يُجمع النقاد ودارسو الأدب على أن رواية “دون كيخوتي” لميغيل سيرفانتيس تعدّ باكورة جنس الرواية، وقد صدر الجزء الأول منها سنة 1605، وصدر الجزء الثاني سنة 1615، ونالت شهرة واسعة طَبَقَتِ الآفاق، يكفي أن نشير على سبيل المثال لا الحصر إلى أن الرواية صدر منها ما يفوق 500 طبعة بالاسبانية، و200 طبعة بالانجليزية ومثلها بالفرنسية، وتُرجمت الى ستين لغة، لندرك مدى شهرة هذا العملَ الإبداعي الذي فتح أرضا جديدة ما لبثت حتى اغتنت بأعمال إبداعية عظيمة، ومازال الإنتاج الإبداعي يزكو في هذه الأرض الخصبة المسماة جنس الرواية.

تحكي روايةُ دون كيخوتي، التي يترجمها البعض بدون كيشوت، عن رجل نبيل في الخمسينات من عمره يدعى”ألونسو كيخانو” من منطقة “دي لامانشا” نواحي مدريد، يملك مزرعة تدر عليه دخلا كافيا ليعيش، فانصرف إلى قراءة قصص الفروسية التي عجّت بها الساحة الأدبية الشعبية في أوربا خلال العصور الوسطى، كان يوصل الليل بالنهار في القراءة، حتى انه تخلف عن الخروج إلى الصيد والاعتناء بمزرعته التي عهد بها لخادم صبي يقوم بذلك، وبل بلغ الأمر بألونسو أن شرع في بيع أجود أراضي مزرعته لشراء المزيد من قصص الفروسية التي خلبت لبّه، تحكي هذه القصصُ عن فرسان متجولين، يملكون شجاعة قلّ نظيرها، يصارعون العفاريت والمردة والتنانين التي تنفث النيران فيصرعونها بسيوفهم ورماحهم المَضَاءَة، وغالبا ما يهدون هذه الانتصارات إلى نساء جميلات، أميرات أو سيدات طبقة النبلاء.

أسرف ألونسو في قراءة قصص الفروسية، إلى أن جُنّ وتماهت شخصيته مع شخصية أبطال هذه القصص التي أغرم بها، فقرر ذات يوم أن يخوض مغامرة الفرسان المتجولين، واضعا نصب عينيه مواجهة التنانين والعفاريت والشر وقطاع الطرق، من أجل أرض يسودها السلم والعدل والحرية.

أول خطوة أقدم عليها “ألونسو كيخانو” هي تغيير اسمه حتى يتناسبَ مع أسماء الفرسان، فاختار اسم “دون كيخوتي دي لامانشا” اسما جديدا له يتناسب مع مغامراته الجديدة، اخذ فرسه الذي لم يكن في الحقيقة إلا بغلا ضامرا برزت عظامه من شدة الوهن والجوع الذي يعانيه، إلا أنه كان يرى فيه فرسا أقوى من فرس الاسكندر، لبس درعا ثم بحث عن خوذة أجداده المتهرئة، انتشلها من متلاشيات منزله، وقام برتقها بالورق المقوّى، ليعتمرها ويقي بها نفسه من ضربات سيوف ورماح الأعداء.

ولكي تكتمل وصفة الفُرْسان، لا بد له من سيدة جميلة لكي يهدي إليها انتصاراته، وينحني ليقبل يدها عندما يصرع تنينا أو ماردا اعترض طريقه، فاختار السيدة ألْدُونْثا لورَنْثُو، الفتاة القروية التي تسكن القرية المجاورة لقريته والتي كان قد اغرم بها في شبابه غراما شديدا دون أن تعلم هي بذلك، ولأن الاسم لا يليق بها لتكون أميرة أو سيدة نبيلة، عمد إلى تغييره ليصبح “دِلْثِينْيَا دِلْ تُوبُوسُو”.

بعد ذلك بحث عن تابع مخلص يرافقه في مغامراته، فوقع اختياره على جاره القرويِّ الساذج “شانشو بينثا”، فلاح قصير ضخم الجثة، عكس دون كيخوتي النحيل طويل القامة، أوهمه أنه بعد أن ينهي مهته سيهدي له جزيرةً ليصبح حاكمها وتكون ملكا له من الجزر التي سيحررها في مغامرته هذه، صدّقه سانشو من فرط سذاجته، فركب حماره الوَهِنْ، ورافقه في رحلته المُلْغِزَةْ.

أول مهمة قام بيها دون كيخوتي بعد خروجه رفقة سانشو حين وجد فلاحا يجلد صبيا خادما لتقاعسه عن مراقبة قطيعَ ماشيته الذي صار في كل يوم يفقد منه شاة، وقف دون كيخوتي بكل حزم على الفلاح، نهره وهدده بسلاحه، وَجِل الفلاحُ في البداية، وكفّ عن تعذيب الطفل الخادم، وتوسّل إلى دون كيخوتي أن يسامحه، لكن بمجرد ما استأنف دون كيخوتي ورفيقه سانشو الطريق، حتى عاد الفلاح إلى تعذيب الطفل، بينما راح دون كيخوتي يزهو بنفسه ويستعرض بطولته وشجاعته أمام سانشو، ويفتخر كيف نهر الفلاح ودفعه إلى الكف عن تعذيب الصبي. كانت هذه المهمة فأل خير بالنسبة إلى دون كيخوتي حيث نجح في ثني الفلاح عن شره تجاه الصبي الخادم، وحقق انتصاره الأول على الشرّ والظلم.

