا كانت هي العالم في كل الجوانب والان ضعفت وتراجعت، وعليناأن نعرف أن الانحطاط لا يحدث بين عشية وضحاها. هذه الحضارة عرفت حربين عالميتين 1914 و1945، وقد دمرت ذاتها بذاتها لأن الذي غلب النازية ليس أوروبا، بل أولا وبالذات الاتحاد السوفياتي، ثم بفضل الامريكيين الذين كانوا يريدون الحفاظ على جنودهم وكانوا يتخوفون من امتداد الاتحاد السوفياتي الى كل ألمانيا. وبعد مقتل ملايين السوفيات جاء الامريكان، ولكن الحقيقة أن النازية دمرها السوفيات بالأساس.
لقد كان ستالين شخصا معتدلا في السياسة الخارجية وأُلحُّ جيدا على السياسة الخارجية ولا أتحدث عن السياسة الداخلية، ولو أراد لمسح كل ألمانيا، وبالتالي لم تعد أوروبا بعد الحرب كما كانت.. فأوروبا الشرقية اندرجت تحت الاتحاد السوفياتي، والغربية تحت الولايات المتحدة ولكن بأكثر ليونة، فقد فهم الامريكيون أن الافضل سياسة لينة معها لأنها عرفت عظمة في السابق. ولا ننسى كيفما فعل الاوروبيون ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية كيف صاروا موالي وتُبّع، والآن من الواضح أن بلادا مثل بريطانيا وفرنسا تابعة تماما لأمريكا اقتصاديا، وعندما وقعت الازمة الاقتصادية في 2008 في أمريكا امتدت لبريطانيا وفرنسا وهذا ليس شأن الصين وروسيا.
ما هو أخطر الآن مع الرئيس هولاند وقبله مع الرئيس ساركوزي أنهما يتبعان الوجهة العسكرية الامريكية ولا يمكن ان يفعلا غير ذلك. لم تعرف فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية غير فترة قصيرة سجلت استقلاليتها عن أمريكا وهي فترة ديغول الذي عرف كيف يخرج بلاده من الاستعمار، ولكن ذلك استمر لفترة قصيرة حيث اراد أن يمنح بلاده قسطا من الاستقلالية.
اعتقد أن هناك عقدة لدى فرنسا متأتية من خسارة الحرب العالمية الثانية، ففي شهر واحد استسلمت فرنسا لألمانيا، وكانت ضربة في الاعماق للوعي الفرنسي الى اليوم، ولكن بحيلة من ديغول استطاع أن يقحم بلده في المنتصرين ونجحفي ذلك لأن الحرب الباردة كانت على الابواب والانغلو-ساكسون يريدون إقحام هذا البلد معهم في مواجهة الجدار الحديدي للسوفيات، وشجعوا ديغول على بناء جيش ودولة من جديد، لكن هذا الجيش والطبقة الحاكمة فيه ظنت عن وهم أنها مازالت بلدا عظيما، وهذا كله وهم ومركب النقص الذي أصابهم جعلهم لا يتعاملون مع مستعمراتهم السابقة كالبريطانيين في الهند أو افريقيا الشرقية، والفرنسيون الذين خسروا الحرب اعتقدوا أنهم سيسترجعون قواهم، ومن هنا كانت حرب فيتنام ثم الجزائر الى أن جاء ديغول.
وقد ظلت السياسة الخارجية الفرنسية منذ ميتران وبامبيدو سياسة خرقاء، وبعد أن اعتمد ديغول سياسة واضحة ازاء العرب دخلت فرنسا ضمن الحلف الاطلسي وتدخلت في شؤون صربيا والبوسنة. واليوم يتدخل هولاند في سوريا ويرسل طائراته ويدعو الى اسقاط نظام الاسد وينضم الى الامريكيين لضرب ««داعش»» وينسى أن القاعدة العامة شاءت انه كلما تدخلت فرنسا في الشرق الاوسط او العالم العربي ضربها الارهاب من الداخل…
حدث ذلك في لبنان وأصابها ما أصابها، وحدث ذلك عندما تدخلت في الصراع بين إيران والعراق وأصابها ما أصابها واضطرت للتنازل وواصلت التدخل الاستخباراتي في الجزائر. القاعدة العامة انه كلما تدخلت فرنسا في الشرق الاوسط والعالم العربي تصيبها ضربة إرهابية.
