تعتبر حملة المقاطعة التي تشهدها مواقع التواصل الاجتماعي لمُنتجات ثلاث شركات كبرى بالمغرب منذ أكثر من شهر صيغة فعالة من صيغ الممانعة، كما تُشكِّل إرهاصا شعبيا  لبزوغ رأي عام رقمي مؤثر وفاعل في الحياة السياسية المغربية.

إنها صرخة قوية في مغرب اليوم .. هزة بارتدادات قوية طالت كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية؛ إنها  – في نظري – أحد أوجه أزمة السياسة في المغرب. فما يجري في المغرب يعكس بوضوح أزمة الديمقراطية، وأن التدافع السياسي والصراع الانتخابي لا يتم وفق القواعد المطلوبة، وأن أعطابا كثيرة تطال المشهد السياسي والعملية الانتخابية والتمثيلية السياسية؛ كما تشكل في أحد أبعادها رفضا لتدجين الأحزاب السياسية والوصاية على المشهد الحزبي.

إن  المقاطعة بحسب دلالتها في علم السياسة تُستعمل للضغط من أجل تغيير سياسة تجاه قضية من القضايا،  فما هي هذه القضية/القضايا التي تسعى هذه المقاطعة لإثارتها، وما هي الأهداف التي تتغييى تحقيقها؟ ومن يقف وراءها؟ وهل حققت الغايات التي رُسمت لها ؟؟

أجزم القول منذ البداية بأن المقاطعة بشكلها الحالي احتجاج سياسي وردة فعل عنيفة ضد مشروع الهيمنة على الحياة الحزبية بالمغرب، المشروع الذي فرض عزيز أخنوش على رأس حزب التجمع الوطني للأحرار في غفلة من الجميع بعدما أزاحت الانتخابات الأخيرة ورقة التوت عن عورة الأصالة والمعاصرة، وكشفت عدم قدرة هذا الحزب على قيادة مشروع الدولة؛ عندئذ انتقل أخنوش إلى واجهة المشهد السياسي المغربـــي – وبدون مقدمات – حيث فرض بلوكاجا ممنهجا على بنكيران، ومنعه من تشكيل الحكومة عقب الانتخابات التشريعية 2016، وفرض حالة من الفوضى داخل حزب العدالة والتنمية تحولت إلى حرب طاحنة ما تزال مُستعِرة بين اتجاهين أحدهما يقوده رئيس الحكومة سعد الدين العثماني والآخر يتزعمه عبد الإله بنكيران؛ في حين فتح التجمع الوطني للأحرار حضنه لأفواج الترحال السياسي من كل لون ومن كل الأصقاع الحزبية، كما تحول أخنوش في لمح البصر إلى صاحب الحل والعقد متسيِّدا المشهد السياسي والإعلامي، بل إن البعض حسم في تسميته رئيسا للحكومة المقبلة.

هذا المشروع كذلك نقل الاتحاد العام لمقاولات المغرب CGEM التي تترأسها آنئذ مريم بنصالح إلى واجهة الأحداث، بل رماها في قلب العاصفة التي أطاحت ببنكيران، إذ لم تنأ هذه المنظمة المهنية بنفسها عن معمعان الصراع السياسي بالمغرب ولم تلزم الحياد المطلوب..

إذن فهذه الحملة لها مقدمات تُؤسِّس لها، وأعتقد جازما أنها بلون السياسة، لكن احتضان المواطنين لها مبني أساسا على الأوضاع الاجتماعية المزرية التي يعيشونها في ظل ارتفاع الأسعار وتدني القدرة الشرائية لعموم فئات الشعب المغربي، وغلاء المعيشة الذي أخذ مسارا تصاعديا.. إضافة إلى الإحباط الذي أصاب المواطن إبَّان البلوكاج الحكومي، وما تبعه من مناورات نجحت في إبعاد بنكيران عن الواجهة، ونَقل المعركة إلى داخل حزب العدالة والتنمية، لكنها أبعدت المواطن كذلك عن دائرة المشاركة السياسية وفرضت عليه قسرا خيار المقاطعة من منطلق لاجدوى العملية السياسية برمتها.

حملة المقاطعة التي استهدفت شركة موزعة للغاز والبنزين، وشركة مصنعة وموزعة للمياه المعدنية، وأخيرًا شركة منتجة للحليب ومشتقاته تمت الدعوة إليها افتراضيا وتم تنفيذها على أرض الواقع .. هذه المقاطعة لا تكشف أن باعثها هو العمق السوسيو اقتصادي – رغم أهميته – لكنها في المقابل تعكس نوع الصدام القائم في حقل السياسة بالمغرب والقائم أساسا حول إشكالية الديموقراطية والتمثيلية السياسية في المغرب.

فهي مقاطعة جزئية لا تشمل المنتوجات الأخرى من الصنف نفسه، كما أنها انتقائية لا يمكن أن تخدم بالأساس إلا تصفية الحسابات السياسية، ولنقل نقل الصراع السياسي إلى ملعب جديد.

