
يَوْمُ الأَرْض.. يَوْمُ الدم الغالي والتحدّي والصّمود
خلّد الشعب الفلسطيني فى الثلاثين من شهر مارس 2019 ذكرى يوم الأرض الثالثة والأربعين التي بدأ الفلسطينيون فى إحيائها غداة إستشهاد ستة من المواطنين الفلسطينيين في نفس هذا التاريخ من عام 1976 ، وبعد الإضراب الشامل الذي شهده هذا اليوم تفاقمت حدّة المواجهات ممّا أفضى إلى إستقدام، وإستخدام إسرائيل للدبّابات، لإقتحام القرىَ، والضِّيَع، والمداشر الفلسطينيّة الآمنة، وكلما حلّت هذه الذكرى يقوم الفلسطينيّون بفعاليات، وتظاهرات كبرى إحياءً لها ،وتحتفل معهم كلّ الشعوب الحرّة المُحبّة للسّلام التي تتفهّم مطالبَهم العادلة،وتؤيد قضيتَهم المشروعة فى مختلف أرجاء المعمور .ويعمل الفلسطينيون فى هذه المناسبة على تجديد العهد بتشبّثهم، وتأكيد تمسّكهم والإعراب عن تعلّقهم بأرضهم إخلاصاً، ووفاءً، وذوداً ،ودفاعاً عن هذه أرضهم الطاهرة التي رأوا هم وأجدادهم الصّناديد على ثرى أديمها نورَ الحياة.
آراء أخرى
قبيل حلول ذكرى يوم الأرض الأخيرة اندلعت مواجهات متفرقة بين عشرات الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة. وذلك عقب تنظيم الفلسطينيين مسيرات إحياء ليوم الأرض في بلدة المغير قرب رام الله وفى مناطق فلسطينية أخرى.وارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي،اعتداءات خطيرة فى حقّ أبناء الشعب الفلسطيني ،كما وقعت اشتباكات بين قوات الاحتلال المدجّجة بأحدث الأسلحة وبين الفلسطينيين العُزّل حيث أصيب خلالها العشرات ممّن خرجوا لإحياء هذه الذكرى التي أصبحت مثالاً حيّاً يُحتذىَ به فى الصّمود والتحدّي،والإصرار والتصدّي.
تأكيد العزم وتجديد العهد
ومعروف أنّ الجماهير الفلسطينية قد عبّرت منذ بداية إحياء هذه الذكرى لإسرائيل المتعنّتة أنها لن تتنازل عن أراضيها مهما كان الثمن غالياً، كما عبّرت عن إستعدادها للتضحية والفداء بالنّفس، والنّفيس من أجل هذه الغاية الشريفة. وقد دفعت حالات الهلع والرّعب بالكيان الصهيوني إلى رفع جدار العار ليفصلوا بينهم وبين أرضهم ، وبهدف تضييق الخناق على المواطنين الفلسطينيين الذين كتبوا، ونقشوا، ونحتوا على واجهات هذا الجدار عبارات، وشعارات، ورسومات يجدّدون فيها العهدَ، ويؤكّدون فيها العزمَ على الوفاء لأرضهم الأمّ الرّؤوم لكلّ فلسطيني أينما كان، وما فتئ الفلسطينيّون يغرسون أشجارَ الزيتون فى أراضيهم إلى اليوم،ويرفعون أغصانَها الخضراء ،وأفنانها النديّة عاليةً فى الفضاء،وتحت قباب مختلف المحافل، والهيئات، والمنظمات الدوليّة تعبيراً منهم عن حبّهم، وتمسّكهم بأرضهم ونزوعهم للسّلام . وما إنفكّت قصاصات الصّحف ، ووكالات الأنباء ،ووسائل التواصل الإجتماعية على إختلافها تمطرنا،وتعيد إلى أذهاننا فى كلّ حين شذرات من الأخبار، والأحداث التي ظلّت راسخة فى ذاكرتنا، وتعيدها إلينا فى هذا التاريخ الذي يتمّ فيه إحياء كلّ عام ذكرى يوم الأرض الذي كان صرخة إحتجاجية مدوّية صاخبة في وجه سياسات المصادرة والتهويد التي نهجتهما إسرائيل ضدّ السكّان الآمنين فى العديد من الأراضي، والقرىَ، والمداشر، والعشائر، والأرباض لإقامة المزيد من المُستوطنات الظالمة والآثمة في نطاق المُخطط الصّهيوني لتهويدها ، وتفريغها من سكانها الأصليين الشرعيّين .
