
الشعب الجزائري على خطى إسترداد سيادته الكاملة

بعد نحو شهر و نيف من الإحتجاجات الشعبية في الجزائر، نجح الشعب في فرض إرادته و إسقاط العهدة الخامسة، بل و دفع الرئيس الجزائري “عبد العزيز بوتفليقة” إلى تقديم إسقالته عشية يوم 2 أذار/ أبريل 2019، و إخطار المجلس الدستوري بإرادته، ليبدأ بذلك مسار المرحلة الإنتقالية، فهنيئا للشعب الجزائري بهذا الإنجاز السياسي، و تحية له على رقيه الحضاري و الفكري ، و إحتجاجاته السلمية، و بنفس القدر لا يسعنا إلا أن نحيي قوات الأمن و الجيش الشعبي الجزائري على إحترامه إرادة الشعب و تفادي إستعمال القوة و إراقة دماء أبناء شعبه… وهو الأمر الذي خط لوحة نضالية و تضامنية رائعة تستحق التقدير و الإحترام، و تحية أيضا للرئيس بوتفليقة الذي عبر عن مرونة إيجابية و كان سببا في تجنيب البلاد الإنزلاق لمصير أسود، و هو ما على باقي الحكام العرب السير على خطاه فالتغيير قادم لا محالة، فالرجل سن سنة حسنة في زمن الدمار العربي و التكالب على السلطة و المناصب و المكاسب ، بتنحيه دون سفك دماء شعبه…
آراء أخرى
غير أن هذا النصر الجزئي و الفرحة التي عمت الشارع الجزائري ينبغي التعامل معها بحيطة وحذر شديدين، خاصة و أن خطاب رئيس أركان الجيش الجزائري، و أيضا باقي القوى و الهيئات السياسية المحسوبة على النظام، و التي ساهمت دون شك في رسم ملامح العقود الماضية… قد حاولت التودد للشعب و توجيه سهام النقد لما تم تسميته ” بالعصابة” ، مع العلم أن من أطلق هذا الوصف شكلوا جزءا من هذه ” العصابة “، و كانوا إلى وقت قريب ضد تنحي الرئيس بل سببا في إستمراره في الحكم رغم مرضه الشديد و الظاهر للعيان..
و لذلك، كان لزاما على الشعب الجزائري و قادة الحراك الشعبي التعامل بحذر و التنبه إلا أن يتم الركوب على الحراك المبارك، و محاولة عسكرة الجزائر بدلا من الحرص على تحقيق، إنتقال سياسي كامل و إقامة حكم مدني ديموقراطي تعددي ..كما أننا ندعو قادة الحراك و عموم الشعب إلى ضرورة الإستفادة من التجربة المصرية التي تم فيها الإنقلاب على إرادة ثورة يناير 2011، و عدم الإكتفاء بإستقالة الرئيس ” عبد العزيز بوتفليقة” بل ضرورة التأكيد على مرحلة إنتقالية كاملة ، و نعني بذلك تشكيل هيئة تأسيسية منتخبة من عموم الشعب و تشارك فيها كل مكونات الشعب الجزائري ، و تتولى وضع دستور جديد للبلاد و صياغة خارطة طريق للمرحلة القادمة، مع الحرص على تغليب منطق الحوار و التعايش، و عدم تغليب منطق التعصب و الإنقسام، و بدلا من الحرص على الإنتقام من رموز النظام القديم و حل الحزب الحاكم، ينبغي توفير هذا الجهد لصياغة مصالحة حقيقة دون أن يمنع ذلك من محاسبة المفسدين و دفعهم لإسترداد ما نهبوه، وهنا تحضرني تجربة جنوب إفريقيا، فقد كانت تجربة رائدة للإنتقال السلمي للسلطة و للمصالحة …
و بنفس القدر، ينبغي أن يستفيد الحراك الشعبي في الجزائر من الإنتكاسات التي تعرضت لها ثورات الربيع العربي، خاصة في سوريا و ليبيا و اليمن ومصر، و تشكيل جبهة موحدة بين مختلف القوى المدنية والسياسية، الإجتماعية و النقابية في البلاد، و الإتفاق على خارطة طريق للمرحلة الحالية والقادمة..
