بعد تجربة شعرية تخطت عتبة العقدين، اختارت الشاعرة والصحافية فتيحة النوحو الحديث عن تجربتها بسرد ذاتي في مؤلف “غبن أن نهوي”.

ويعد الكتاب سيرة ذاتية مشبعة بحب الذات والتغني بالجسد. صممت غلافه الفنانة التشكيلية المقيمة بفرنسا نعيمة الملكاوي، شكلاً جديداً في الكتابة الإبداعية للمؤلفة التي اختارت السرد بعد تجربتها الشعرية من خلال أعمالها: ” لن يستلنا العدم ” و”إليك أيها الظمأ “. فقد اختارت في هذا المؤلف أن تواجه نفسها وتضعها أمام المرآة وأن تشيعها جسدا فاتنا أمام العالم. في حديثها عن مؤلفها تقول النوحو”: المؤلف هو سرد ذاتي لعدد من المواقف التي كنت أغضب منها وعليها وأنا طفلة، ومراهقة، وصحافية وشاعرة أيضا، ومن خلالي أحاكم العديد من الأشياء بما فيه الدين والأخلاق”.

تقارب “النوحو” من خلال مؤلفها امتزاج مفهومي السعادة بالتعاسة فكلاهما وجهان لعملة واحدة بطريقة تستحضر وتسخر من أحداث مريرة وقاسية من حياتها و تبرز جوانب من شخصيتها التي لا تحب القيود وتتخلص من لغة الطوق المكبل لها في محيطها.

تضيف فتيحة النوحو في إحدى فقرات الكتاب: «قولوا لنا مدى تعاستكم نبشركم بنسبة سقفكم في الخلود»، ألا يقال إن البيوت السعيدة لا صوت لها؟ والشعوب السعيدة لا تاريخ لها؟، إذن فلنشقَ ليكن لنا صدى، لنئن حتى نستحق شهادة الحياة، ومن ثم هنيئاً لنا بسيرة التعاسة التي ستوسم أدراج التاريخ.

سجل يا زمن، نحن الكرب، وأهوالنا مضادات ابتهاجية، فيروسات اكتئابية، مدارس وجعية، منا دادائيو الهم، توحشيو الغم، تكعيبيو الحزن، نشكل من فسيفساء تصدعاتنا جدارية، و نطلق شهب مآسينا في سماء التجديد احتفاءً بشجننا العام.

لننع البهجة، لينتحب الفرح، لنجرد البسمة شرف التتويج، ولنسحق أزلية السعادة، فهكذا أراد اللقطاء لنا، طمس إشراقات التاريخ، وإخراس ثغور الحضارات، فما أحقرنا ونحن مدينون للتعاسة بوجودنا! “.

وتضيف المؤلفة ” استحضرت فيه إصرار عمتي التي كانت تود أن تزوجني، ولم أستطع أن أفصح حينها وأقول بصوت مرتفع أن عقد النكاح والرجل يشعرني بالغثيان”. مستطردة قولها ” أنا لم أحس أبدا أني امرأة ولا رجل، أحس أني جنس به آدمية أكثر.. أنا إنسانة”.

وأوضحت الكاتبة أن علاقتها بوالدتها، وحياة اليتم التي عاشتها بعد وفاتها أثرت في تكوينها النفسي، وقالت ” لم أعد أعيش أنوثتي بالمعنى الطبيعي، لأن أنوثتي انتزعت مني وأنا في سن المراهقة “. الكاتبة تبتعد الكاتبة عن أجواء النعي والجنائز و طقوس الموت التي اختطفت والدتها وهي في عقدها الرابع، وشقيقتها “ثملوث” التي تسللت وهي في ربيعها الثاني، وشقيقها حفيظ الذي هوى وهو في سنواته الخمسين “.

في حديثها عن الجسد المحموم الذي تعري باقي أركانه في نصوص ملتهبة تتشظى بحرقة الشوق معلنة ثورة الجسد في وسط يئن، مثقلا بالدين والتاريخ و جغرافية البوح، ومحاولة أن تتحرر من هذا وذاك تقول ” الجسد سواء في اللوحات أو في النصوص هو الجزء المرئي، لكن ليس هذا هو الرهان الذي ننشده. يعكس الجسد الأنثوي جمالية الخلق، لكن نختلف في أبعاده نسبيا، النفحة الروحية تحضر في اللوحات وتسمو بالجسد بعيدا عن الإيروتيكية الذي تفوح من بين مجازات بعض النصوص، فالجسد هو الخدعة التي تخفي الحقيقة، قد يرى من يتصفح الكتاب بناء على وعي جمعي بسيط مجانية الأجساد، فيما الواقع أن الجسم هو المادة التي تواري عظمة الحواس: أن ترى، أن تسمع أن تسير، أن تفرح أن تقلق، أن تتشنج، أن تتنفس أن تحب أن تلتذ وتلذذ وجميل أن تلتئم في هذا البناء كل المشاعر السفلية والعلوية “.

