تخيل أنك استيقظت ذات صباح فوجدت نفسك قد تحولت إلى حشرة، ذلك ما حدث لغريغور سامسا بطل رواية “التحول” أو “المسخ” كما ترجمها البعض لفرانتز كافكا والتي صدرت سنة 1915 فيما يقارب 100 صفحة.

تحكي الرواية عن شاب من أسرة تنتمي إلى البورجوازية الصغيرة، تتكون منه ومن أب وأم وبنت مراهقة في السابعة عشر من عمرها وخادمة، كان والده يملك مشروعا تجاريا صغيرا، لكنه أفلس، وظل مدينا لأحد الملاك، ولتأدية هذا الدين اضطر الابن إلى أن يشتغل لدى المالك بائعا متجولا، رغم أنه كان يميل إلى مهنة النجارة، لكنه اضطر إلى العمل في هذه المهنة لإنقاذ أسرته من العوز والفقر وتهديد الدائن.

اشتغل غريغوري خمس سنوات ولم يسجل عليه يوما التغيب عن عمله، كان يمني النفس أنه ريثما يستكمل دين والده الذي تبقى منه قدر خمس سنوات أخرى من العمل، وبعد ذلك يترك هذا العمل الذي قبل به مكرها ليختار ذاك الذي يريده، ويفعل الأشياء التي يحبها.

“إذ استيقظ غريغور سامسا ذات صباح، على إثر أحلام سادها الاضطراب، وجد أنّه قد تحوّل، وهو في سريره، إلى حشرة عملاقة”؛ بهذه الصورة الروائية استهل كافكا روايته التي تعد أشهر استهلال روائي، ورغم هذا التحول الدراماتيكي لم ينشغل غريغور كثيرا بما حدث لجسده، كان شغله الشاغل النهوض من الفراش من أجل اللحاق بقطار السابعة بعد أن فاته قطار الخامسة الذي كان يستقله عادة للذهاب إلى عمله، كلما اقترب الموعد تسارع تخوف والديه وأخته من سبب عدم نهوضه للالتحاق بعمله على غير عادته، نادته والدته، فأجابها وباب الغرفة التي ينام فيها مغلقا من الداخل بالمفتاح، انه قادم للذهاب إلى العمل، في حين الحقيقة كان ما زال يصارع ليتمكن من النهوض من سريره، لكن جسده الحشري كان يعيقه ويعرقل كل محاولاته، ازداد قلق واضطراب غريغور، لأنه يعلم إذا فاته قطار السابعة، ففي أي لحظة قد يأتي أحد موظفي الشركة للاستفسار عن غيابه، وهو الأمر الذي لا يريده أن يحدث.

مضت الدقائق سريعا وغريغور لم يفلح في مسعاه، فات موعد قطار السابعة، وبعد ذلك بلحظات قليلة رنّ جرس باب المنزل، لم يأت موظف عادي في الشركة، بل جاء المدير نفسه، فتحوا له الباب والشرر يتطاير من عينيه، موبخا ومهددا، واستقبلته الأسرة باحترام ووجل مبالغ فيه، حتى أن والدته ظلت تستعطفه وتحكي عن جدية وتفاني ابنها في العمل.

كان غريغور يسمع الحوار من داخل غرفته، بينما هو ما زال يجاهد حتى يتمكن من النهوض، وبعدها خاطب المدير قائلا: “سأفتح الباب على الفور، دونما تأخر. إنها وعكة خفيفة، دوّارٌ ألمّ بي وجعلني لا أستطيع النهوض”. استغرب المدير من كلام غريغور وخاطب والديه قائلا:” أتُراه يضحك على ذقوننا؟”، بينما الأم تتوسله أنه مريض حقا، ونادت ابنتها “غريته” لتسرع لإحضار الطبيب، بعدها قال المدير:”هل سمعتِ غريغور وهو يتكلم قبل لحظة؟ لقد كان ذلك صوتَ حيوان”.

في انتظار الطبيب ومصلح الأقفال، ساد المنزلَ صمتٌ مطبق، بينما غريغور استمر في محاولته للنهوض، فنجح أخيرا في ذلك وزحف إلى الباب، واستطاع أن يدير المفتاح بفكه القوي، فانفتح الباب، واندفع لكي يخرج من الغرفة، حينها سمع صوتا عاليا شبيها بزمجرة ريح عنيفة أطلقه مدير الشركة “أوووه”، هلع الجميع مما رأته أعينهم، وانسل المدير هاربا إلى الخارج، بينما أمه صاحت في استغراب “النجدة بحق السماء النجدة”، في حين أمسك والده بعصا وشرع في مطاردة ابنه الذي تحول إلى حشرة، فعاد غريغور بصعوبة إلى غرفته.

من حينها تغير كل شيء في هذا المنزل، أصبح غريغور لا يفارق غرفته، تعتني به أخته “غريته”، وأحيانا تطلّ عليه والدته، لكنها لا تستطيع تحمل هذا التحول الذي حدث له، بينما والده صار يتجنبه، وإذا صادفه يقسو عليه.

