يعرف نظام الصحة بالمغرب واقعا مأساويا ، حيث يعرفا فشلا ذريعا في جميع مكوناته . فالمواطن المغربي ، من خلال هذا النظام ، تحول الى زبون يشتري و بتكلفة غالية تذكرة سفره الى المعاناة و المرض والموت. إن المتأمل للتقارير و الارقام الدولية  سوف يتأكد و بالملموس اننا امام دولة فاشلة في هذا القطاع . تصل ميزانية قطاع الصحة الخاصة بميزانية 2015  الى 6 بالمئة من الناتج الداخلي الخام ، و تعتبر نصف ما تخصصه تونس وتقريبا سدس ما تخصصه الاردن ، وتبلغ النسبة التي توصي بها منظمة الصحة العالمية 9 بالمئة كمتوسط. يوفر المغرب عدد من الاطباء لا يتجاوز 6 أطباء لكل عشرة الاف مواطن ، مقابل 12 طبيب بالنسبة لتونس والجزائر، و51  طبيب بالنسبة لإسبانيا ، في حين حدد العدد في 25 طبيب كهدف الالفية للتنمية. فالمغرب يعاني من نقص حاد في الموارد البشرية وفي جميع التخصصات ويعتبر من بين اضعف الدول من ناحية الميزانية المخصصة لقطاع الصحة . أما المستشفيات فلقد اصبحت تشخص البؤس بعينه وتحولت الى مشاتل لصناعة الموت فهي تعاني من قلة الموارد البشرية و نقص حاد في الاسرة والمستلزمات والادوات الطبية والاكتظاظ وسوء الحكامة والتدبير ، فالفضائح المبثوثة في مواقع التواصل الاجتماعي ، تعبر بصورة إستعراضية عن مدى بؤسها . فالمريض المغربي يدخلها كمن يدخل رحلة عذاب شاقة و مكلفة بذوق الالم والإهانة و عدم المبالاة . الزيارة لمثل هذه المؤسسات الصحية تجعلك تحس بالاهانة و التخلف : مستعجلات مكتظة و فقيرة من ناحية الموارد البشرية و ظروف ووسائل العمل لدرجة تجعلك تتفرج على المباشر لفيلم درامي لمشاهد الموت السوريالية المباشرة ( ليس لدي احصاءات عن عدد الاموات انطلاقا من هذه المستشفيات ، لكن الاكيد سوف تكون كارثية)، اللامبالاة واللا كفاءة لدى الاغلبية من الموارد البشرية ، عدم النظام وفوضى التسيير ، انتشار مظاهر الفساد الى حدود التسول ، بؤس الخدمات المقدمة من نظافة و تغدية ……..

 اوهام الاصلاح الحكومي :

يتميز خطاب الحكومة  “الاصلاحي” لقطاع الصحة بغياب رؤية واضحة ضمن تصور مجتمعي عام ، يتبنى مقاربة إجتماعية تعتبر الصحة حق لكل مواطن ، و منظومة صحية جيدة أساس لكل تنمية . مما يجعله خطابا فارغا ، يغطي فشله بالبهرجة الاعلامية الكذابة و النفخ في الكلمات . إن تصور الحكومة البنكيرانية لقطاع الصحة لايخرج عن المنطق النيوليبرالي الاقتصادي والذي يعتبر ان المغاربة يجب أن يخضعوا لمنطق السوق ، وهو في الحقيقة منطق الجوطية (سوق مشوه ) ، حيث تصبح ” صحتهم” بضاعة خاضعة لآليات السوق – الجوطية  و التي تتميز بعدم الشفافية و الرداءة و التخلف . ولعل محاولة انزال مشروع الخدمة الاجبارية ، والتي افشلها الطلبة الاطباء بنضالاتهم، تعتبر خطوة في اتجاه هذا المنطق عبر محاولة التخلص من التوظيف في الصحة العمومية. وكذا تشجيع القطاع للاستثمار في المصحات الخاصة و مؤسسات التكوين الصحية.