أحداث تاريخية متوالية مؤلمة خبّأها القدر لأبناء فلسطين الذين تمّ إبعاد العديد منهم خارج وطنهم، وأرضهم، وعن ذويهم ، وأحبّائهم ، وخلاّنهم قهراً وقسراً،وعُنوة ، فانتشر منهم الكثير فى بلاد الله الواسعة فى غياهب المهاجر، ومنازل الإغتراب،وفي أقصى أصقاع العالم إلى أقصاه، ولكنّهم على الرّغم من نأيهم عن أرضهم ،وبُعدهم عن طنهم، ظلّوا مشدودين إلى جذورهم بالجَلد، والأناة، والتحمّل،والصّبر، والتمرّس،والتمنّع والمواجهة، والمقاومة، والتحدّى، والإصرار، والنضال الذي لا يَخبُو أوارُه ، ولا يَنطفئ لهيبُه .
يا لها من ذكريات
و نستحضر بهذه المناسبة ذكريات أليمة عاشها الشعب الفلسطيني حيث عملت الصّهيونية منذ إبعادهم وإقتلاعهم ، وإقصائهم عن بلدهم عام 1947 بلا كلل،ولا ملل، وبدون هوادة من أجل القضاء ليس فقط على هذا الشّعب وإستئصاله من جذوره ، وطمس شخصيّته ، وإجتثاث هويّته ، ومحو كلّ أثر له، بل إنّهم حاولوا محوَ حتى جغرافيته، وتغيير تضاريسها، وعملوا على تشويه تاريخه، وطمس تراثه في حملات لا تنقطع بإستعمال مختلف ضروب الحِيل، والأكاذيب،والدسائس، والخسائس، والمكر، والمكائد لتحقيق هذه الغايات الدنيئة. ثمّ إنطلقت الإنتفاضات الواحدة تلو الأخرى ، حيث طفق هذا الشّعب فى كتابة صفحات جديدة من تاريخه النضالي المجيد، حاملاً رمزَ كفاحه، وثورته، وتمرّده الكوفية الفلسطينية المُرقّطة التي أصبحت رمزاً للمحبة والسلام، والمنديل الفلسطيني المُميّز الذي تقلّده معظم المناضلين فى العالم من أجل الحرية والإنعتاق، وأغصان أشجار الزيتون الندية التي رفعها الأحرار فى مختلف المحافل الدولية ،ولم يتوان الشعب الفلسطيني فى الحفاظ على هويّته، وصَوْن جذوره ،وإستعادة ذاكرته التاريخية، والثقافية، والتراثية الجماعيّة. وما فتئت إسرائيل تنكّل بهذا الشعب بدون رحمة ولا شفقة ،وتزجّ بأبنائه وبأحفاده في غياهب وظلمات جحيم السّجون ، ليُحْرَمُوا ليس فقط من نعمة الحياة الكريمة، ومن صلة الرّحم مع ذويهم، وأهاليهم، وأحبّائهم ، بل و يُحرمون من قوتهم اليومي كذلك لسدّ الرّمق، وضمان نعمة العيش.
أمام ما أصبحنا نراه ويترى نصب أعيننا كل يوم من مآس ومجازر،وتجاوزات،واعتداءات هناك منّا مَنْ ما فتئ يذرف الدّموعَ حرّى ساخنة، وينزوي بنفسه لينظمَ كلماتٍ مسجوعةً ، مشحونة بالغضب، والحَنق، والضَنك، وتمرّ الأيام، وتنقضي الليالى، وفي رَحِمها، وخضمّها تتولّد، وتنبعث، وتستجدّ الأحداث، وننسى، أو نتناسى ما فات، وما فتئت المآسي تنثال أمام أنظارنا، وعلى مرأىً ومسمعٍ منّا ، فيشاطرنا العالمُ طوراً أحزانَنا، وأحياناً يجافينا. ويكتفي بعضُنا بالتفرّج ،والتحديق، والتصفيق، والتهليل،والتعليل، والتحسّر،والتأثّر بلغة باكية، شاكية، كئيبة، حزينة ،مخزية أمّا الآخرون فإنّهم يتعنّتون، ويتمنّعون، ويتمسّكون بكلّ مدينة عَلِقوا بها، يبسطون نفوذَهم، وتأثيرَهم ليس على الأرض وحدها، بل على الألباب، والعقول، والأفئدة ،والألسن، وهم مُتمادون فى كبريائهم ،ومُمْعِنُون فى تبجّحهم .ومع ذلك ما انفكّت لوحات الشّرف المزركشة تعلو حيطانَ دورنا، و جدرانَ قصورنا، والنياشين، والأوسمة التي تتنمّقُ بها صدورنا، ويعود بنا الزمانَ القهقرى لنعانقَ التاريخَ،ونستلهمَ منه العبرَ،والحِكمَ،والدروسَ، وننقّبَ عن مناقب لإستئناف مسيرتنا، بعد أن لقنتنا الأيام والليالي أنّ الآخرين قد إقتدّت الرّحمةُ من قلوبهم،وكأنّها قلوب صيغت من فولاذ..!
