لم يكن أول ضحية من ضحايا الربيع الديمقراطي،الديكتاتور التونسي السابق،بن علي، يتخيل حتى التخيل أن يتسبب شاب أضرم النار في جسده احتجاجا على صفعه من طرف شرطية،لم يكن هذا الطاغية يتصور  أن حدثا كهذا،سيتسبب في هروبه،قبل أن ينتهي به المطاف لاجئا في أحضان المملكة العربية السعودية،لكن الأمر لم يقف عند طرد الرئيس السابق،بل انتقلت عدوى الإنتفاضات على الإستبداد إلى دول عربية عديدة،من بينها مصر وليبيا وسوريا واليمن والعراق والبحرين ..والمغرب،وتعالت الأصوات مطالبة بالديمقراطية وبالحرية والكرامة،إلا أن المثير وكما كان متوقع،هو أن الأنظمة المذكورة فقدت توازنها وصارت تخبط خبط عشواء،وعوض أن تمتثل هذه الأنظمة البوليسية لمطالب شعوبها..وصمت شعوبها المنتفضة بالعمالة للغرب،بل أطلق محللو الأنظمة الفاسدة العنان لمخيلاتهم،فمنهم من اعتبرها إعادة تقسيم الشرق الأوسط على غرار سايكسبيكو….ومنهم من اعتبرها مؤامرة  تستهدف الإستقرار المزعوم،وأغباهم اعتبرها مؤامرة تهدف إلى تفتيت الدول وتقسيمها،دون تقديم ولو دليل علمي واحد على أكاذيبهم،قافزين بذلك على الموضوع الرئيسي للإنتفاضات،وهو مسألة الديمقراطية،إلا أن التحول الدموي الذي عرفته هذه الإنتفاضات بعد الدخول المفاجئ لعصابات قدمت نفسها على أنها تيارات سلامية،وإعلانها حمل السلاح كبديل عن الإنتفاضات السلمية التي كانت التوجه الإستراتيجي لهذا الحراك،وهو ما خلق الكثير من التساؤلات حول الهدف الحقيقي من وراء هذا التهور الذي يضعنا أمام سؤالين مركزيين،أولهما هو :إلى أي حد كانت هذه التيارات المسلحة، مستقلة عن أجهزة  المخابرات المحلية والدول المجاورة،وخصوصا دول الخليج؟؟ ثم السؤال الثاني،وهو : هل تجاوز الشعوب المنتفضة  لهذه التيارات ،خلق شعورا بفقدان الأمل في توجيهها، وبالتالي تحييد هذه التيارات  من المشهد بعد الإطاحة بنظم الإستبداد،كان دافعا رئيسيا لتحويل اتجاه هذه الإنتفاضات السلمية؟؟  إن الغاية من طرح هذين السؤالين،تجد مشروعيتها في ما تلا هذه الإنتفاضات من سيناريوهات مخابراتية،كان عنوانها الأبرز،رسالة إلى الغرب…كون هذه الإنتفاضات السلمية المزعومة،المطالبة بالديمقراطية،هي في حقيقتها،مجرد تيارات إسلاموية متطرفة،تهدف إلى إقامة دولة الخلافة،تحت لعلعة الرصاص وقطع الرؤوس…لقد انطلت الحيلة على عديدين،حتى على بعض من يحسبون أنفسهم على اليسار،ووجد فيها آخرون من بعض التيارات المتياسرة،فرصة ذهبية،للتعويض عن ضعفهم التنظيمي،مادامت بعض الحركات الإسلامية قوية تنظيميا وستحصد مقاعد البرلمان،وأنتجوا لنا نظريات غريبة وهجينة،عن ثورات رجعية،وانضموا من حيث لا يعلمون أو يعلمون إلى طابور سدنة  الإستبداد،عوض أن ينتصروا للديمقراطية،وبناء الذات تنظيميا،منتظرين ثورة عمالية حمراء خالصة،يقودها لينين شخصيا،بعد الإنبعاث من قبره لآداء هذه المهمة العاجلة،والعودة إليه بعد انتهاءها،دون أن يحركوا هم ولو قليلا، أدمغتهم الراكدة….التي طالما أوصى لينين وماركس باستعمالها،والإستعاضة بها كأفضل طريق للخلاص ،عبر التحليل الملموس للواقع الملموس.. وشرع تنظيم الدولة الإسلامية التي كانت مهمتها الأساسية في البداية الإطاحة بنظام نوري المالكي العراق،واستنزاف إيران ..لتتحول إلى أداة تخويف للغرب،بعدما تم نقل نشاطاتها الإرهابية إلى داخل الإنتفاضات السلمية من أجل الديمقراطية….وانبرت الأنظمة العميلة فعليا لأمريكا وإسرائيل،ترمي مواطنيها بالعمالة،لهاتين الدولتين…معتقدة أن تمويل مشروع داعش الإرهابي،كفيل بإخماد ثورات الشعوب من أجل التحرر إلى الأبد،،وهو اعتقاد ساذج ومغفل،يمكن أن يجمد مشروع الدمقرطة لبضع سنين،لكن لا يمكنه أن يخمدها أبدا..

