إن أبرز ما يواجه الباحث في تاريخ المغرب خلال السبعينات العصيبة هو كون الكتابات عن الفترة نادرة بالرغم من غناها بالأحداث والوقائع التي كان لها شديد الأثر على الحياة السياسية والاجتماعية بالمغرب، وأمام هذا العوز لا نجد أمامنا سوى خيار العودة لما كتب في سياق أدب السجون وما جادت به أنامل العائدين من جحيم الجمر والرصاص، فعلى الرغم من اختلاف توجهاتهم الايديولوجية والسياسية فإن ما يجمعهم هو أنهم اقتُطعت من عمرهم سنوات قضوها في غياهب الظلام وعرفوا خلالها أبشع (فنون) التعذيب لكنهم عادوا ليشعلوا شموعا أضاءت زوايا من تاريخ المغرب ظلت لعقود تدخل في خانة المحظور من الكلام بالضرورة.

وإذا كانت بعض الكتابات قد نالت ماتستحقه من الشهرة والاهتمام كان لها أثر واضح في التعريف بقضية أصحابها من قبيل مذكرات الرايس وغرفة المرزوقي وساحة الشاوي وعريس الوديع فإن كتابات أخرى بقيت في الظل وبقيت معها كذلك قضية صاحبها ورفاقه، كما هو شأن الطاهر محفوظي صاحب “أفول الليل” الذي سجل فيه يوميات اعتقاله في المعاريف واغبيلة لسنتين ونيف محاولا كشف الستار عن قضية مجموعة بوغابة ومن معه، “إن الحديث والتعريف بمجموعة 36 منعدمين تماما. إن مجموعة 36 والتي ستغدو 42 يطلق عليها “مجموعة بوغابة ومن معه” أو “قضية النقابة الوطنية للتلاميذ”. لقد ابتدأت الاعتقالات في فاس في غرة فبراير1973 واستمرت إلى حدود 1974 وشملت مدن الدار البيضاء، فاس، مراكش، القنيطرة، والخميسات” (ص 9ـ10).

ونحن إذ نقرأ هذا الكتاب نلمس وعيا نضاليا كبيرا لدى مختلف فئات الشعب لدرجة أننا نتساءل بكل استغراب لِمَ لَمْ يعد مثل هذا الوعي ساريا اليوم حتى في الأوساط التي تسمي نفسها بالطبقة المثقفة التي يفترض أن تحمل مشعل قيادة المجتمع؟ إلا أن نظرة متأنية لكرونولوجية الأحداث كفيلة بأن تجعلنا على يقين تام بأن المخزن بأدواته السياسية والإيديولوجية والثقافية قد وضع الأصبع على أهم بواعث هذا الوعي فعمل على كبحها وإخفاتها، ولعل أهمها: 

نتساءل بكل استغراب لِمَ لَمْ يعد مثل هذا الوعي ساريا اليوم حتى في الأوساط التي تسمي نفسها بالطبقة المثقفة التي يفترض أن تحمل مشعل قيادة المجتمع؟ إلا أن نظرة متأنية لكرونولوجية الأحداث كفيلة بأن تجعلنا على يقين تام بأن المخزن بأدواته السياسية والإيديولوجية والثقافية قد وضع الأصبع على أهم بواعث هذا الوعي فعمل على كبحها وإخفاتها

1ـ حركة نقابية تلاميذية قوية: لا يختلف اثنان في أن المد الثوري في السبعينات كانت بذوره تأتي من الحركة التلاميذية التي كانت نقابة تمتلك من آليات التنظيم الشيء الكثير، ولعل اعتقال الطاهر محفوظي ورفاقه سواء من “إلى الأمام” أو “23 مارس” دليل واضح على كون النظام سعى حينها إلى القضاء على نقابة التلاميذ وقد نجح في ذلك أشد ما يكون النجاح وعُجْ على ثانوياتنا اليوم لترى أن ما يروج فيها من نقاش يتمحور حول أخبار الكرة والمغنيين.. بل الأدهى والأمر أن هذا المد قد وصل إلى الجامعات التي صارت مجرد ثانويات كبيرة.

