احتضنت مدينة الجديدة، بمبادرة من جمعية باكت آر والجمعية الإقليمية للشؤون الثقافية، بشراكة مع المديرية الإقليمية للثقافة حدثا ثقافيا استثنائيا. يتعلق الأمر بميلاد صالون مغربي للرسم و الرشم ( Estampe )، من المقرر أن تكون هذه دورته الأولى المُؤسِّسة، بغاية وضع الفن التشكيلي المغربي في موقعه الثقافي الحقيقي، من خلال الاشتغال على توفير فضاء للحوار و التفاعل بين مختلف الرسامين المغاربة و كذا مختلف المتدخلين و الفاعلين و المهتمين بهذا المجال. و على الرغم من أن الإطار الزمني لهذه التظاهرة جاء ضيقا، لم يتجاوز الأيام الثلاثة ( 16، 17 و 18 فبراير 2018) ، إلا أنه كان خصبا و ثريا، وفر للمتلقي إمكانية الاتصال بتجارب فنية متمايزة في اتجاهاتها و أدواتها و أماكنها الجغرافية، فقد ضمت أروقة العرض بالحي البرتغالي ( رواق الشعيبية طلال و رواق عبدالكبير الخطيبي و رواق بلحمدونية) لوحات فنية لفنانين مغاربة من مختلف مناطق المغرب.

                             الأزهر، أحمد الأمين ومستفيدة

شهدت التظاهرة، أيضا، ندوة صحافية أعلنفيها عن المولود الجديد، وندوة علمية تمحورت حول “الرسم والرَّشم في التعبير الفني” نشطتها الجمعية المغربية للنقد الفني، كما أتاحت التظاهرة اللقاء الفعلي و المباشر بين فنانين مختلفين، و مدت جسور التواصل بينهم و بين جمهورهم.

لكن ربما كان الأمر الأكثر أهمية هو تلك الورشات التي تخللت هذه التظاهرة، بتأطير من قامات فنية، تنتسب جميعها إلى جمعية باكْتْ آر، و يأتي على رأسها الفنان عبدالكريم الأزهر و الفنانان و أستاذا الفنون التشكيلية سعيد حسبان وأحمد الأمين. كانت هذه الورشات موجهة إلى فئة الأطفال و الشبان، محكومة بهاجس خلق مشتل للبحث عن فسائل جديدة، قد تتسلم المشعل في الزمن الآتي.

كان جميلا أن ترى فنانين من هذا العيار يجلسون بتواضع، يحملون معهم أدوات عملهم الشخصية، و كل خبراتهم التي راكموها من خلال تكوينهم الأكاديمي، و من خلال رحلاتهم الشخصية مع اللون و غوايته، يوزعونها بسخاء على الحاضرين.

كان موضوع الورشة هو الرشم (Estampe)، أو الطباعة الفنية.  و هي التقنية التي صار لها حضور قوي في مجال الفنون التشكيلية العربية، و صار لها مختصون، في المغرب و المشرق، لا يَنُــونَ يطورون أدواتها و موادها، و لكنها ما تزال مجهولة عند فئة عريضة من المتلقين.

تمتلك هذه التقنية أشكالا متعددة للحضور، لكنها تشترك في الاعتماد على سند مزدوج، يتم حفر المنجز البصري على أولها، ثم تمرير الأصباغ التي يرى الفنان أنها تلائم الأثر المرغوب إنتاجه، بكميات يتحكم في كثافتها، ثم يتم نقل هذا المنجز و طبعه على السند الختامي الموجه لعملية التلقي ( ترتيب العمليات قد يختلف). و هو ما يسمح بإمكانية تكرار المنجز في حدود المتعارف عليه، كما يسمح بإدراج الصدفة كعنصر بنيوي في الخلق الفني.

 كان هناك طاولتان في الفضاء الخلفي لقاعة الشعيبية، يؤطر واحدة منها الفنان المغربي سعيد حسبان، بينما كان يؤطر الثانية الفنان عبدالكريم الأزهر.

                                            أحمد الأمين و مستفيدون

في الأولى يكتشف الوافدون إمكانية الاشتغال باعتماد قطع زجاجية من أحجام مختلفة تشكل السند الأولي لتلقي المداد الخاص بالرشم، قبل أن يقوموا، بتوجيهٍ و تشجيعٍ من الفنان، بالتحرك على هذا الجسم الأسود القاتم، و اختراق السواد ببعض الأدوات الحادة ( فُـرش بدون شعيرات، مسامير، قطع من القصب المسنن . . . ). و عندما يكتمل المشروع يتحول هذا السند إلى مجرد سند وسيط، توضع عليه ورقة بيضاء، ستصبح هي السند الرئيس، ثم تُمرر عليه مِـدْحاةٌ جافة تقوم بضغط الورق على قطعة الزجاج ليتشبع و يتشرب المداد، و يكون المنتوج مزيجا مدهشا من الفراغات و الامتلاءات.

