في تلك الرقعة الواقعة في الجزء الشرقي للأطلس المتوسط، اختلطت الأحلام بالواقع المرير لشباب المنطقة. جماعة سرغينة الواقعة ترابيا بإقليم بولمان، وعلى بعد من 135 كلم شرق مدينة فاس، تخلق الحدث تزامنا وليلة القدر. في محاولة لتفسير ما حدث، ليس في جانبه الخاص باستجابات الجمهور والحشد الذي حج للنقطة الموعودة، إنما في تفسير سلوك الشاب. فكرة الشاب بتغيير أحواله وأحول المنطقة بأسرها، تأسست على حلم -في شكل رؤيا- راوده لمرات عديدة، وطاوعه لأبعد مداه، قبل أن ينتهي باستنطاق تفصيلي حول ما جرى. ولما كانت الرواية في جميع تفاصيلها قد بنيت على حلم، فماذا وقع بالمنظور الفرويدي بمنطقة سرغينة؟

كان فرويد قد حاول البحث في إيجاد اجابات علمية يقينية لما تشير إليه الأحلام، وكيف تصنع، وعلى ما تدل رموزه، في محاولة للوصول لتشخيص حالة مرضاه. وانطلق في ذلك، من صراع متواصل بين الإنسان برغباته وغرائزه، وما تتطلبه وتحرمه البيئة المحيطة به، وعلى إبعاد فكرة العقلانية المطلقة. فليس العقل الموجه الوحيد، والمتحكم الأوحد في توجيه أفعال البشر، إذ غالبا ما تحدد اندفاعات لاعقلانية سلوكهم، بل وتفكريهم. ما يعني أن كثيرا من السلوكيات ليست عقلانية بشكل مطلق، بل تمثل استجابة طبيعية لبنية نفسية أكثر تركيبا وتعقيدا، يشكل ضمنها اللاوعي مركزا ومحددا للتصرفات التي تغافل العقل.

ففي نظر فرويد، الحلم نوع من أنواع التواصل مع كل الأحداث  المعاشة التي تسبقه، فكل حلم يتشرب من تجارب نهارية سابقة، باعتبارها المنبه والمحفز الذي يبعث به بصوره ورموزه وتفاصيله، ومختلف الدلالات التي يرتديها. فليس الحلم قائما بذاته بمعزل عن كل المعطيات التي أوصلت إليه. فطريقة فرويد في تفسيره للأحلام تعتمد أساسا على جمع المعلومات والأحداث التي سبقت الحلم، أي المعلومات التي أوصلت إليه. فالحلم بذلك، أشد ارتباطا بالحياة الواعية، وهو تأكيد على كون النوم ليس سوى استمرارا لحياة اليقظة. لذلك ما كان فرويد يقصد في كتابه “تأويل أو تفسير الأحلام” (Die Traumdeutung : l’interprétation des rêves ) إيجاد تفسيرات مستقبلية لمقاصد الحلم، والمعاني التي يحيل إليها، بقدر ما كان انشغاله البحث بشكل علمي، في علاقة الحلم بشخصية صاحبه ومزاجه، والوصول إلى مختلف المعطيات التي سبقت ظهوره. لكن كيف لبعض الأحداث دون غيرها، أن تتجسد في أحلام الناس؟ فالأحداث اليومية وما يعيشه الفرد من تقلبات مزاجية، وما تعترض حواسه وأحاسيسه بشكل لا نهائي، يضعف من تلك العلاقة القائمة بين المعاش السابق والحلم المحقق. كيف يتم اختيار الأحداث المعاشة لتستمر حية خلال فترة النوم، دون أخرى؟

يجيب فرويد في هذه النقطة، بكون العودة لأحداث (وهي ذات طابع معرفي) دون غيرها، ترتبط في جوهرها بالرغبة غير المحققة (وهي ذات طابع نفسي)، تلك الرغبة تمثل الحافز الرئيسي لإثارة، واختيار طبيعة المعطيات المعاشة سلفا. فأحلام الأطفال تحوم أكثر حول الألعاب التي يرغبون في الحصول عليها، فيما أحلام المحرومين من لقاء النساء تحوم حول ممارسة الجنس. وحين يتقدم التحليل في هذه النقطة متجاوزا الرغبات المادية الظاهرة، ليطال البعد الأخلاقي والقيمي للأفراد، وحيثما تكون الرغبة من طبيعةٍ تدفع الحس الأخلاقي لإدانتها، وتتدخل الأنشطة الواعية لتمارس عليها رقابة مطلقة، إلا أنها لا تستطيع محوها وابعادها، بل تعبر عن نفسها بواسطة بدائل تتخذ أشكالا ومظاهر، يمثل الحلم إحدى تجلياتها.

وصلنا إلى اعتبار الرغبة دافعا نفسيا، ومحركا حيويا لبعث حياة جديدة في الواقع المعاش سلفا. فللعلاقة منطق نظري محقق. إلا أن الصور التي تتجسد في الأحلام تهدد تلك العلاقة أصلا. فالصور والرموز التي تؤثث الأحلام لا تكون بالضرورة جزءا من الأحداث والصور المستقاة من الحياة المعاشة سلفا. فمن أين تستقى صور ورموز الأحلام؟

