كُلُّنا، أو أغلبنا، يَعلم، أن مغاربةَ “الآيفون” و”الكلاكسي” و”الفيسبوك” و”3ج” خاصموا فِعلَ القراءةِ، خاصموا قراءةَ الأدب، وخاصموا الاطلاعَ على أُمّهاتِ كتب الفكر والعلوم الإنسانية. نعم، المغاربة فَعَلُوا هذا الأمر، ولعل الرّقم الذي خرجت بهِِ المندوبية السّامية للتّخطيط حول القراءةِ والقُرّاء في المغرب يؤكد ما قلنا، ويجعلُ من أمّتنا، رعاها الله، تتذيلُ قائمة باقي الأمم. وعليه، فإن هذا الأمر يجعلنا نتساءل حول عِلَلِ هذا الخصام وهذا الهجران؛ معرفة من المسؤول عن هذا الخصام؟ وهل مَن مصالحٍ له في ذلك؟ وهل لنظام التربية والتكوين في المغرب يدٌ أو رجلٌ في هذا الخصام؟

بتعبيرٍ دقيقٍ وجامعٍ، هل يمكنُ أن نتحدّث عن سياسةٍ خفيةٍ تتغيى إبعادَ أبناء المغاربة عن قراءة الفكر والأدب؟

ردّاً على ما تقدّم من الأسئلة، يمكن أن ننطلقَ من فرضيةٍ مقتضاها أنه توجد اليوم، “سياسةٌ فوقيةٌ”، “سياسةٌ خفيةٌ” لها أهداف ومرام من هذا التقهقرِ وهذا التّخلف، سياسةٌ تتغى أولاً وقبل أيَّ شيء “استحمار” واستغباء الفرد المغربي، لأن في عدم “استحمارِهِ” وعدم استغبائهِ مشكلاً كبيراً لهذه السياسة.

قبل أن نقف عند هذه السّياسة، وقبل إِبَانة الأدوات التي تتكل عليها لتنفيذ علمية الاستغباء و”الاستحمار”، دعونا نذكر بشيءٍ، لعل في التذكيرِ تنوير، ولعلكم تدركون جانباً من خبثِ ومكرِ هذه السياسة الثّاوي وراء خطاباتٍ مَعْسُولةٍ ورنانة.

لا مراءَ أن أغلبنا يَعلم أن البشرية عبر تاريخها الطّويل، خلّفت وراءها تراثاً فكرياً في شتى المجالاتِ والمناحي الفكرية؛ فهذه بلاد الإغريق، خلفت وراءها نظريات فلسفية لم تُجَبَّ رغم مُضيِّ الزمنِ وتَتَالِي القرون، مثلما تركت شعراءً وفلاسفة من قبيل “هوميروس” و “أفلاطون” وغيرهما.. وهذه مرحلة سُمّيت –جزافا- بالجاهلية أنتجت شعراً عربياً اخترقت أبياته الزمن.. وهذه مرحلة الأمويين والعباسيين تركت وراءها فكراً بُني عليهِ الفكرُ الإسلامي وغيرُ الإسلامي لاحقاً.

بعد كل هذا، بعد أن تركت الأممُ ملايين من كتبِ الأدبِ (شعر، رواية، قصة…) وملايين كتب الفكر، يأتي وزيرٌ مغربيٌّ ليقولَ إنه لا فائدةَ ولا جدوى من العلوم الإنسانية والموادِ الأدبيةِ، ولا طائلَ منها ولا مستقبل لها! لا فائدةَ من التّاريخ، لا فائدةَ من علمَيْ الاجتماع والنفس، لا فائدة من الأنثروبولوجيا، لا فائدة من العلوم السّياسية… الخ. نعم، خرج معاليه بتصريحه المُتسرع والفاقِدِ لأبسطِ شروطِ العلميةِ والموضوعية وقال ما قال. فهل يمكن أن نعتبر الوزير “الإخواني” أكثر درايةً واستشرافاً من المُفكرِ الفرنسي جاك ديريدا Jacques derrida الذي ألح على ضرورة الإنسانيات في الجامعة (في خطابه في جامعة ستانفورد Stanford تحت عنوان الجامعة بدون شرط Sans condition )، لأنها هي من تنمي روحَ النقدِ والمبادرةِ المعقوليةِ…إلخ.

