لم يكن الربيع العربي رهانا خاسرا البتة.  ولو أزعجتنا قتامة المشهد الدموي في كثير من محطاته البارزة، لأنه حتمية تاريخية لم يكن بالمتاح محاصرتها أو وأدها، رغم ما قد يظهر من تراجعات أو انتكاسات هنا و هناك توحي في ظاهرها بانسداد مسار التغيير.  فالتاريخ سيرورة ارتدادية وليست خطية وهي تنمو بتراكم ارتداداتها ونضوجها عند محطة لا نقدرها نحن. 

ومن أسوأ تلك الارتدادات وأثقلها خسارة على الوطن أن تنفصم مادة المجتمع و نسيجه فيما يحاكي الاستقطاب الفصائلي المقيت.  وهذا ما يحصل راهنا بصور مختلفة لكنها مأساوية لا حد لفجاعتها.   وها هي مصر كعادتها تبادر لتقديم صورة قاتمة عن انشطار مادة الأمة فيما يشبه حربا أهلية ، و هي تردد لحنا لأحد أشهر مطربيها وهو يغني “احنا شعب و انتو شعب!” ملمحا بل محرضا على قتال بين أبناء الوطن الواحد.   أما النموذج اليمني ثم السوري ثم الليبي فلا حاجة لمزيد تفصيل بشأنها. 

فلنعد للتجربة المغربية الفريدة حقا.  ثم لنتساءل : هل لا زلنا شعبا واحدا؟ أمة واحدة؟ هل استطعنا الحفاظ على بيضة الوطن و نحن نخوضا سجالا سياسيا قويا، بل و خرج بعضنا للشارع بسقف أو بما يتجاوز كل سقف؟ هل انشطرت خلية المغاربة حتى ظهر بيننا من يخطط لمحو الطرف المقابل؟  أسئلة مزلزلة لكنها واقعية جدا،  بالنظر للتجارب المحيطة بنا و التي بلغ فيها الخلاف حد التطاحن و التشفي بجزر الغريم. 

أسوأ ما يمكن أن يرتد نحوه مسار التغيير في بلدنا هو تلك الحالة من التشاحن المسقطة لكل معاني الشراكة في الوطن.

أظهر الحراك السياسي الشعبي الذي قادته حركة 20 من فراير حالة من المواجهة بين معسكرين، أحدهما فضل التماهي مع النظام الحاكم في تبني شعاراته والدفاع عنها باعتبارها رصيدا تاريخيا و شرعيا منفتحا على الحداثة .  وثانيهما تشكيلة من المعارضات التاريخية للنظام ،  بشعارات مختلفة تستند على مرجعيات متناقضة لكنها حافظت على أرضية تلتقي عندها.   وفي الوقت الذي أظهر فيه الفسطاط الرسمي تماسكه المعهود المؤسس على “ثوابت المملكة” عاش الفسطاط الممانع حالة من عدم الانسجام على مستوى الخطاب و الرؤية السياسية لآفاق الحراك.   لكن وضعا فريدا أطر كل هذا ،  و هو ذاك الاحتضان الشعبي الذي حظي به هذا الأخير في مساره الممتد لا حد عشر شهرا من التوهج.   لم تكن تلك الحشود الهادرة في شوارع المملكة من المناضلين الملتزمين، بل هي خليط من ذاك وغيره من أبناء و نساء هذا الوطن الذين اطمأنوا لسلامة الشعارات والمقاصد المنشودة ، فانخرطوا بجد و صدق وبصموا على مسار احتجاجي سلمي واستثنائي في تاريخ المغرب الحديث.  وهذا في تقديري هو الذي قرب الهوة بين شركاء الحراك و منع ظهور خطابات الاستئصال والمحو والسحق داخل الفسطاطين معا.   

كان الخطاب الاحتجاجي حريصا على صون قرينة البراءة للجميع، وأحقية الجميع بالانتماء للوطن ونشدان الخير لكل المغاربة والقبول بالشراكة فيه.  و لم يرفع قط أي شعار انتقامي أو تحريضي من أي جهة كانت.  بل ان المحتجين كانوا يتلقون الضربات تلو الأخرى جراء التدخلات العنيفة لقوات الأمن ولم نشهد يوما هدرا لدمائهم أو تخوينا أو تكفيرا لأحد منهم منفذا كان أو موجها. 

بالموازاة مع الفعاليات الميدانية بالشارع  نشطت الآلة التواصلية والدعائية لكل الأطراف تقريبا.  بين داع للمشاركة ومحرض على المقاطعة،  بين مقر بشرعية المؤسسات الحاكمة ومنكر لها.   لكن الجميع كان حريصا على خطابه ان يقع في مزلق الحرب الاهلية.   بحيث لم نجد حالات يخاطب فيها طرف سياسي أهله وعشيرته ،  حيث يتحرى كل فريق شمول دعوته المغاربة جميعا ،  مستحضرا معطى التنوع الحاصل فيه ،  و هذا رصيد أدبي لا ينبغي التفريط فيه مطلقا. 

أسوأ ما يمكن أن يرتد نحوه مسار التغيير في بلدنا هو تلك الحالة من التشاحن المسقطة لكل معاني الشراكة في الوطن.   ذاك ما نخشاه،  واثقين من استحالة حصوله بيننا إلى الحد الذي يجعل من أحدنا يشمت لفجيعة غريمه و يشجع على إبادته كليا.   غير أن المتتبع للحالة المغربية يقف على صور راقية من التداعي والتنادي الإنساني الرفيع في حالة الإجهاز على حق أو غمطه،  على الأقل داخل الفسطاط الممانع بيسارييه وإسلامييه،  و هذا رصيد إنساني باذخ. 

نحن بخير على ما يبدو.  مجتمع واحد رغم تنوعه.