في نظر فرويد، الحلم فكرة تترجم إلى صور ومشاهد، وبما أن عناصر الرغبة لا يمكنها جميعها أن تكون ذات شكل أو صورة أو صور بصرية متعددة، يحدث لتلك الرغبة أن تترجم على شكل تمثيل رمزي. إلا أن رموز الحلم وتفاصيله ترتبط بما يظنه الحالم عنها، فلكل تفصيل مغزى خاص عند الحالم نفسه، لذلك لا يصح القول بوجود تفسير موحد لرموز معينة تظهر في أحلام مختلفة، ولدى أشخاص مختلفين، سوى إن كان لدى الحالمين تمثلات متماثلة بشكل مطلق حول حمولة ومضمون تلك الرموز. ولكون الحلم يتضمن صورا ومشاهد متعددة، فقد ميز فرويد بين مستويين من التحليل، الصور الظاهرة المشكلة من عناصر بصرية تعبر عن مشاهد ومشاعر راهنة، والمضمون الباطني للحلم المشكل على أساس دلالات عميقة ومكبوتة. وحسب فرويد دائما، يمثل الحلم طبقات عدة، وللوصول إلى جوهره، يفرض المرور بالعديد من الطبقات، فتمثيل رغبة ما يتحول إلى رمز وصورة لرغبة أخرى أعمق منها، وهي ذاتها ليست سوى رمزا لرغبة ثالثة أكثر عمقا، إلى حين الوصول إلى عمق ظلمات الوعي الباطني، أو اللاوعي الشخصي، والنفاذ للرغبة الجوهرية المختبئة وراء الرغبات جميعها، وهي الرغبة الجنسية. وهذه الرغبة الأخيرة الجامعة والأصلية الموجهة لجميع الأحلام، من أكثر المواضيع عرضة للانتقاد في البناء المنطقي لفرويد.

إن تطبيق هذا النموذج التفسيري على حلم “كنز سرغينة”، أخذا بعين الاعتبار ما تضفيه التصورات الدينية من حمولات إضافية على موضوع الأحلام والرؤى، قد يقدم تحليلا منطقيا لما حدث. ويمكن الاعتماد على نقطة استخراج الكنز “فم البغلة”، لجعله دليلا ومنطلقا للقيام بذلك. فهو تجسيد للعلاقة القائمة بين الحلم والواقع المعاش، كونها تقع على مقربة من المنجم الغني ب”الكلسيت” (ولا تبعد عنه سوى مئات المترات)، وكثيرة هي الأقاويل والروايات المتباينة حول ما يستخرج منه من ثروات. هي منطقة على بعد أقل من عشر كيلومترات من “عين عطية”، إحدى العيون التي عرفت مجدا خلال العقدين الأخيرين، والمعروف عنها علاجها أمراضا عديدة. هي كذلك منطقة تعرف لياليها انتشار مجموعات “تنقب” عن الكنوز. وفي كل إقليم بولمان وإيموزار مرموشة على وجه التحديد، يتداول هؤلاء المنقبين مواقع بعينها في الوديان والجبال تحتوي كميات وفيرة من الذهب والألماس، وُضع على أبوابها حراس “من الجن” يجعلون الوصول إليها أمرا مستحيلا، إلا من تملك مفاتيح مخصصة لذلك. ونقطة “فم البغلة”، إحدى تلك المواقع التي تسيطر على المخيال الجمعي داخل المنطقة. ما يعني أنه من الناحية المعرفية كل البيئة المحيطة بالشاب مهيأة لإنتاج أحلام من هذا القبيل. لكن ما الذي يميز هذا الشاب من غيره، فهذه البيئة تحيط بكل ساكنيها وليس فقط بالحالم المذكور؟

إنها الرغبة التي تحدث عنها فرويد، تلك الرغبة الدفينة التي توجه الفرد، وتسهم في تحرير الواقع المعاش، لتعيد إحياءه في إطار الأحلام. فالشاب يقاتل لضمان لقمة عيش لأسرته الصغيرة. وحتما كل ما يشغله مرتبط بضمان مستقبل أكثر رفاهية لابنيه. والعيش الرغيد أمام عجزه المستمر بعد امتهان الكثير من الحرف؛ من سائق شاحنة للحصى، إلى عامل مياوم بشمال المغرب… صارت الرفاهية أبعد ما تكون عن العمل لترتبط بأشكال أخرى تجسدت في الكنز الموعود. وحتى تكتمل صورة الأب الباحث عن تغيير جذري لأوضاع ابنيه، تضمن الحلم ضرورة القسمة على الجميع، وهذا تمثيل لسلوك فطري أبوي، جعل من مرتاديه (داخل الحلم) في مقام أبنائه.

وصل التفسير إلى نقطة تسمح لأي شخص داخل تلك الرقعة أن تكون له أحلام من هذا القبيل، من حيث البيئة المحيطة، ومن حيث الرغبات الدفينة (ويمكن تقديم تفسيرات أكثر عمقا لتحديد العناصر التي ترتبط بهذا الشاب دون غيره من خلال دراسة حالته الاجتماعية والنفسية). وهذا التفسير قد يكون أقرب إلى توضيح الكثير من الأسباب  التي دفعت بالمئات من أجل تسلق الجبل، فجميعهم يشتركون العناصر البيئية المحيطة، ونفس الرغبات بمستويات متفاوتة، وبالتالي أحلاما متشابهة، حررها الحالم الشاب، وانساقوا وراء أحلامهم المتطابقة أصلا مع حلم الشاب.

وحتى لا تظل الأحلام مزعجة لهذا الإقليم، لا مناص من تحولات تطال المجال التعليمي، تقوي من فرص إعمال العقل العلمي، والتأكيد على دور العمل –ولا شيء سواه- في تغيير الوضع الاقتصادي والاجتماعي للأفراد. والتفكير في توفير فرص للشغل تحقق بعضا من الرغبات الكامنة غير المحققة لدى الشباب.