إن ما يغيب عن كثيرٍ منا هو أن قول معاليه، لم يكن هكذا، دُونَمَا سَبَبٍ؛ فهو يعلم تماماً أن هذه المواد التي قال بعدم جدواها، هي بالإضافةِ إلى كونِ أصحابِها يشكلون خطراً عليه وعلى أمثاله، بحيازتهم للأدواتِ التي تمكنهم من معرفةِ تلاعباتهم السياسية، فهي أيضاً، مواد تعدّ بمثابةِ الطبيبِ الذي يُشخص مختلف الأمراض الاجتماعية، وتعمل على تحليل وتفسير هذه الأمراض.. بالتالي الكشف عن المستور، وهو الأمر الذي لا يريده معاليه وباقي “معاليات” زملائه في الحِرفة.

إن المُتَتَبّعَ للمسارِ الذي يسيرُ فيه التعليم المغربي، تظهر له منذ الوهلةِ الأولى السياسة المُتَّبعة لتجفيفِ ينابيعِ الفكرِ الإنساني وكذا المواد الأدبية. سياسةٌ أو لنقل “جريمة” تُرتكب في حقِّ التلاميذ (أبناؤنا) عندما يتم توجيههم، أو قل حَشْرُهم ضمن موادٍ علمية، بِتِعِلّة سمو الأخيرة مقابل كدر المواد الأدبية!

إن أظهر ظواهر هذه السياسة المتسرعة (=الجريمة) تنجلي عندما يتم اختيار المتفوقين من التلاميذ لمتابعةِ دراستِهِم في الموادِّ العلمية، وإن كانت لهم ميولات أدبية رائعة، وفي مقابل ذلك، يتم توجيه تلاميذ دون المستوى للمواد الأدبية. وهنا طبعا تبدأ أزمة المواد الأدبية وأزمة العلوم الإنسانية، وتظهرُ دونيتهما في من يمثلهما لا فيهما هما بالذات.

وطبعاً لأن أغلب المحشورين في المواد الأدبية دون المستوى، ولأن من حُشروا في موادٍ علمية لن يَحلموا بتلقينِ أسسِ القراءةِ أو تنميةِ حسِّ القراءةِ فيهم، ولن يحلموا ولو بإطلالةٍ صغيرةٍ على تاريخِ الأممِ أو على الأقل تاريخ العلوم، فإنه من الطبيعيِّ أن تنقرض القراءة في المغرب، ومن الطبيعي أن نشاهد المغربي يستهزئ من فعلِ القراءةِ، معتبراً إياهُ مجرد “موضةٍ” أكل عليها الدهر وشرب.

في ماذا تنفع التكنولوجيا والتقنية مجتمعاً، يعيش أفراده بدون قراءة أمهات الكتب الأدبية من شعرٍ وروايةٍ…؟ مَن سيفسر لنا -مثلاً- التطرف والتعصب الديني؟ ومن سوف يفهم تنامي ظاهرةً مثل الانتحار، والعنف، والشغب… من سيفعل كل هذه الأمور؟ … مَن؟

قد يعترض معترضٌ ويقول؛ إننا في عصرِ العلومِ والتّكنولوجيا، وفي عصر التّقنية… إلى هذا المعترض أقول؛ في ماذا تنفع العلوم والتّكنولوجيا والتّقنية مجتمعاً لا يعرف فيهِ التلميذُ والطالبُ والأستاذُ شيئاَ عن الخلفيات الفلسفية والدينية؟ ماذا تنفع العلوم ومعها التكنولوجيا هذا المجتمع إن كان أفراده يجهلون تاريخهم الديني والفكري والأدبي والفني؟ بماذا ينفع العلم والتكنولوجيا المجتمع، إن كان من التنظيرِ والتحليلِ والنقدِ خالٍ؟

في ماذا تنفع التكنولوجيا والتقنية مجتمعاً، يعيش أفراده بدون قراءة أمهات الكتب الأدبية من شعرٍ وروايةٍ…؟ مَن سيفسر لنا -مثلاً- التطرف والتعصب الديني؟ ومن سوف يفهم تنامي ظاهرةً مثل الانتحار، والعنف، والشغب… من سيفعل كل هذه الأمور؟ … مَن؟

للأسف لقد تمخض عن فشوِّ الموادِّ العلمية، وإهمال المواد الأدبية، فشواً لقيمٍ جديدةٍ على مجتمعِنَا المغربي؛ قيم من قبيل الأنانية والنفعية والمادية المفرطة، وكذا الفردانية والانطواء على الذات، مثلما تم قتل حب المطالعة وقراءة الكتب، وحلت محلهما الساعات الإضافية ليلاً، مما أدى إلى إنتاجِ تلميذٍ يتكل على الآخر لاكتساب المعرفة وفقدانه للثقة في نفسه، فغدا الحل في هذه الحالة هو الاستعانة بساعات إضافية ليلا ليرفع من مستواه من جهة، وليرفع من مدخول أستاذه من جهةٍ ثانية. نعم، يرفع من مستوى أستاذه الذي شرب قدراً لا بأس به من قيم عصره (قيم الربح السريع، والجري وراء تكديس الأموال على حساب أبناء الشعب).