لقد ركز خطاب الاصلاح المأزوم ،في إطار تغطية شعبوية فجة على بؤس القطاع ، على اربعة نقط أساسية تحمل شحنة اصلاحية تضامنية لكنها في عمقها أوهام مرضية سياسية، وهي :

1-     وهم اغلاق السجن القروسطوي لبويا عمر :

إن “بويا عمر ” كان وصمة عار في جبين دولة في القرن العشرين ، حيث كانت تمارس فيه تجارة الخرافة والبؤس . وإغلاقه كان واجبا حداثيا و ضرورة صحية و حاجة حقوقية ، لكن إغلاقه بدون توفير بنيات إستقبالية بديلة و ظروف و موارد بشرية ، أو ترك المرضى النفسيين مواجهة مصيرهم لوحدهم او داخل اسرهم ، يفرغ هذه الخطوة و يحولها الى قرار عبثي يحاول أن يعالج وضعا بئيسا ، بوضع ربما أكثر خطورة وبؤسا.

2-      وهم نظام الرميد :   حاولت الحكومة تعميم نظام الرميد بعد ماكانت حكومة عباس الفاسي قد بدأت تطبيقه في منطقة ازيلال، فالتزمت بتخصيص 300 مليار سنويا له بنسبة 75 بالمئة ، ومساهمة  الاسرالمستفيدة ب 19 بالمئة ، والجماعات المحلية بنسبة 6 بالمئة. لكن منذ 2012 لم تخصص الحكومة ولو درهما واحدا لهذا النظام و ذلك بتصريح واضح من الوزير الساهر على القطاع . عدم التمويل وبؤس المستشفيات و البنيات المسؤولة على العلاج و نقص المسلزمات و الادوات الطبية حول نظام الرميد الى نظام لتوزيع البطاقات و الخطابات الشعبوية للمسؤولين في  وسائل الاعلام . فاي مشروع  في غياب التمويل و الوسائل و اللوجيستيك يصبح إنزاله على الميدان مجرد وهم و تعبير عن نوايا اكثر منه مشروع قابل للتحقيق.

المغربي الذي يعاني القهر والهدر على جميع المستويات ، يصبح وهو مريض مغتصب في حقوقه مرتين : كشبه مواطن و كمريض . فزيادة على بؤس المنظومة الصحية و تكاليفها الباهظة

3-      وهم تخفيض الادوية :

إن مختلف الدراسات المتعلقة بأثمنة الادوية في المغرب اثبتت انها من اغلى الاثمنة. وقد يصل الفرق مثلا بين المغرب وتونس بين 30 الى 189 بالمئة ،وبين المغرب و فرنسا بين 20 الى 70 بالمئة . وتختلف اثمنة نفس الدواء حسب العلامات التجارية بنسب تصل الى 600 بالمئة.( تقرير اللجنة النيابية الاستطلاعية حول أثمنة الادوية ). هذا الوضع السوريالي الذي فرضه لوبي شركات صناعة الادوية و في غياب تام لتدخل الدولة لحماية مواطنيها خاصة الاغلبية التي تعاني الفقر والهشاشة ، جعل الحكومة البنكيرانية تتدخل ليس لتصحيح الوضع بل للتوهيم بتصحيحه . حيث رفعت شعاراتها بتخفيض اثمنة الادوية في اطار شعبوية الخطاب و بؤس الممارسة . لنتأمل بعض الارقام : 59 بالمئة من الادوية المهمة لم تعرف سوى تخفيضا طفيفا لم يتجاوز 10 دراهم و من بينها من عرف تخفيضا بقيمة درهم واحد. اما التي عرفت تخفيضا بين 10 و 100 درهم لم تتجاوز 13 بالمئة اي 711 دواء، و التي عرفت تخفيضات بين 100 الى 500 درهم فلم تتجاوز 2 بالمئة اي 144 دواء .اما الانخفاض الكبير اي بين 500 و 1000 درهم فهمت فقط 37 دواء و هي غير مستعملة بكثرة .(الارقام انطلاقا من” القصة الكاملة لانهيار قطاع الصحة” ، موقع لكم ) . فتقريبا 60 بالمئة من الادوية و الاكثر طلبا من المواطنين لم تتجاوز فيها التخفيضات 10 دراهم وفي بعض الاحيان درهما واحدا . هذه التخفيضات هي اقنعة تخفيضات حيث لم ترفع القدرة الشرائية للمواطنين ولم تعالج الاشكال الحقيقي الذي يعاني منه المغاربة وهو ارتفاع اثمنة الادوية بشكل سوريالي مقارنة مع دول شبيهة لنا في النمو ، او بلدان اكثر تقدما وتطورا منا . هي اجراءات مخادعة لها بعد خطابي اعلامي شعبوي اكثر منها اجراءات جريئة تواجه لوبيات الصناعة الدوائية و التي ترى في المغربي ” زبون” مربح للمتاجرة بامراضه.