في الطاولة الأخرى كان الأزهر يعلم ضيوفه وجها آخر من هذه التقنية أكثر تعقيدا، السند الأولي فيه هذه المرة هو لوائح معدنية دقيقة السمك، يساعد ضيوفه في تمرير مدحاة غُـطست في مداد خاص، كثيف و لزج، يتم تمريره على القطعة المعدنية، و يحرص الأزهر على أن ينبه ضيوفه إلى الأخطاء المحتملة التي قد يرتكبها المبتدئون، كأن يتركوا بصمات أصابعهم تعبث، في غفلة منهم، بعملهم. ثم يدعوهم إلى أن يفسحوا المجال للتعبير عن أنفسهم باستخدام أدوات مسننة لحفر الموضوع، وقطعا من الإسفنج للتحكم في كثافة المداد، وتخفيفها في الأماكن المرغوبة. يلقي نظرته على العمل، ويقدم التوجيهات، وقد يقترح بعض الإضافات لخلق الانسجام بين عناصر العمل. وعندما يتحقق حد من الرضى لديه يأخذ الورقة بحرص شديد، ثم يضعها في مِضْغَطَةٍ تقليدية، تتشكل من أسطوانتين، توضع الورقة بينهما على قطعة صلبة، ثم تغطى بقطعة من اللباد، و يحرك الفنان، بعد ضبط الآلة، أذرعها، تم يستخرج الورقة من الجهة الأخرى، و ينتزع مثل حاوٍ ماهر، علامات الاندهاش من وجوه الحاضرين. وكان ملفتا جدا حرصه الشديد على التعليق على كل ما كان يقوم به، وتقديمه الشروح التفصيلية المصاحبة، وكأني به يريد أن يلقي، دفعة واحدة، بكل ما راكمه في مدارك الآخر، و يقتسم معه كل شيء. . . أما أحمد الأمين فقد كان يتحرك في كل الأماكن، و يقدم خدماته للجميع.

إن هذه التجربة الفنية، في أبعادها التربوية و التواصلية و التجميعية، قد تعيد إلى الأذهان اللحظات المجيدة في المنجز البصري المغربي، مع قامات من قبيل بلكاهية و شبعة و المليحي، في بحثهم عن المشترك و عن تأسيس ممارسة يتقاطع فيها الوعي مع التقنية، و ينفتح فيها الفنان على المبدعين المجاورين. و قد تؤدي هذه التجربة الراهنة إلى إنتاج لحظة تفاعلية جديدة تقود إلى ترقية الفعل التشكيلي في المغرب، إذا ما نجحت في تكريس العمل الجماعي، و حققت التوازن المطلوب بين الرحلات الفردية الضرورية و المهمة لكل فنان على حدة، و الرحلة الجماعية للوحة المغربية، فيغتني الفردي بالجماعي، و يغتني الجماعي بالفردي.

لقد تمكن الصالون، في نسخته الأولى، من جمع لوحات أكثر من خمسين فنانا مغربيا، و خلق روابط بين أكثر من عشر جمعيات فنية. وهذا الإنجاز وحده كاف للحكم بنجاح المبادرة؛ لأن مثل هذه النتيجة  المطلوبة و المهمة في راهن التشكيل المغربي، لا يمكن أن تُبْلَغَ إلا بمجهود كبير ومركب.

لكن، في الجانب الآخر، هناك جوانب أساءت، بمعنى ما، إلى هذا الحدث، وجعلت وهجه أضعف مما كان ممكنا. ولا بد من أخذها بعين الاعتبار في أفق تجويد النسخ المقبلة التي نريدها، بإذن الله، أكثر فاعلية وتأثيرا.

أول هذه الجوانب سوء اختيار التوقيت: فالمنظمون لم ينتبهوا إلى تزامن هذا الحدث مع حدث ثقافي كبير، يسرق عادة كثيرا من اهتمامات المغاربة، وهو المعرض الدولي للكتاب في نسخته الرابعة والعشرين هذه السنة. وهو المعرض الذي كان ينبغي للمنظمين أن ينتبهوا إلى أنه صار واحدا من أهم الأحداث الثقافية السنوية التي من شأنها أن تغطي على غيرها.

ثانيها مُرَكب مزيج من التقصير على مستوى التواصل وقصور الفعل الإعلامي محليا ووطنيا. فالخطة الإعلامية التي رافقت ميلاد هذا المولود كانت قاصرة عن أن تعطيه كل حقه، وجعلت الإقبال عليه أقل مما كان ممكنا. حتى الورشات، بكل السخاء الذي ميزها، لم تحقق دورها المبتغى بالنظر إلى أن عدد المستفيدين كان محدودا جدا.

ثالثها قصر المدة الزمنية للحدث: فثلاثة أيام غير كافية للسفر في المادة الفنية الخصبة التي نجح المنظمون في استقطابها، خاصة أنه كانت هناك ثلاث قاعات تعرض، بشكل متزامن، مادة متماثلة الثراء. وما زاد الطين بلة أن المنظمين، وبشكل غير مفهوم ولأسباب غير واضحة، قرروا تحجيم الوعاء الزمني للمعارض بإغلاق أبوابها بعد يومين فقط. أي حتى قبل استنفاذ الوقت المقرر تنظيميا. وتركوا المتتبعين عرضة للجوع البصري ينهش قَـرْنياتهم وشبكياتهم، ويسلمها للعادي واليومي، بعد أن وعدهم الملصق الإعلامي بسفر باذخ للعين وللروح.