قال الشاعر والناقد الأدبي عماد بوعزيزي إن الكتابة القصصية اليوم لم تعد ترفا إبداعيا، بل صارت أشبه بـ”حالة اشتباك جمالي وفكري مع العالم”، مؤكدا أن القصة القصيرة، خلافا للمقولات التقليدية، ليست مجرد شكل مختزل من الرواية، بل “أفق سردي مستقل له منطقه ومقامه، وقادر على تشريح اللحظة الإنسانية والسياسية بعُمق لاهث وكثافة دالة”.

جاء ذلك في مداخلة نقدية، ألقاها بوعزيزي خلال حفل ثقافي نظمته جمعية “أكت طنجة” مساء يوم الجمعة 20 يونيو 2025 بالمركز الثقافي “إكليل” بطنجة، حول المجموعة القصصية “كلاكيت” للكاتب رضا سكحال. وأضاف عماد بوعزيزي أن “كل التعاريف الإجرائية لأنماط الحكي، بما فيها الرواية، تبقى قابلة للتطور، ولا يجوز أن نقيس النصوص الإبداعية بمنطق القوالب الجامدة”، مؤكدا على ضرورة تجاوز النظرة السطحية التي تعتبر الرواية تجميعا لقصص قصيرة.

وشدد الناقد على أن التحولات التي تعرفها الكتابة الأدبية اليوم، خصوصا في العالم العربي، ليست منعزلة عن الهزات السياسية والاجتماعية، “بل هي صدى مباشر لأصوات الخيبة والانكسار والحلم المؤجل”، مبرزا أن الكتابة عند كثير من المبدعين لم تعد بحثا عن التصنيف الأدبي، بل “استجابة طارئة للحظة إبداعية، تفرض اختيارها، وتملي شكلها، من خارج ما يُدرس في كليات الأدب أو يُحاكم به النص داخل قاعات النقد الجامعي”.

وواصل بوعزيزي حديثه قائلا: “ليس مطلوبا من كاتب أن يحدد جنسه الأدبي قبل أن يكتب، إذ أن ما يكتب هو ما يُمليه الشعور العميق بقضيةٍ ما، وفكرٍ ما، ولحظة وجدانية تتطلب شكلا فنيا معينا، يكون فيه النص هو المُختار لا الكاتب”. في هذا السياق، دعا إلى فهم الكتابة كحالة وجودية وليست فقط صنعة أو تمرينا تقنيا، بل لحظة انفصال عن الزمان والمكان، يُعاد فيها بناء المعنى من رماد الواقع.

أما عن الأدب الملتزم، فقد رفض الشاعر بوعزيزي اختزاله في الصراخ الإيديولوجي أو الإدانة المباشرة، قائلا: “الكاتب لا يكتب فقط ليدين، بل ليعيش في النص ذاته، ويعيد تشكيل العالم بكلماته. هذا هو الالتزام الحقيقي، الذي لا يساوم على القيم، ولكنه أيضا لا يقع في شرك المباشرة والخطابة”.

وفي إشارات قوية إلى الذاكرة السياسية المغربية، قال بوعزيزي إن الكثير من الأعمال الإبداعية التي تُكتب اليوم تستدعي أرشيفا من النضال، وتسحب خلفها خرائط من المواجهة والخذلان، خاصة في ظل صمت المجتمع عن قضاياه الحارقة. واستشهد بقصة “الدائرة” من مجموعة “كلاكيت” للكاتب رضا سكحال، لا كمجرد قصة ضمن عمل سردي، بل كعمل يستحضر تفاصيل دقيقة من زمن “ظهار المهراز”، ويفضح بلغة رمزية عالية ما سماه بـ”صراع الأفكار والدم”، ذلك الصراع الذي تمخض عن صدمات جيل بأكمله في ساحة حزيران، يوم كانت السياسة تُكتب في حلقات النقاش، ويسقط فيها الطلبة شهداء بين مطرقة الأجهزة وسندان الطهرانية الإيديولوجية.

وفي هذا الصدد، قال بوعزيزي: “الدائرة ليست فقط شكلا تنظيميا في الحلقات الطلابية، بل هي صورة وجودية لإنسان محاصر، لا يجد مهربا من خيانة الخارج إلا بالاحتماء بجسد الجماعة، والعودة إلى أشكال أولية من المقاومة الرمزية”، في إشارة إلى معارك النقابة الطلابية “الاتحاد الوطني لطلبة المغرب”، التي رآها البوعزيزي جزءا من النسيج الثقافي والسياسي المغربي، لا مجرد تجربة نضالية انتهت.

وفي تحليل لافت لأثر السينما في القصة الحديثة، اعتبر عماد بوعزيزي أن القصة القصيرة اليوم تستعير من السينما أدواتها دون أن تفقد ذاتها، وأن الكاتب المعاصر أصبح أشبه بـ”مخرج حاذق”، يتحكم في اللقطات، والزوايا، والمونتاج، ويُعيد ترتيب الواقع كفيلم شديد الكثافة. قال: “لسنا في حضرة القص فقط، بل في حضرة كاميرا سردية تجوب الأمكنة، وتفتش في الزوايا المهملة، وتربط بين الوجوه والأصوات والدماء”. وأضاف أن رضا سكحال في قصصه يُحاكي هذه التقنية حين يفتح قصصه بـ”فلاشات” سردية، تُدخل القارئ مباشرة في المشهد، دون مقدمات، كما في السينما الجريئة التي تبدأ من اللقطة الأكثر احتداما.

وفي تأمله للنهايات المفتوحة التي اعتمدها الكاتب، قال البوعزيزي إن “ترك النهايات معلقة ليس ضعفا في الحكي، بل موقفا جماليا وفكريا، يُشرك القارئ في التخييل، ويُعيد إليه السلطة على المعنى”، مشيرا إلى أن القارئ لا يجب أن يكون مجرد مستهلك للنص، بل شريكا في كتابته، عبر التوقع، والتأويل، والارتجاف أمام المجهول.

وخلص بوعزيزي إلى أن القصة القصيرة لم تعد جنسا أدبيا محصورا في لحظات الفراغ، بل صارت، في يد كتاب جدد، أداة مقاومة فنية وفكرية، تفتح الجراح ولا تغلقها، وتقول للناس ما لا يقال في الخطب أو البيانات. وقال في ختام مداخلته: “ليس القاص المعاصر من يروي فقط، بل من يلتقط ما لا يُرى، ويضعه على الطاولة، ليُسائلنا عن أنفسنا، عن صمتنا، عن مشاركتنا في الخراب بصفتنا مشاهدين صامتين… وربما عن أوهامنا أيضا”.