ألِفُوا مَشَاهِدَ القَمْعِ وَالدّمَاءِ، وَمَا عَادَ ينقصُهُم سِوَى الشُّهَدَاء، فقد بَات الجرحُ غائرا، بعد طعنات متوالية تلقاها الأستاذ المتدربُ طوال خمسة أشهر من الكفاح لأجل المدرسة العمومية التي راحت على كفّ عفريت، في حكومةِ عودتنا على لغة التماسيح والعفاريت وتصرفاتهم أيضا؛ فمعلومٌ لدى الجميع أن قطاع التعليم في المغرب يعُدّ ملاذ أفواج المجازين وحاملي الشواهد العليا من أبناء الفقراء، الذين تَقذِفُ الجامعة المغربية بالآلاف منهم عند انصرام كل سنة، ويبدو أن الحكومة في سعيها الحثيث لخوصصة كافة القطاعات فإنها تنتوي بيع هذا القطاع الحيويّ وتقضي على آخر أمل لأبناء الفقراء.

مَكـرٌ فَاضح !

حينَما تسألُ أحدَهُم سؤالا صريحاً فيجيبك إجاباتِ ملتويّة فضفاضة، تُدركُ للتوّ بأنه يُخفي أشياء في نفسه لا يريدُها أن تُعلن، هذا في أمور الحياة العادية، فما بالك في ميدان السياسة، ميدان المكر والمراوغة والاحتيال. مَثَلُ ذلك أجوبة الحكومة المغربية حول السِرّ أو الهدف من سّن مرسومي الأساتذة المتدربين، حيث يُدركُ المتتبع لتسويغات الحكومة للمرسومين حالا بأنها تُخفي غير ما تُعلنُ، وأن تحتجبُ بادعاءات واهية وتبريرات فجّة تصلُ حدّ التناقض في بعض الأحيان.

فمَرّة قال لنا وزير (البرجاوي) إننا نريد إعداد الأطر للقطاع الخصوصيّ ومفادُهُ أن الراسبين في مباراة التوظيف العمومي سيتكفل بهم القطاع الخاص ويستقبلهم بالأحضان، وقال آخر (الأزمي): إنا نريد توسيع دائرة التكوين، وقال كبيرهم (بنكيران): إننا نريدُ حلا لمشكلة الألف التي تبقى بعد امتحان التخرج ومعناه أن الحكومة لا تستطيع إحصاء عدد الأطر التي تحتاجُها إلا عند نهاية شهر يونيو من كل سنة !!، وأضاف شيخهم (بلمختار): ربما سنرسلُ الراسبين إلى دول الخليج  !! وحسمّ الجدال قائلهم (الخلفي): إننا نريد الجودة الجودة. 

الأساتذةُ المُكونونَ حَبّروا المقالات في الصحُف للتنديد بالمرسومين، ورجالٌ ونساءُ التعليم نظموا الوقفات تلو الوقفات رفضا لهما، وخبراء التربية وأهل العلم في الميدان نبهوا على خطإ الحكومة، وجمهور المغاربة خَرَجُوا فِي مَسِيرَات الأساتذة المتدربين، كلّ أولئك ينددون بما جرى ويجري في حق الأستاذ المتدرب، وما من مُجِــيب !

وسرّ ذلك أن الحكومة تريد بالواضح الصريح خوصصة القطاع، وفتح المجال أمام مراكز تكوين الأساتذة الخصوصية، والتمهيد للعمل بما يُسمى التعاقُد بدلَ التوظيف، تنفيذا لتوصيات المؤسسات الدولية المعروفة، والقاضية بتمكين القطاع الخاص في اقتصاد البلاد، ورفع يد الدولة عن القطاعات الاجتماعية العامة.

قمع لا حدّ له !