طيب، هل كان يفترض أن يتم تجاهل خطر هذا التنظيم المتفاقم؟
– علينا أن نتذكر ما حدث عندما ذهب ساركوزي الى ليبيا لم يستطع الفرنسيون النيل من القذافي لولا واشنطن والطائرات الامريكية، وبدون ذلك فرنسا غير قادرة على التدخل في ليبيا، ولا هي قادرة على التدخل في سوريا، والمشكلة السورية مرتبطة بالاساس بأمريكا وروسيا وايران.
اسبانيا لم تتدخل ولا إيطاليا ولا ألمانيا، وحتى بريطانيا فيها برلمان قوي ويمكن أن يعارض الحكومة ويمنعها من الذهاب الى سوريا. حتى لو كان يوجد في فرنسا خمسة ملايين مسلم فهذا لا يمنحها حق التدخل في سوريا.
لكنهم ذهبوا الى العراق؟
– نعم ولذلك هناك تحقيق مفتوح في بريطانيا وربما يتم بعد ذلك محاكمة توني بلير على دوره في تلك الحرب. القصف الجوي لا يمكن أن يقضي على «داعش». الغرب لا يريد ارسال قوات برية، يريدون ما كان الرئيس بوش الابن يردده في العراق zéro perte ولكنهم خسروا اكثر من أربعة الف جندي هناك…
القاعدة الثانية في كل الحروب أنه كما تقتلون الاخرين فإنكم تُقتلون. ما كان يجب على الغرب التدخل في مشاكل الشرق الأوسط، وربما كان الافضل ترك تلك الشعوب تحل قضاياها وحروبها بنفسها، وعندما دخلت فرنسا في ليبيا دخلت «داعش» في سرت. فرنسا لم تكن قادرة على حمل ناقلة الطائرات شارل ديغول بدون الأمريكيين… ماذا يعني فرنسا بقاء بشار الاسد او سقوطه؟ انه سياسة بقايا العقلية الاستعمارية والاستعمار الفرنسي هو الافظع والاستقلال الذي منحته فرنسا لدول افريقيا الغربية تحديدا استقلال شكلي، إذ لديها قوات وجنود منتشرين هناك.
هل تعتقد أن «داعش» سيختفي من المشهد قريبا؟
– «داعش» سيبقى ولا أحد يعرف الى متى… «داعش» أكثر تنظيما من «القاعدة» وأكثر شراسة، وقد جاء في مرحلة من الضعف في العراق وسوريا، وعلى المؤرخين مستقبلا أن يدرسوا ويحللوا هذه الظاهرة الجهادية التي لم تبدأ اليوم. وهناك الكثير من الاوروبيين الذين انضموا الى هذه الحركات ولابد أن نعرف أن الطبيعة البشرية ميالة للعنف وأن هذه الجماعات ميالة للانجراف الى القتل.
في أوروبا يتكلمون كثيرا عن القيم والمبادئ ولكن هناك في الحقيقة فراغ كامل في القيم وانصراف كامل إلى الحياة في هذه البلدان الاستهلاكية، وأكثر همها المال والاعمال، وهناك شباب في تلك الدول يشارك في القتل ويتعرض للقتل أيضا. ليس هناك معنى للحياة اليوم في العالم الحديث، حتى الاديان سقطت. الاسلام وجهة مليار مسلم وهناك في الاسلام من يتعرض للقتل ومن يقتل غيره. في البلدان المتقدمة الانسان هو انسان اللذة ولذلك هناك من يرفض ذلك. حدث هذا في التاريخ وهناك مليوني اتبعوا نابوليون وقتلوا… «داعش» ارهابي بدرجة قصوى فيها الخبث والعدوان والشر الى درجة غريبة، يعتمدون وسائل قتل عتيقة جدا وصادمة، هم لا يحترمون الحياة.
«داعش» اليوم يضم 30 ألف عنصر مقابل مليار ونصف المليار مسلم في العالم، وحتى لو كانوا مائة ألف فإن ذلك لا يجب أن يمس الإسلام، فالمسلمون بشر عاديون وهم أيضا يلهثون وراء الحياة، والدليل الاكبر تلك القوافل المؤلفة من اللاجئين السوريين الهاربين من الحرب والموت الى أوروبا، فلماذا لا يريدون البقاء في تركيا مثلا.
انهم بكل بساطة يبحثون عن حياة أفضل ولا يريدون الموت، والغرب لا يريد الموت ولا يريد المواجهة البرية مع «داعش» وغير مستعد لارسال أبنائه الى ذلك.