وفي مشهد مجتمعي ليس مألوفا لدى الغالبية ضمت النوحو في مؤلفها مشهدا صادما بحيث تتحول الزوجة إلى لعب دور العشيقة لزوجها، بعدما هجرته وقررت السكن في غرفة صغيرة بإحدى الفنادق مع ابنتها بعدما أذاقها الزوج نار العذاب”.

وجاء بـ”غبن أن نهوي”: ” لننعي البهجة، لينتحب الفرح، لنجرد البسمة شرف التتويج، ولنسحق أزلية السعادة، فهكذا أراد اللقطاء لنا، طمس اشراقات التاريخ وإخراس ثغور الحضارات. فما أحقرنا ونحن مدينون للتعاسة بوجودنا؟.

فطرز الكتابة بالنسبة لكاتبة تحترق حروف الكتابة جسدا هي بمثابة احتفاء نصي لها تقول ” إخراجها من ركنها الانفرادي على موقع أو على صفحة جريدة أو مجلة، والزج بها ضمن الكل المرحلي، من خلال عرف التدوين من ناحية، ومن ناحية أخرى الوصول إلى مرحلة الإفراغ، إذ تسكب كل الوجدانيات التي تخص مرحلة ما من حياتك ومشاعرك، لتنتقل إلى مرحلة أخرى، قد لا تكون بالضرورة شحنة شعرية بل ربما لاشيء… فترة بياض”.

تتقاطع النصوص والمجهول في فعل المباغثة لديها والذي لن يكون سوى قدرها الشخصي ” ولابد أن تواجهه وأنت أعزل من تراكماتك السابقة وإلا ستعيد نفسك ولن تتطور ” تعبر كيف ينغرس فعل الكتابة في أحشائها.

مفردات الكاتبة لن تخرج عن مدارات الأنثى المسيجة بالعشق على دروب جسد تتسربل مشاعره وعلى ايقاعات مختلفة ومساحاتُ عشقٍ رحبةٍ مكتظة بظلالٍ قاتمة بحثا عن كوةِ نورٍ تفضي الى حريةٍ ضائعة و انوثة محترقة وروحٌ محاصرة و نفسٌ عطشى .. فهي لا تخشى الانزلاق في المجهول.

في كتابتها تمارس طقساً يوميا مؤثثاً بزخات عاطفة مشبعة بالغواية و هيام العزف على أوتار المشاعر الملتهبة..وبلغة تخلع عنها ثوبها غيمة غيمة.

ففي كتاب “غبن أن نهوي” فيه الكثير من النثر الشعري بلغة موحية .. هامسة وحساسة تخاطب الوجدان وبه الكثير من التأمل الفلسفي المشحون بالوله وصبابتة وفي عتباته تدفع بالمتلقي‘إلى الغوص في أعماق الكاتبة كاندفاعات لافا بركانية تتشظى أحرفا وكتابة عن الجسد المستكين والشوق الكامن في الأعماق.

في “غبن أن نهوي”، تقر فتيحة النوحو، التي داهمتها “حالة الاستثناء” في زمن مبكر، بانزياحها، وبطردها إلى كوكب آخر (ص 19) “لا تنافق، ولا توافق أن تكون عنزة في عرمرم متعدد القطعان”، ولا تعد “الأغلال أقدارا”، و”لا شيء يبرر الظلم”، وتعتقد أنه “حتى وإن لولاه لما أدركنا فضيلتي العدل والرحمة”.

البحث عن أقاصي النفس والشغف في صباها المبكر بالمحاماة وبالفلسفة الوجودية على الخصوص وبأغاني سعيد المغربي ومارسيل خليفة والشيخ عيسى إمام يمتزج مع بطعم الخسارات قبل أن تخدش بصاحبة الجلالة وأزقتها الضيقة الصعبة التنفس، وتلوذ بالمجاز “حيث جاذبية الوجدان”.

فهي لا تزال تؤمن أن “مد الجسور يبدأ بما هو إنساني” في حربها المريرة بلا هوادة ضد الموت والألم والمعاناة وهنا جدوة الكتابة وأفقها البهي.