2ـ تعليم فعال ذو جودة: ماذا حدث لتعليمنا اليوم في زمن التكنولوجيا ووفرة المعلومات وسهولة الوصول إليها؟ حدث إفراغ التعليم من الكفاءات من طينة أستاذ التاريخ المناضل كي مارتيني الذي تحدث عنه الكاتب بكثير من الاحترام، وجعل المدرسة في ذيل قائمة الاهتمامات لتبقى الشعارات المتعاقبة جوفاء بدون إرادة حقيقية للإصلاح، فما حاجة الدولة إلى تعليم يُخَرج من يسأل عن نصيبه في الثروة؟

3ـ طبقة وسطى ملتحمة بقضايا الشعب: يمثل مسعود شقيق الكاتب مثالا للأستاذ المرتبط بقضايا أمته والذي يسخر بعض ما أوتيه من سعة لأداء مصاريف كراء بيت يسكن فيه الطاهر ورفاقه في التنظيم، وقد يصل الإيمان بحتمية النضال بالأستاذ حينها إلى التخلي عن الوظيفة من أجل الالتحاق بساحة النضال كما فعل محمد تريدا رفيق الكاتب، فأين نحن من هذا مع أستاذ اليوم الذي صار مسطح الفكر تكاد همومه تنحصر في بناء منزل وتأثيثه وشراء سيارة وامتلاك عقار، لقد ساقه النظام إلى ذلك من خلال إضعاف تكوينه الفكري والأكاديمي والحط من مكانته الاجتماعية وجعله مادة للنكتة والسخرية.

4ـ إقبال على دروس الفلسفة: عرفت السبعينات إقبالا هاما على الفلسفة التي تنمي الفكر العقلي وتوسع منادح النظر، ليتم محاربتها بالنقيض. ورد في الصفحة 94:” وكانت سنة 1972 هي آخر سنة للفلسفة بالفرنسية، إذ ستعرب في السنة الموالية، لتهمش سنوات بعد ذلك لصالح التربية الإسلامية. الفلسفة الوضعية خلقت مناخا ثوريا، والتربية الإسلامية ستخلق تيارا أصوليا”، هذا التيار الأصولي الذي كان النظام يشجع كل من يتبناه حينها ولو عن غير قناعة كما فعل المعتصم عضو الشبيبة الإسلامية الذي كان يناقش الكاتب ورفاقه في الماركسية والإسلام مع أنه لم يكن يصلي. 

5ـ موظفون أمنيون منفتحون على العالم: رغم كون المعتقلات عرفت وجود عسكريين أقل ما يوصفون به أنهم أنذال، إلا أنه وبالمقابل فقد كانت هناك فئة أخرى منهم، فقد شكل حارس السجن الناصري الذي كان يشرح للمعتقلين تفاصيل حرب أكتوبر ويمدهم بالأخبار حول الغارات وخسائر العدو الاسرائيلي بكل حماسة مثالا للعسكري المنفتح على محيطه، وقد انتبه النظام إلى كون هذا الانفتاح لا يخدم مصالحه فأصبح يشدد الخناق على العسكر من خلال سياسة التنميط والتجهيل ومنع قراءة كتب الفكر ومراقبة التحركات. 

لم يكن الغرض من مقاربتي لكتاب الطاهر محفوظي سردا كرونولوجيا لوقائع الأحداث بل كان الغرض من ذلك الخروج بخلاصات منطقية لتفسير ما نعرفه اليوم من انتكاسة فكرية ونضالية مقارنة بالسبعينات، وفي ظل ما نعرفه اليوم من اختناق اجتماعي وانسداد للآفاق فإن إعادة تقوية ما استطعنا من العناصر سالفة الذكر يمكن أن يشكل بوابة للعودة إلى التوهج الفكري والنضالي من أجل تحقيق غد أفضل.