«داعش» أصحاب ثقافة الموت، قتل منهم حتى الآن عشرة آلاف عنصر ولكن تم تعويضهم من عدة مناطق في العالم. العالم الحالي يواجه حالة اضطراب هائل وفي كل مكان. أعتقد أن الاصل عندما تكونت الحضارات كان العالم يشهد دوما الاضطرابات، واليوم لان لدينا وسائل اتصال قوية نسمع بكل ما يجري في الحين حتى في المناطق النائية.
هل نحن إزاء خوارج العصر؟
– … وفي تاريخنا الاسلامي الخوارج لا يرحمون خاصة في الفترة الاموية، وهم على استعداد للمخاطرة بحياتهم من أجل فكرة. نحن نتحدث عن خوارج في أوروبا أيضا وكلما تقدم الناس بأفكار دينية تتصدى لهم الكنيسة بالحرق. الكثيرون يعيشون اليوم في حالة يأس اقتصادي او غيره، في العالم الاسلامي أو غيره، وتونس بلد قريب من ليبيا حيث تسود الفوضى، ومن الجزائر حيث بقية من العشرية السوداء وتداعيات الصحراء ومالي، والأخطر عندماتكون الانظمة والحكومات ضعيفة ويتراجع دور الاستخبارات .
وماذا عن المشهد السياسي في تونس، وهل تتابع ما يحدث؟
– ما يحدث في النداء أمر مضحك، ولا معنى لوجود ابن الرئيس في الحزب الذي يبقى في الاساس كتلة غريبة تجمعت لهدف واحد وهو اسقاط «النهضة»، لأن قسطا وافرا من التونسيين لا يحبون «النهضة» وهذا تحقق…
وأما الهدف الثاني فيرتبط بسي الباجي الذي يريد التربع على عرش بورقيبة وهذا تحقق له، ولذلك فإن هذا الحزب منته بانتهاء ولاية مؤسسه. الصراع داخله من أجل لاشيء، فكل طرف يعتقد أنه اذا صعد سيكون الرئيس المقبل وهذا لن يحدث ولا أحد منهما سيحقق ذلك. الخطير أننا رجعنا الى النمط القديم لبورقيبة وبن علي مع فارق واضح: أن الرئيس الحالي ونظرا لسنة فإنه لا يتدخل كثيرا في كل الأمور. أما رئيس الحكومة فأعتقد أنه بيروقراطي، وعندما أتابع ما يحدث في مجلس النواب أجد ممثلي الشعب فقراء…
هل تقصد أنهم فقراء في أفكارهم ونقاشاتهم؟
– أقصد الفقر المادي والفكري، فهم فقراء في أفكارهم وجيوبهم ويشعروك أنهم في المجلس بسبب ما يتقاضونه والكل يريد الحفاظ على امتيازاته. عندما وقعت الثورة اعتقدت الطبقة السياسية أن أوروبا وأمريكا ستساعدهم، ولكن هذا لم يحدث، وكل المساعدات كانت في شكل قروض. أما البدان العربية المقتدرة فتلك مسألة أخرى، وهي لا تساعد إلا من اتبعها في خياراتها .
سمعت الكثير من الجدل عن المصالحة الاقتصادية وفي اعتقادي أنها لن تحصل قبل عشرين عاما على الأقل… ونحن فقراء فعلا في فكرنا، لقد عشنا طوال قرون بعيدا عن التطور في جزء مهم من الانسانية وكل واحد يعتبر نفسه سيدا ولا يعترف بمن هو في درجة أعلى منه ولا أحد يقبل بالقانون. صحيح أن المستوى الفكري والثقافي تحسن ولكنه يبقى محدودا…
«داعش» استهدف تونس لأنه يشعر أنه لا دولة هناك أو أن الدولة ضعيفة ولا يمكنها أن تراقب الدخول والخروج ولا وجود لسلطة أمنية مستقيمة. وقد يبدو الان من غير الممكن ارجاع كل شيء الى الرقابة. المشكلة عويصة جدا، والامر سيزداد خطورة مع عودة من ذهبوا للقتال في سوريا والعراق، اذ هناك من سيعود خوفا من الموت، ولكن هناك من سيعود لنشر الفوضى ولا بد من الحذر في هذه المسألة.
التونسي عموما لديه نظرة محلية واستعلائية، فهو يعتبر أنه الافضل وأنه سبق في كل شيء وهذا غير صحيح، وربما يكون ذلك تعويضا عن شعور بالانتماء لبلد صغير، والذين اختاروا «داعش» ربما يعتقدون أنهم شجعانا.
