تشكل القرارات التي اتخذها ترامب منذ توليه رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية قطيعة مع السياسة الأمريكية التي كانت تجنح للتوسع والهيمنة والحضور القوي في كل المؤسسات الدولية، بل لُقبت بشرطي العالم الذي يضبط إيقاع كل تحركات القوى الدولية من الناحية العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية .. لكن الملاحظ أن السياسة الخارجية الأمريكية أصبحت تنحو نحو العزلة الدولية من خلال سياسة الانسحاب التي ميزت إدارة ترامب.

أجزم القول منذ البدء أن الولايات المتحدة الأمريكية مازالت مهيمنة، بل هي القوة العالمية الأولى على كل الأصعدة والمستويات المالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية، وأن مقالتي هذه لا تنصب في اتجاه إعلان بداية اندحار أمريكا لأن هذا بكل بساطة يحتاج إلى مقدمات موضوعية وشروط ذاتية مازالت غير متوفرة. فالولايات المتحدة الأمريكية مازالت متحكمة في قواعد النظام الدولي، وما زالت هي القوة العسكرية الأولى في العالم، ومازالت متحكمة في الأسواق المالية، ومازال الدولار يحظى بمصداقية كبيرة في التعاملات المالية العالمية … بل إن قرارات الإدارة الأمريكية وحتى النقاش السياسي الذي يدور بالكونغرس بضلعيه: مجلس الشيوخ ومجلس النواب وحتى الإعلام الأمريكي يحظى بمتابعة كبيرة واهتمام خاص من صناع القرار في مختلف بقاع العالم.

لا يعني هذا غض الطرف عن العديد من القوى الصاعدة بالعالم التي بدأت تنافس الولايات المتحدة وعلى رأسها الصين والهند والاتحاد الأوربي واليابان وتركيا ومجموعة البريكس، دون إغفال العودة القوية لروسيا على الصعيد الدولي والدور الكبير الذي تقوم به في إعادة التوازن للعلاقات الدولية .. بل أتجه في تحليلي إلى عناصر دقيقة وقرارات سيادية للولايات المتحدة الأمريكية التي غيرت سياستها تجاه حلفائها وتجاه العالم في صورة لم تعُد ترى فيها سوى نفسها غير مكترثة بهذه القوى الصاعدة ولا بمصالح حلفائها التقليديين.

لا أقصد هنا بالتوسع البعدَ الإمبريالي كما كانت عليه بريطانيا التي لم تكن الشمس تغرب عن امبراطوريتها، ولا حتى إخضاع الدول .. ولا كذلك الاستعمار عن بُعد أو كما أسميته في إحدى مقالاتي بالكولونيالية الجديدة، بل أعني به الحضور الأمريكي القوي في العديد من بقاع العالم عسكريا واقتصاديا، بالإضافة إلى الحضور الوازن في مؤسسات النظام الدولي.

هي وضعية إذن وجدت الولايات المتحدة نفسها فيها متأرجحة بين سياسة النفوذ والهيمنة من جهة، وبين خيار الانسحاب والعزلة الدولية الذي وسم السياسة الجديدة لترامب. هذه السياسة التي أثارت سخط الحلفاء قبل الخصوم. هي براجماتية بعيدة عن كل القيم التي كانت تدافع عنها بلاد العم سام وحلفاؤها الغربيون لعقود من الزمن.

شعار “أمريكا أولا” ضرب عرض الحائط عمليا بكل مصالح الحلفاء التي كانت تحميها الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تعد السياسة الجديدة لأمريكا ترى سوى المصالح المباشرة والضيقة للأمريكيين، مما حدا بالعديد من الحلفاء السابقين إلى التراجع إلى الخلف والبحث عن تحالفات جديدة أو تنسيق الجهود للحفاظ على المكتسبات الاقتصادية، وخير مثال على هذا ما يقع للأوربيين بعد إعلان ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني.. لقد أفرغ شعار ترامب – أمريكا أولا – الولايات المتحدة من التزاماتها الدولية، وجعلها تحتمي بحدودها الجغرافية في ظل التحديات العالمية التي لا تعترف بهذه الحدود كتغير المناخ والعولمة والرقمية والهجرة .. ولعل أكبر تجسيد لدور العزلة الأمريكية هو طلب بعض المراقبين تغيير اسم مجموعة الدول السبع باسم مجموعة 6+1

لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية في مراحل سابقة تنزل بثقلها في كل المنظمات الدولية ومؤسسات النظام الدولي العام، وكانت دائما تعيِّن الشخصيات السياسية المرموقة فيها، وذلك بغية تعزيز قوتها وفرض هيبتها وترجمة هيمنتها .. لكن ترامب اختار أقصر السبل للتعبير عن مصالح أمريكا وهو الانسحاب مدعيا أن الكرسي الفارغ سيظل يفاوض لفائدة مصالح بلده !!