لا يسألون أخَاهم !
ما زلنا نستذرّ عطفَ العالم ورضاه، ونستجدي رحمته وشفقته ، ونصف له فداحةَ الموقف، ومضض الأهوال،وسوء الأحوال ، وشظف العيش،وقساوة الفظائع التي تُرتكب في حقّ شعبٍ أبيٍّ عانىَ الكثير من أجل أرضه الطاهرة وحقه المشروع ، إنّنا قومٌ مُنبهرون، مَشدوهون، منشغلون بإخماد الأوار المُستعر فى مياديننا،وساحاتنا وحول مرابضنا، وأرباضنا ونواحينا وأصقاعنا .
الشقاق ما فتئ ينخر فى صرح الوحدة الفلسطينية المنشودة، ويحدث شرخاً عميقاً فى جدار التقارب، والتصالح، والتصافح، والتداني، والتصافي، و يحول دون إقصاء التجافي، وإلتئام الفصائل ولمّها ،والبحث عن البدائل،وتسخير وتفجير الطاقات، وإستغلال الخِبْرات ، تاريخنا حافل عتيد، وماضينا تالد مجيد ، وتراثنا زاخر باهر،. إننا قومٌ كُثر ، والكثرة كانت دائماً تعني القوّة، قال قائلهم: ( لا يسألون أخَاهم حين يندُبهم / في النائبات إذا قال برهانَا…) ! وقال آخر: ( حُشدٌ على الحقّ عيّافُو الخَنَا أنُفٌ /إذا ألمّت بهم مَكرُوهةٌ صَبرُوا….) ! (وأردف آخر: ( وأقسم المجدُ حقّا ألاّ يحالفُهم /حتى يحالفَ بطنَ الرّاحَة الشّعرُ..) ! وأضاف آخر: ( تُعيّرنا أنّا قليل عديدُنا / فقلت لها إنّ الكرامَ قليل…)! على الرّغم من هذه الذخائر،والمفاخر ، فإنّ عيداننا ما هشّة، ضعيفة، طريّة، واهية، رخوة ، وما برحنا ننطلق بلا بَوْصَلة نحو بطولات خيالية دونكيشوتية وهمية بالية..!
لابدّ للقيد أن ينكسر
كلٌّ واحدٍ منّا يحملً صخرته على ظهره ويمضي، وها قد غدا وجهنا شبيهاً ب «الجيُوكاندا» لا هو بالحزين الواجم ، ولا بالجَذِل بالباسِمِ ، لا هو بالوجه الباكي، ولا بالمُحيّا الشّاكي، لقد أضنتنا الهُموم، ولازمتنا الهواجس،وأثقلت كاهلنا الآلام، كنّا رحماء بأنفسنا، وأقربائنا ،نذوذ عن حوضنا، وجيراننا ، مشهود لنا ،ومشهورون بالصّفح ،والتصافح، والتسامح والإيثار..! رحماء مجبولون على الجَلد إلى جانب اللين، والبأس، والشدّة، والقوّة والرّخاوة، والصّلابة والطراوة.! ،هذه الثنائية طالما تغنّى بها شعراؤنا الأقدمون وما زلنا نردّد معهم فى كلّ حين إلى اليوم ونقول : نحنُ قومٌ تذيبنا الأعينُ النّجْلُ /على أنّا نذيبُ الحديدَا… طوعُ أيْدى الغرامِ تقتادنا الغيدُ / ونقتادُ في الطِّعان الأسودَا… وترانا يومَ الكريهة أحراراً / وفي السِّلمِ للغوانيِ عبيدَا…!.. ومع ذلك ما برحنا ننتظر بشقّ الأنفس بزوغ صبح ناصع قريب لهذ القضية العادلة ،قضية شعب بُترت أراضيه قهراً وقسراً ، وسُلبت منه حقوقه التاريخية المشروعة، ولاجَرَمَ أنّ الحقّ آتٍ لا محالة، ولابدّ للّيل أن ينجلي، و لابدّ للقيد أن ينكسر،ولابدّ للقدَر أن بستجيب .
كاتب،وباحث، من المغرب ،عضو الأكاديمية الإسبانية –الأمريكية للآداب والعلوم –بوغوتا- كولومبيا.