كنا ننتظر التعجيل باستقالة أو إقالة بعض الوزراء وعلى رأسهم وزير المالية المنتمي لحزب أخنوش بسبب تصريحاته غير اللائقة، وأخنوش نفسه لأن السياسة التي انتهجها في القطاعات التي يشرف عليها لم ينل المواطن البسيط منها غير التفقير والتجويع، ولننظر خلال هذه السنة فقط إلى أسعار الخضر والفواكه والسمك التي ظلت ملتهبة .. فهل هذه هي نتيجة المخططات الخضراء والزرقاء؟؟؟

لقد جاء رد الحكومة على حملة المقاطعة استفزازيا وغير مناسب البثة. وأن عليها تحمل المسؤولية باعتبارها من صب الزيت على النار، بل عليها أن تحاسب ما دام الدستور يتحدث عن ربط المسؤولية بالمحاسبة.

من جانب آخر، لا يمكن فصل حملة المقاطعة هذه مع الاحتجاجات التي شهدتها العديد من المدن المغربية كالحسيمة  وزاكورة وجرادة .. فهي امتداد طبيعي لها في ظل عدم نجاعة المقاربة المنتهجة من طرف الدولة. هذه المقاربة التي ترتكز بالأساس على أن الاستقرار مرتبط جدليا بالجانب الأمني دون التفاعل مع مطالب المحتجين وأن “هبة الدولة” من يفرض هكذا مقاربة.

أما فيما يخص تأثير هذه الحملة على الشركات المقاطَعة فهو كبير جدا على عائداتها وعلاماتها التجارية وأنشطتها الاقتصادية وأسهمها في البورصة. وبالتالي فالخسائر تقدر بالنسبة لكل شركة بمئات ملايين الدراهم تتضاعف حسب استمرار الحملة. أما تأثير المقاطعة على الاقتصاد الوطني فعلى عكس ما ذهبت إليه الحكومة، فإنه يبقى محدودا نظرا لعدم تشغيل هذه الشركات ليد عاملة مؤثرة من جهة، ونظرا لوفرة الحليب ومشتقاته في السوق المغربية لعلامات تجارية أخرى من جهة ثانية.

الخطير في الأمر أن تستمر المقاطعة كأسلوب احتجاجي على تردي الأوضاع بالبلاد لتعوِّض كل أساليب الاحتجاج المعروفة، فتطال مساحات يمكن أن تكون واسعة من الحياة العامة سواء على مستوى الاقتصاد أو السياسة والإعلام أو الثقافة والفن، فيتقزم دور الأحزاب والنقابات والجمعيات الحقوقية التي ستجد نفسها عاجزة عن فعل أي شيء أمام مثل هذه الحملات الجارفة.

والخطير جدا أن يصل لهيب هذه الحملة إلى الانتخابات المقبلة، فيتعاظم حزب المقاطعين في مواجهة كل الأحزاب السياسية، فتنبري مواجهة جديدة بلغة جديدة وأساليب جديدة وأشكال دعائية جديدة من شأنها بكل تأكيد بعثرة كل الأوراق والحسابات، سواء حسابات الدولة أو الأحزاب السياسية. وهو ما سيدفع بالتأكيد إلى إحداث رجة كبيرة في المشهد السياسي.

كنت أقول دائما إن المغرب مطالب – أكثر من أي وقت مضى – بتعزيز مسلسل الإصلاحات بعد المصادقة على دستور 2011 والانفتاح أكثر على كل الفاعلين السياسيين، واعتماد الإشراكية لتوسيع دائرة المشاركة السياسية وتقليص حجم وقوة الكتلة الثالثة. أما الاتجاه الذي يعتبر أن سقف المطالب الذي لامسته الإصلاحات الدستورية الأخيرة كان مرتفعا، وأنه حان الوقت لاسترجاع العديد من الصلاحيات – بشكل منهجي وممنهج – فإنه سيؤدي بالبلاد إلى مزيد من التوترات، بل وسيضر بالمكتسبات التي تحققت تحت شعار الاستثناء المغربي.

 كنت أقول إن البلوكاج الحكومي الذي استمر في الزمن مدة غير يسيرة ستكون له تبعات خطيرة على التجربة الديمقراطية المغربية، وأن الرابح الأكبر منه هو حزب المقاطعة. كما أن كل الاحتجاجات التي عرفتها المدن والمناطق المغربية كانت تفرض على الحكومة التعاطي معها بشكل استباقي والتفاعل معها بشكل إيجابي بعيدا عن كل مقاربة لا تدعم الاستقرار.  أما كل التوجسات والتحليلات التي تمتح من نظرية المؤامرة فلا يجب على الدولة أن تدفع بها لتحجب الحقائق على الأرض . في حين تحتاج الحكومة إلى الكثير من التعقل والكياسة حتى لا تُسهم في إثارة الفتنة وتأزيم الأوضاع كما فعلت في حراك الريف وحملة المقاطعة بسبب التصريحات اللامسؤولة لرئيسها وأعضائها.