لقد أعلن ترامب الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ في يونيو 2017 متذرعا بأن الشعب الأمريكي هو من سيدفع ثمن هذه الاتفاقية، وأنها ستقضي على 6 ملايين وظيفة صناعية، وبهذا تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد تخلت عن “القيادة الأخلاقية” التي ستضر بلا شك بصورة أمريكا وجهودها الدولية والدبلوماسية.

وانسحبت و م أ من المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة/اليونسكو أواخر سنة 2017 بسبب ما اعتبره ترامب “استمرار الانحياز ضد إسرائيل في اليونسكو”؛ كما انسحبت بنفس الذريعة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة شهر يونيو 2018 بسبب ما قالت إنه “انحياز المجلس ضد إسرائيل” وبرَّر ترامب ذلك بكون مجلس حقوق الإنسان ينتهج ” الانحياز المعادي لإسرائيل ويشن حملة ممنهجة ضدها” !! هذا المجلس تأسس في 15 مارس 2006 كهيأة حكومية دولية داخل منظومة الأمم المتحدة مسؤولة عن حماية حقوق الإنسان في جميع أرجاء العالم، ويتناول حالات انتهاكات حقوق الإنسان ويقدم توصيات بشأنها.

بالإضافة إلى ذلك، أعلن ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران في ماي 2018 . ذلك الاتفاق الذي بذل باراك أوباما مجهودا كبيرا استمر لسنين طويلة من أجل إبرامه، ينسحب منه خلَفه بتغريدة في وسائل التواصل الاجتماعي .. وقد خلف هذا الانسحاب تداعيات كبيرة على المصالح الاقتصادية الأوربية، نظرا لتحكم أمريكا في النظام المالي العالمي ونظرا كذلك لسلاح العقوبات الذي تخشاه كل الدول.

وأعلنت و م أ في أكتوبر 2018 احتمال الانسحاب من اتفاقية حظر الأسلحة النووية المبرمة مع روسيا سنة 1987.. بسبب الادعاء بأن روسيا لم تلتزم بالاتفاقية، جدير بالذكر أن هذه المعاهدة دخلت حيز التنفيذ عام 1988 ويلتزم طرفاها بعدم صنع أو تجريب أو نشر أي صواريخ باليستية نووية متوسطة المدى ..

وجاء إعلان انسحاب أمريكا من سوريا بشكل تدريجي ليؤكد مسلسل الانسحابات الذي أصبح ثابتا في السياسة الأمريكية الجديدة، انسحاب يعكس ضعف أمريكا وعدم قدرتها على المضي قدما في كل جبهات الصراع التي فتحتها داخليا وخارجيا. وهو الذي يعكس حقيقة سياسة ترامب التي لا ترى في السياسة الدولية سوى جملة من الصفقات دون إيلاء أي أهمية لمصالح الحلفاء .. وهنا تأتي زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون لتهدئة إسرائيل بعد إعلان الانسحاب .. أما السعودية وفرنسا وبريطانيا والأكراد .. فلا داعي لأخذ رأيهم أو تبرير الموقف أمامهم.

ويأتي تشييد الجدار بين أمريكا والمكسيك ليبيِّن أن ترامب ينحو بنفسه في اتجاه مزيد من الانغلاق والتقوقع على الذات في زمن العولمة والرقمية، وهذا يترجم موقفه المتطرف من قضايا الهجرة والمهاجرين، وهي الورقة التي ظل يلعب بها طيلة حملته الانتخابية.

سياسة الانسحابات المتتالية لأمريكا تعكس براجماتية ترامب وتملصه من كل القيم التي تبجحت بها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي بوأتها “القيادة الأخلاقية” للعالم عبر عقود من الزمن. لكن اليوم تسقط أوراق التوت عن عورة السياسة الأمريكية لتكشف المثالب والعيوب وزيف كل الأطروحات التي شنفت آذان العالم.