القمع المُفرط، والبلطجة، والمنع من السفر، والتعتيم الإعلامي، وعقد المجالس التأديبية، والاتهام الباطل، وبعث الإنذار تلو الإنذار، وتغليط الرأي العام .. كل ذلك لم يهدّ ولن يثني أبناء الفقراء عن المطالبة بحقهم، والاستمرار في معركتهم السلمية العادلة.

ثلاثُ مسيراتِ حاشدة حجَت إلى العاصمة أيام 12 نونبر، و17 دجنبر و24 يناير، والرابعة يوم 20 مارس في الدار البيضاء، كلّ مسيرة تُضاعف سابقتها عددا وصمودا وإصرار، واعتصامات سلمية بُطولية، وإضرابات طعامية ممتَدّة، كل ذلك، وأكثر ولا زالوا صامدين صمود الجبال الرواسي.

حكومة غير جادّة !

لا جديد يُذكر في الملف، غير التعنت الحكوميّ المُستمرٌ، وكأن شيئا لا يحدُث، في وقت يبدو أن القضية الأهم للمغاربة، بعد الوحدة الترابية، لم تَعُد تعني شيئا للدولة المغربيّة، لا حلّ جدّيّا حدث أو سيحدُث، سوى بعض مُناوراتِ للمراوغة لا الحوار، قائدُها والي الرباط، وكأن الحكومة لشدة هوانها، وهوان أهل التعليم عندها، لم تَجد من ينوبُ عنها في ملف تربويّ صرف سوى رَجُل أمن في وزارة الداخلية !!

الأساتذةُ المُكونونَ حَبّروا المقالات في الصحُف للتنديد بالمرسومين، ورجالٌ ونساءُ التعليم نظموا الوقفات تلو الوقفات رفضا لهما، وخبراء التربية وأهل العلم في الميدان نبهوا على خطإ الحكومة، وجمهور المغاربة خَرَجُوا فِي مَسِيرَات الأساتذة المتدربين، كلّ أولئك ينددون بما جرى ويجري في حق الأستاذ المتدرب، وما من مُجِــيب ! ويا ليت الحكومة اكتفت بالصمت أو التعنت، فلقد سلطت عصيّ أجهزة الأمن على جماجم الأساتذة العُزّل المُسالمين، وأضحت مجازرُهم أكثر من أن تُحصى، ووصَلَت الجراءة بقوات الأمن في القنيطرة، أن انقضوا عليهم دون أن يتركوا لهم مُهلة لرفع المُعتَصَم، فهشموا رؤوسهم، وكَسّروا عظامهم، وسالت دماؤهم الزكية، دماء مربي الأجيال.

من يداوي الجُرح، ومن يجبر الضرر، بعد كل ذلك، وبأي نَفّسِ سيلجُ ذلك الأستاذ المهشم الرأس القسمَ، تُرَى ماذا سيقول لأبناء الشعب عن الوطنية، وحب الوطن، وأي كرامة سيحدثهم عنها في المغرب.

حُكُـومَة غير حكيمة !

ولو أن الحكومة، حكّمت العقل، وأنصتت لصوت الحكمة، لأذعنت وأقرت بالحق، وتيقنت بأن المرسومين لم يكونا في مكانهما ولا وقتهما المناسب، ولو أنها وضعتهما للنقاش العموميّ، أو استبقت الأمر بإصدار مُسودة لهما، أو استشارت الأساتذة المكونين وأهل الخبرة في الشأن التربويّ، لعلمت بأن تخبطُ خبط عشواء وبأنها تنسفُ كل إصلاح تربويّ مأمول وأن خوصصة التعليم، إن استقامت أصلا، تَسبقها خطوات وإجراءات كثيرة لم تقم الحكومة بأبسطها، ولعرفت أن نهج الاحتيال والمكر بسن القوانين الجائرة في عز العطلة الصيفية في غفلة من الجميع، لا يجُدي ولا يَرُدّ السخط الشعبيّ وتنبّه الطبقات الشعبية لِمّا يُحاكُ ضدها.