ذات يوم قررت الأخت التي صارت هي المكلفة به أن تفرغ غرفته من الأثاث ومن أشيائه الثمينة، وتترك له الأريكة التي يختبئ تحتها كلما دخلت إلى غرفته، حتى يجنبها النظر إلى شكله المقزز، هنا شعر غريغور بالإهانة لكونه أصبح بالنسبة إلى أسرته مجرد حشرة. إلى أن تبلغ الأحداث ذروتها، حيث قامت الأسرة باستئجار إحدى غرف المنزل لثلاثة غرباء، وذات ليلة بعد العشاء، شرعت أخته “غريته” تعزف الكمان لتسلي الغرباء، فلم يتمالك غريغور نفسه، خرج من الغرفة وزحف ببطء بجسده الوهن بسبب مقاطعته الطعام في الأيام الأخيرة، كان يقترب وفي نيته أن يعانق أخته ويشجعها على عزفها، أخته التي كان يحبها كثيرا، وكان قد وعدها أن يسجلها في معهد للموسيقي في أعياد الميلاد المقبلة رغم ضيق يده، لكن فجأة رمقه أحد الغرباء فصرخ عاليا، واستشاط الثلاثة غضبا، وهددوا والده بعدم أداء سومة كراء الأيام التي قضوها في المنزل، وانسحبوا إلى داخل الغرفة، بينما تسمّر غريغور في مكانه يتابع ما يحدث.

بعدها حدث حوار مطول بين أفراد أسرته، افتتحته الابنة قائلة “والدايّ العزيزين، لا يمكن أن يدومَ الحالُ على هذا المنوال… علينا أن نحاول التخلُّصَ منه. لقد قمنا بكل ما في مستطاع كائناتٍ بشرية من أجل الاعتناء به، واحتماله، وتحلّينا بالصبر اللازم لذلك؛ وما من أحد، في اعتقادي، يمكنه أن يوجه إلينا أدنى لوم”
زحف غريغور إلى غرفته خائبا وهو يسمع ذلك، وما أن دخل الغرفة حتى صفقت أختُه البابَ وراءه، في تلك الليلة تذكّر أسرته بحنان وحب، وكانت فكرةُ اختفائه قد أضحت أكثر ترسخا لديه من أخته، استمر في تأملاته، وحوالي الثالثة فجرا، وقد بدأ الضوء يدلف من النافذة، هوى برأسه أرضا، وخرجت من منخريه أخر أنفاسه.

في الصباح اكتشفت الخادمة جثته الهامدة، أخبرت الأسرة بذلك ففرحوا للخبر، وبعد ساعات عادت الخادمة قائلة:”فيما يخص ذلك الشيء ليس عليكم أن تشغلوا بالكم بالبحث عن طريقة للتخلص منه، لقد تم ذلك”.

قدّم كافكا أحداثا سوداوية في هذه الرواية المفجعة، لكنها أحداث تنطوي على رمزية خصبة تنفتح على ما لا يحصى من التأويلات، وهو ما جعل العمل تنجز حوله آلاف الدراسات والقراءات منذ صدوره إلى يومنا هذا.

صدرت الرواية في مرحلة تغول الرأسمالية وذيوع استغلال قوة العمل أبشع استغلال، حيث العمل يمتد لساعات طويلة، والحقوق الاجتماعية للعمال شبه منعدمة، وهي ظروف تجعل الإنسان يستحيل إلى مجرد حشرة منزوعة من شرطها الإنساني، أو ما يسميه كارل ماركس بالاستلاب الاقتصادي الذي يؤدي بالعامل إلى الاغتراب عن إنسانيته ليصبح مجرد أداة ميكانيكية يسعى المالك إلى استخراج منها أقصى قدر من القيمة المضافة.

ومن جانب آخر، أضحى الإنسان في ظل النظام الرأسمالي مجرد كائن له منفعة اقتصادية، إذا انتفت هذه المنفعة، صار مجرد شي يجب التخلص منه، كان غريغور متفان في عمله، ومضحٍّ من أجل أسرته، لكن بمجرد عجزه رمته الشركة التي كان يشتغل لحسابها، وتخلصت منه أسرته.

إن مأساة غريغور الحقيقية ليست في تحوُّله إلى حشرة، بل في اغتيال الأمل، إذ رغم تضحيته وتفانيه في العمل، لكن لا أحد خمّن أنه ربما سيعود يوما إلى طبيعته، لو مُنح له بعض الوقت وأُنعم عليه ببعض الحب والأمل.

إن الأزمة الوجودية العاصفة التي عاشها غريغور ليست أزمة تخييلية فقط؛ بل هي أزمة حقيقية تطارد الإنسان المعاصر من كل الجهات، وتحيل على ما يعيشه الفرد في المجتمع من خوف وقلق، ولقد كان “ثيودور أدورنو” أحد عمالقة مدرسة فرانكفورت بليغا في كلامه عندما وصف أدب كافكا بكونه مكتب استعلامات عن الوضع الإنساني.

• بالإتفاق مع “كاب راديو”