لأجل هذا فإن ترك الشارع و الإحتجاج ينبغي أن يكون مدروسا، و لا يمكن القبول بأي حال بمجرد هذه الإستقالة فهذه الخطوة غير كافية لتحقيق إنتقال حقيقي السلطة، لذلك، ندعو قادة الحراك إلى التحلي بالصبر والتسامح مع بعض تجاوزات الأجهزة الأمنية، وتفادي ردود الفعل الفورية و السريعة و غير المدروسة، كما ينبغي عدم الإضرار بالممتلكات الخاصة والعامة و حمايتها من المندسيين و تعامل قادة الحراك بصرامة مع دعاة الشغب وتقديمهم للشرطة الجزائرية بعد التأكد من هويتهم، لأنهم في الغالب لهم علاقة بأجهزة الأمن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، لأن النظام يحاول جاهدا جر الحراك إلى إستعمال العنف و بالتالي إتهام النشطاء بالإرهاب و هي الوصفة السحرية التي تتقنها الأنظمة العربية المستبدة والفاسدة..
فبنظرنا، أن النظام الجزائري في حالة إحتضار و على درجة من التفكك وتضارب المصالح، فالرئيس بوتفليقة منذ نحو 6 سنوات شبه غائب عن إدارة شؤون البلاد فهو مجرد واجهة تم إستغلالها للإستمرار في السيطرة على الحكم و إحتكار الثروة و السلطة ..و كل ذلك تم بدعم و تدخل المستعمر الفرنسي ، الذي لازال يحتكر و يستغل جزء كبير من ثروات الجزائر ، خاصة الغاز الطبيعي بحقل “أدرار” حيث أن فرنسا تستحوذ على نحو 65٪ من المداخيل و يستمر هذا الإستحواذ إلى حدود 2040..
كما أن بلدان الخليج التي تتوفر على سيولة نقدية سوف تتدخل لإحباط تطلعات الشعب الجزائري و لن تتورع في تقديم الدعم اللوجيستي و الأمني و المالي لإعادة إنتاج التجربة المصرية والليبية في الجزائر، بغرض وأد الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي، و التي إنطلقت شرارتها من الجزائر و السودان…
ويضاف إلى ذلك، أن الجزائر بلد غني بثرواته الطبيعية، خاصة الغاز الطبيعي و البترول، و دورها في تأثير على السوق الدولي مهم ، لا سيما مع استمرار القلاقل و حالة عدم الإستقرار في فنزويلا، و أيضا العقوبات المفروضة على إيران، فالقوى الدولية يهمها إستقرار الأوضاع في الجزائر لتأمين تدفق الطاقة إلى السوق الدولية بشكل سلس، و هو ما سيدفع بعض القوى الدولية إلى التعبير عن دعمها لتطلعات الشعب شكليا، لكن في الجوهر فهي ستقدم كامل الدعم لمن يخدم مصالحها و لن تتورع في دعم بعض أركان النظام القديم ماديا و معنويا بغرض ضمان السيطرة على موارد البلاد و قدراتها .. لكن هذا الدعم لن يثمر نتائج ملموسة، إذا ما إستطاع الحراك الشعبي أن يستمر في الزمان و المكان، و أن تتوجه الجهود إلى تنظيم عصيان مدني يستهدف شل او الحد من حركة إنتاج و تصدير الطاقة، بغرض دفع المجتمع الدولي و خاصة القوى الدولية المهيمنة إلى تبني موقف الحياد و ترك الشعب الجزائري يقرر مصيره و يحدد مساره و مستقبله السياسي و الإجتماعي و الإقتصادي بكامل الحرية …
وبنظرنا، فإن القيادة الحكيمة والمدروسة للحراك الشعبي في الجزائر، لها أهمية بالغة ليس للشعب الجزائري فقط، بل لباقي شعوب الإقليم المغاربي و العربي، و التي تنتظر نجاح هذه الحركة في إسقاط حكم العسكر، و ما الرئيس “بوتفليقة” إلا واجهة يتم التمسك بها للإستمرار في نهب ثروات البلاد و العباد…
وقد قلنا في مقال سابق ” أن ترشح بوتفليقة للعهدة الخامسة لن يستمر إذا إستمر الحراك الشعبي بنفس الوثيرة، وليس من المستبعد أن نسمع خبر وفاة الرجل نتيجة لتدهور حالته الصحية…فكما ضحى الجيش المصري بالرئيس “مبارك” في 2011 فمن الوارد أن يتكرر نفس السيناريو في الجزائر، خاصة وان الرئيس بوتفليقة حالته الصحية لا تسمح له بالمناورة، و عائلته لن تستطيع مقاومة الضغوط من جهة باقي أطراف النظام، و أيضا في مواجهة الضغوط الشعبية والدولية..”