توالت قصص دون كيخوتي ورفيقه سانشو وهما يَذْرُعَانِ قرى وأرياف اسبانيا، توالت هذه القصص المضحكة التي يتصنع فيها دون كيخوت بطولات وهمية، إلى أن يبلغ ذروة مأساته حين صادف طواحين هوائية وتهيأت له أنها شياطين لها اذرع طويلة وكثيرة، وهي المسؤولة عن نشر الشر في العالم، ورغم تحذيره من طرف تابعه سانشو من كونها طواحين هوائية، إلا أن دون كيخوتي كان مقتنعا أنها شياطين عملاقة فقرر أن ينازلها، استل رمحه وهرع لقتالها، فإذا به يَعْلَقُ بأحد أذرع الطاحونة، فطوّحت به أرضا حتى تضعضعت عظامه.

تتوالى القصص المضحكة لدون كيخوتي، وتتوالى مأساة تابعه سانشو الذي كان يترك له المهمات الصغرى، إذ أن كيخوتي فارس نبيل لا يصارع إلا الفرسان، بينما يتكلف سانشو بالمعارك الجانبية رغم أنه إنسان مسالم، ونتيجة لذلك تحمل سانشو اللكمات والضرب بالعصي والقذف بالحجارة.

ومن القصص المضحكة أنه ذات يوم مرّ أمامهما قطيع أغنام، فملأ الجو بالغبار، فخُيّل إلى دون كيخوتي أن ما يراه أمامه هو زَحْفُ جيشٍ جَرَّارٍ، فاندفع إلى الأمام ليخوض المعركة التي مَنَّ بها عليه القدر ليثبت فروسيته وشجاعته، وبعد معركة حاميةَ الوطيس أسفرت نتيجتُها عن قتل عدد من رؤوس الأغنام، بينما سقط دون كيخوت مضرجا في دمائه فاقدا بعض أسنانه تحت وقع وابل حجارة الرعاة.

وفي نهاية المطاف بعد عشرات القصص المضحكة للمعاركة التي خاضها دون كيخوتي، سقط طريحُ الفراش مريضا محموما لسبعة أيام وليالي، حتى توفاه الأجل، وقبل ذلك استفاق دون كيخوتي في إحدى الليالي من جنونه، وعاد إلى رشده، واعترف قائلا: “لقد كنت مجنوناً والآن صرت عاقلاً، لقد كنت دون كيخوتي دي لا مانشا، والآن كما قلت لكم ألونسو كيخانو”.

إن سرفانتيس في هذه الرواية المشوقة اعتمد السخرية اللاذعة والتهكم لتمزيق وشاح عدد من الأوضاع التي كانت سائدة في ذاك الزمان، كان في الرواية ساخرا من خرافات قصص الفروسية ومن محاكم التفتيش ومن الأديرة وطقوسها والقساوسة ومن الظلم والقبح، إذ مثلا في موقف ساخر، بعد أن ملّ سانشو من تأخر شهرتهما والصعاب التي لقيها في مغامراتهما اقترح على دون كيخوتي أن يصبحا قدّسين ليحصلا بسرعة على السمعة الطيبة. كان ساخرا رافضا لهذا الواقع، في المقابل كان ينشد العدل والحرية والجمال والقضاء على الظلم، قال دون كيخوتي مخاطبا سانشو:”إن الحرية يا سانشو من أنفس العطايا التي أعطيت للانسان”.

لقد مات سيرفانتيس منذ أربعة قرون، لكنه ترك وراءه دون كيخوت وسانشو أحياء، في كل مرة يلبسان مسوح جديدة تُضْفِيهَا عليهما جدارةُ التأويل، ومازالا يستحثان العقل البشري على الإبداع على منوال اسميهما وشخصيتهما في الأدب والسينما والمسرح وغيرها، إن عقلنا في حقيقة الأمر مزيج من شخصية دون كيخوتي وسانشو كما يقول جورج أورويل.

وقد برع دُوسْتُوفَسْكِي في وصف هذه الرواية قائلا: “في العالم كلِّه لا يوجد مؤلَّف أعمق وأقوى من هذا، هذه هي الكلمة الأخيرة والأسمى للفكر الإنساني، إنها أكثر أنواع السخرية التي يمكن للإنسان التعبيرَ عنها مرارةً وإذا انتهت الحياة على الأرض، وسُئل البشر هناك في مكانٍ ما: ماذا! هل فهمتم حياتكم على الأرض؟ وما الذي استخلصتموه منها؟، فيمكن للإنسان تقديم دون كيخوتي في صمت: هذه هي خلاصة حياتي، فهل يمكن لكم إدانتي عليها؟”

ـ بالإتفاق مع “كاب راديو”