هناك الكثير من الاسئلة التي تحتاج للأجوبة المقنعة، وأنا بدوري أتساءل: أين علماء النفس، وأين علماء الاجتماع ليفسروا هذه الظاهرة ويقدموا الاجوبة المطلوبة؟ تونس ليست البلد الوحيد المعني بالظاهرة، ولكن الاكيد أن الثورة صنعت الكثير من الآمال لهذا الشباب ولكن آمالهم خابت.. الفضائيات أيضا لها دور فيما يحدث.
لا بد من عودة لقراءة الكثير من الاحداث وظهور الحركات الانتحارية القوية في القرن التاسع عشر في الكثير من المناطق بما في ذلك اليابان، وأذكرles boxers الذين كادوا يسقطون الإمبراطورية. الشرق الاوسط ومنذ الحرب العالمية الاولى بما في ذلك شمال افريقيا في حالة اضطرابات. الحرب العالمية الاولى دامت خمس سنوات والثانية دامت أربع سنوات ولكن في الشرق الاوسط تدوم عشرين وأربعين عاما، والصراع الاسرائيلي الفلسطيني مر عليه مائة عام ولا مؤشر على الانفراج .
كيف تنظر الى المشهد مستقبلا؟
– أعتقد أنه لا أحد سيكون بمنأى عن الاضطرابات بما في ذلك السعودية التي سيكون لها نصيبها. من الممكن أيضا أن تنقسم دول الشرق الاوسط الى قسم للعلويين والسنة والاكراد والمناطق الشيعية في العراق لن يمسها «داعش». وهذا التنظيم أكثر تنظيما من «القاعدة» وهناك اعتقاد بأن عناصره ضباط من جيش صدام حسين وتحركهم نوع من الانتقام للغزو الامريكي في العراق واختاروا طريق الترهيب عن عمد معتمدين قطع الرؤوس وتسجيل الفيديوهات، كما عادوا الى تلك الممارسات كبيع النساء والجواري. وهم يقتربون من ممارسات «بوكو حرام» في نيجيريا أيضا، وهم فعلا يمارسون القتل بسهولة، ولكن الدول الكبرى غير معنية بالأمر، وحتى لو اندثر «داعش» ستظهر تنظيمات أخرى، وهناك قابلية من طرف أناس في العالم الاسلامي للصراع.
خطأ الغرب أنه يريد أن تكون الانسانية على نمط حياتهم: ديموقراطية وحقوق الانسان، ويعتبرون ان ذلك النمط الأسمى وانه على البشرية اتباع ذلك.
هل مازال بالامكان اليوم أن نتحدث عن دور للمثقف والمفكر إزاء ما يحدث من انتشار للفكر المتطرف؟
– أوّلا، قناعتي أنه لم يكن للمثقف أي دور، وليس لنا مثقفين.. لدينا أساتذة جامعيين وموظفين ينهشون بعضهم البعض، وهذا ينطبق على الجميع وعلى كل القطاعات. أسال بدوري: أين هم المثقفون؟ ومتى كان للمثقف دور في بلادنا؟ حتى في فرنسا الامر مشابه، سارتر كان صوته يُسمع… المنصف المرزوقي مثقف وله عديد المؤلفات ولكن طبعه التشنج .
وماذا عن الرئيس الباجي قائد السبسي، هل التقيته، وهل يستمع للمفكرين؟
– كنت اعرف الباجي قبل عودته الى السياسة لم يعد لي به اتصال. أسمعه والكثير من كلامه صحيح، بكل سلبياته هو سياسي وداهية وربما يصح القول انه ميتران تونس خلافا لأحمد المستيري الذي اعتبره منداس فرانس تونس وهو صاحب قيم ومبادئ وليس بسياسي… السياسيون لهم الدهاء وليس لهم دوما ضمير. نعم هو سياسي جيد منذ بورقيبة لكن تقدمه في السن ووجود ابنه في المشهد لا معنى له، ثم نحن في دولة ضعيفة ولا يمكنها ان تكون قوية مع فتح كل أبواب الحرية دون قيد.