فالشعب الجزائري في طور تحقيق إستقلاله الحقيقي، فإزاحة نظام فرنسا من السلطة ، هو تحرير للبلاد و ثرواتها من الطغمة الحاكمة، ومن الشركات الفرنسية ، لذلك فإن التحدي الكبير الذي يواجه الشعب الجزائري، ليس إطاحة الرئيس “بوتفليقة” فالرجل أيامه في الدنيا أصبحت معدودة بحكم تقدمه في العمر وتدهور حالته الصحية ، فالأمر أكبر و أعمق من ذلك، فالقضية تحرير ثروات البلاد من الهيمنة الفرنسية، و جعل القرار السياسي و الإقتصادي قرارا وطنيا ، يخدم مصالح الوطن والمواطنين، و التأسيس لجمهورية ثانية عنوانها الحرية والكرامة و الإستقلال التام…
و في الختام، نتمنى لهذا الشعب العظيم أن ينجح في سعيه لإقامة نظام حكم ديموقراطي، مدني و تعددي، يعبر عن إرادة الناس و يحترم التنوع و التعددية التي تطبع المجتمع الجزائري، و لابد لتحقيق ذلك من تفادي العنف فالسلمية أقوى من الرصاص و من قوة الحديد و النار، و على قادة الحراك الشعبي أن ينتبهوا إلى المندسين و الذين يدفعون بإتجاه إستعمال العنف، و الإضرار بالممتلكات الخاصة والعامة، مع الحرص على التعامل بأقصى حالات ضبط النفس مع تدخلات قوى الأمن و عدم الإنزلاق للعنف، و تبني خطاب سياسي يغلب منطق العيش المشترك و التسامح و التنوع السياسي و الفكري، و الإبتعاد عن الدوغمائية و الغوغائية و التحزب ضيق الأفق.. و مجددا تحية للشعب الجزائري الذي أبهرنا بتحضره ووعيه، و الأكثر من ذلك، أن رفع العلم الجزائري صاحبه و جواره رفع علم فلسطين، هو ما يمثل رسالة رمزية واضحة الدلالة للداخل و للخارج، ينبغي أن نتعامل معها بإيجابية وتفاؤل، فالمستقبل إن شاء الله ستصنعه هذه الشعوب العربية، فبالرغم مما مورس عليها من تضليل و ظلم، إلا أن الشعوب و هي تقاوم الإستبداد و الحكم الظالم، لا تنسى قضية فلسطين و القدس و المسجد الأقصى المبارك، و ذلك دليل على أن حياة الأمة وتقدمها و نهضتها لا ينفصل عن الدفاع عن مقدسات الأمة و العودة إلى الأصل، و الأصل، بنظرنا الإسلام و تعاليمه و توجيهاته السامقة، و التمسك بالوحدة العربية/ الإسلامية فهي مصدر القوة في حالة توافرها، و الضعف و الهوان عند غيابها…و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون…
إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق آسيوي