وطبعا في هذه الحالة يحصل التلميذ على نقطةٍ جيدةٍ في القسم، إما لأنه زاد ساعات إضافية فَفَهِمَ ما لم يُفَهِّمه -عمداً- الأستاذ في القسم حتى يأتيه في المساء، وإما يعطيه الأستاذ نقطة جيدة لا لسببٍ إلا لأنه يذهب إلى الساعات الإضافية.. هنا، ودون شك، سوف ننشئ في ظل هذه القيم، رعيلاً من المعلمين والأساتذة يسيرون على المنوال الذي نُشِّئوا عليه.

رعيل يضع الكتبَ في ركنٍ ركين، وينكب على “الشات” وعلى متابعةِ مبارياتِ البطولاتِ الأوربية.. رعيل يكتفي بقراءةِ دروسِ المقرّرِ دون اجتهادٍ، ودون بحثٍ وتوسع. في وقتٍ مضى، كان الأستاذ هو المثل الأعلى للتلميذ، يجد عنده أمهات الكتب، من فلسفة وأدب وتاريخ …الخ ويعتبره التلميذ مرجعاً يعود إليه وقت الحاجة؛ لطلب كتاب، أو معلومة..

بيدَْ أن هذا الأستاذ انقرض كما انقرضت الديناصورات، وحل محله أستاذ شرب لا محال قدراً كبيراً من الأخلاقِ النفعية والأنانية والمادية..

هذا الرعيل الجديد من الأساتذة، تجد عندهم فقط كتاب واحد ووحيد معنون ب “تمارين وحلول” أو “أسئلة و أجوبة” وهو كتاب نجد في صفحاته أسئلة من قبيل؛ صل بخط، ضع علامة، صحيح أم خطأ… وهذا حالُ تعليمنا الآن. برَبّكم هل بهذه الطريقة ممكن أن ننشئ فكراً أو أدباً؟ هل في ظل هذه الأوضاع ممكن أن نتحدث عن الفكر وعن الأدب في المغرب؟ لا أبداً.

إن الجريمة المرتكبة (تهميش المواد الأدبية والعلوم الإنسانية) في حق أبناء الوطن، هي قتلٌ للتنظيرِ والنقدِ والتحليل، وقتل لمطالعةِ أمهاتِ الكتبِ المحليةِ منها والعالمية، وقتلٌ للانفتاحِ على الثقافاتِ والدياناتِ الأخرى، وقتلٌ للقراءةِ بصفةٍ عامة، وقتلٌ للفكرِ التاريخي.. قتلٌ للماضي وللحاضرِ وللمستقبل.

هذه جريمة كان من نتائجها، إنتاج شخص لا يعلم عن الكون وعن الوجود إلا ما تراه عيناه وتسمع أدناه. ومن نتائجها كذلك، إنتاج شباب ممسوخ، فاقد للهوية، قاطع الصلة مع جذوره ومع العالم، وبصدد إنتاج شباب إمعة يتأثر بكل ما هب ودب، شباب فاقد لبوصلة الفكر والفن وحتى الملبس.

في الأخير أؤكد أن هذه الجريمة (تهميش المواد الأدبية والعلوم الإنسانية) هي جريمةٌ مقصودةٌ مع سبقِ الإصرارِ والترصدِ، ومرتكبها ليس غير الدولة المغربية بجميع مؤسساتها(من أعلى الهرم إلى أسفله)، لأن في استحمار الشعب منافع لها.

ولن تحصل المتهمة (الدولة) على ظروفِ التخفيفِ إلا بإعادة النظر في جريمتها، وإعطاءها للموادِّ الأدبيةِ حقها في التعليم المغربي، وكذا الكف من خططها الماكرة لاستبلاد واستغباء التلميذ والطالب المغربي. صفوة القول، نحن نحيا في وطنٍ، الفكرُ والأدبُ آخر ما يُفكَّر فيه، ولأننا هكذا، سوف لن نرتقي بعقولنا، وسوف نبقى نحيا في السّطحيةِ والكلام الفارغ، وسوف لن نُنتج سوى التطرف والعنف وغير ذلك من القيم السّافلةِ والهَابِطة.