المريض المغربي مهضوم الحقوق :

إن المغربي الذي يعاني القهر والهدر على جميع المستويات ، يصبح وهو مريض مغتصب في حقوقه مرتين : كشبه مواطن و كمريض . فزيادة على بؤس المنظومة الصحية و تكاليفها الباهظة، يواجه المريض المغربي كجندي بئيس اعزل اسماك القرش المختلفين؛ من اطباء قطاع خاص بانيابهم الحادة  و لوبيات صناعة الادوية و الصيادلة و المختبرات الطبية التي تحلل اغتصاب بؤسه في نفس الوقت التي تحلل دمه لتمصه….  كما أنه يصبح الرقم الاضعف في علاقته بهذه المنظومة ، حيث يعاني التهميش و غياب ثقافة تواصلية تعاقدية بينه وبين معالجيه.  فالأطباء في المغرب و نتيجة لمدرسة الفشل التي تكونوا فيها ، يتقنعون بعدم وعي و عدم انتشار الثقافة الصحية لدى المواطنين ، لتغطية ضعفهم سواء في عملهم او في قدراتهم التواصلية . فالطبيب المغربي لم يرتق بالشكل الكافي في اطارعمله للانتقال من التعامل الجاف  مع ” المرض ” الى التعامل الحي مع ” المريض “. فالذي امامه في قاعة العلاج البئيسة ليس فقط مرضا ، يجرب فيه وصفاته ، او دريهمات ذات راس ورجلين ، او بعض الثواني لرقم في قاعة الانتظار ، بل هو انسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى ذو بعد نفسي وبيولوجي و عقلي .فالطبيب وفق مقاربة المساعدة على علاج المريض و ليس الاكتفاء بمحاولة علاج المرض يجب ان يتوفر على تكوين في التواصل وتبسيط الثقافة العلمية الطبية و علم النفس خاصة منه علم النفس الايجابي الذي يساعد كثيرا في كيفية معاملة المريض لمرضه ، كما انه ملزم باطار قانوني عبارة عن عقد بين الطبيب و مريضه يتجاوز ماهو سائد ، ليصبح المريض فعلا متمتعا بجميع حقوقه كمواطن مريض . فزيارة الطبيب التي تنتهي بوصفة دواء دون توضيح للمريض حالته وبطريقة بسيطة ، وتحديد الحالة كتابيا و تسلم له في وثيقة يمكن تسميتها بشهادة تحديد الحالة و بدون تقديم  كتيب عبارة عن دليل واضح ومبسط لكيفية تعامل  المريض او عائلته  مع المرض خاصة  التي تستلزم ذلك ، هي (الزيارة) كشراء سلعة مستعملة غير مضمونة في جوطية بئيسة من جوطيات المغرب . فهذه الاليات والوثائق هي التي تساعد المريض على فهم مرضه و الطريقة للتعامل معه و هي اولى خطوات العلاج ، كما انها ضمانة له للدفاع عن نفسه ضد الاخطاء الطبية و تغيير المقاربة العلاجية في الوقت المناسب .

إن مجتمعا يحترم نفسه و ينشد التنمية ، هو مجتمع  يجب ان “يقدس ”  صحة مواطنيه، بسن سياسة صحية عمومية واضحة و صادقة ضمن مشروع مجتمعي يعتبر قطاع الصحة جزء اساسي من مسؤوليات السلطات اتجاه مواطنيها . هو مشروع بعيد عن المقاربة النيوليبرالية  المشوهة المتبناة من طرف السلطات المغربية والتي تبدع في تحويل ” الرعايا ” الى أشباه بشر يقهرهم المرض والجهل والفقر .وهو اصلاح يجب ان يمس جميع مكونات المنظومة من توفير البنيات التحتية و وسائل ومستلزمات وتحسين ظروف العمل و إصلاح المقاربات العلاجية وتاهيل وتكوين الاطر الصحية و تنظيم تشريعي حقوقي متقدم يوفر محيطا مناسبا لممارسة صحية نزيهة و كفؤة و متضامنة ترى في المريض انسان مواطنا من حقه ان يعيش حياة صحية و ليس سلعة في سوق- جوطية للمتاجرة بامراضه.