كيف تقول هذا وأنت من عانيت من القيود في ظل النظام السابق؟
– نعم، لا بد من نوع من السلطوية والتنظيم والذكاء حتى تنتظم الامور. الباجي ذكي ولكن لا اعرف ان كان المحيطون به كذلك أذكياء… في المشهد الدولي أعتقد أن بوتين استطاع التغيير والتنظيم وهو رجل دولة حقيقي واستطاع مواجهة الارهاب في الشيشان. الباجي أراد كرسي بورقيبة وحصل عليه، وبالنسبة لي حكاية النداء وخلافاته لا تعني التونسيين ولا افهم لماذا يتدخل فيها .
لو طلبت من المؤرخ والمفكر الذي حمل في ذاكرته تاريخ الاسلام والمسلمين أن يخاطب شباب تونس خاصة الذين يكونون قابلين لتأثير المتطرفين؟
– لم يخطر ببالي أبدا أن المؤرخ له تأثير على الشباب ونحن ازاء الشباب والشباب الحالي شباب الفايسبوك وهو لا يقرأ ولا يعرف كتابه ولا يسمع عن جعيط. ليس هناك أي موقع اليوم في اي بلد للمفكرين. هذه فترة عمل وحركية بالسلاح وغير السلاح. فرنسا بلد كبار المفكرين سارتر كان صوته يسمع العالم تغير ومازال يتغير كما قلت آنفا تظهر عليه مظاهر الفوضى الكبرى، والفوضى كانت دوما موجودة ولو بدرجات.
التغييرات الكبرى في التاريخ الانساني لا تجري دوما الى التقدم وهذا قاله الكثير من علماء الاجتماع. النظم الطويلة قد يتألم منها الكثيرون ولكن فيها توازن وانضباط، والتغييرات السريعة في أوروبا وتطور اوروبا الى قوة صناعية وخروج الفلاحين من أرضهم وتراجع الدين والقيم كل هذا فرض الكثير من المظاهر السلبية وظهور التأزم النفسي وتفاقم الانتحار…
من هنا اعود الى دوركهايم وهذا ما يستوجب على العلماء والباحثين تفسيره وتفسير التغييرات الكبرى التي يعرفها العالم وكذلك نوعية التغييرات في الشرق الاوسط والبلدان الاسلامية. الانسان يحتاج الى استمرارية وانضباط ولا بد من تحليل ما يحدث ولكني لا أرى من يقوم بذلك في تونس، وفي العالم الاسلامي أو حتى في الغرب كبار المثقفين رحلوا ولكننا بحاجة أن نفهم لماذا يقتتل السنة والشيعة.
اذا صحت فرضية أن مسيري «داعش» من قوات صدام فهم بعثيون ولم يكونوا متدينين، واستعمال الدين كإيديولوجيا وكصراع امر قديم ومستفحل. هناك حقد على الغرب الذي خلق إسرائيل وأخرج الفلسطينيين من بلدهم، والشاه كان عبدا في خدمة أمريكا والشعب جائع.. في العراق كان هناك دكتاتور قوي ولكنه كان ماسكا بالأمور. الدكتاتورية لازمت العرب مع عبد الناصر والكثيرون لا يعرفون في تونس أنه كان يوجد في الهوارب بالقيروان غولاغ يرسل اليه بورقيبة كل من يشاغب ولا ينضبط في تلك المرحلة التي تلت الاستقلال.
هل من مشروع كتاب جديد، وماذا تقرأ، وما الذي يجلب اهتمامك اليوم؟
– منذ فترة توقفت عن قراءة الصحف. لا أنوي الكتابة، في الحاضر أشعر أني لم أعد اقدر على ذلك ووضعي الصحي لا يسمح لي بذلك. أمضي وقتي بين أصدقائي وهم كثر، لقد ألفوني وألفتهم، هم يرافقوني في كل الاوقات وفيهم أجد ما يؤنسني. انهم كتبي الكثيرة المبعثرة في مكتبتي المزدحمة بالعناوين أحاول القراءة مدة ساعتين على الاقل في الصباح وساعة بالليل وأنا بصدد اعادة قراءة ما قرأته منذ عشرين عاما من كتب ماركس ودوركهايم وويبر ، هؤلائي اصدقائي الذين لا يفارقونني، أقرأ كتب التاريخ وكل ما يتعلق بتطور الانسان وأصل الاديان اليهودية والمسيحية وغيرها.. اعيد قراءة كتب ومؤلفات ماكس ويبر رغم أني درسته في الجامعة وهذا وقتي كله تقريبا وأكتشف من خلال ذلك الكثير من الاشياء التي لم اكتشفها قبل عشرين عاما أو أكثر…
– المصدر: جريدة “الصباح” التونسية