المغرب..حراك مؤجل،ودستور مُعاق

صباح يوم 20 فبراير 2011،كانت أولى مسيرات  حركة 20 فبراير تجوب شوارع أزيد من 100 قرية ومدينة،مطالبة بالديمقراطية ومؤطرة بشعار مركزي،عنوانه:الحرية،الكرامة،والعدالة الإجتماعية… ونشبت خلافات حول طبيعة النظام  وسقف المطالب،وتم التركيز على فصل السلط وغيرها من المطالب،وانتظار موازين القوى…إلا أن العوامل الجيوسياسية،ومآل الثورة في سوريا واليمن،وحالة الفوضى التي آل إليها الوضع في ليبيا بين الفرقاء السياسيين وأيضا حالة اللا أمن التي دشنتها التيارات المعلومة داخلها،وداخل الدول الأخرى…ألقى بظلاله على الحراك المغربي،وكان طبيعي أن يتأثر ويختار الخفوت التدريجي ،كما تاثر في البداية بالإنتفاضات…ويمكن القول أيضا أن مبادرة رئيس الدولة بخطاب 9 مارس،وطرح دستور جديد،وهو الدستور الذي قاطعته الحركة،بناء على أسباب قانونية وأخرى سياسية،تتعلق الأولى باختلال في الشكل،وما يُختل شكلا،لا فائدة منه مضمونا،وهي قاعدة قانونية معروفة…وتتجلى عمليا في تعيين الملك للجنة صياغة الدستور،وهو ما يتنافى ..كما هو معلوم في علم السياسة ..مع طرق صياغة الدساتير الديمقراطية،حيث كان الاصح،صياغة دستور ديمقراطي عن طريق انتخاب أو تشكيل  لجنة تأسيسية ،تكون بعيدة عن اي تأثير أو تبعية عن السلطة القائمة..وهي المعنية الأولى بمطالب الحراك الشعبي،ما جعلنا منذ البداية،أمام إعلان صريح ورسمي..أمام دستور ممنوح..وسيتأكد ذلك  في السنوات الأولى لأجرأته،خصوصا وأنه تمت الإستعانة بتقنية  إغراقه بالقوانين التنظيمية،وهي تقنية معروفة،تهدف إلى إفراغ الدساتير من مضمونها،وكشكل من أشكال الإلتفاف القانوني على فصول الدستور،وفي الوقت الذي كان البعض متفائلا أكثر من اللازم،عاد وتاب عن تفاؤله،ووقف على حقيقة أن النظام المغربي،لا يجيد صياغة الدساتير،بقدر ما يجيد إفراغها من محتواها ،وأصبحنا أمام دستور مُعاق،ينص على الحقوق الأساسية والصلاحيات الدستورية للمؤسسات في بنوده،ويحتال عليها في القوانين التنظيمية التي تفسر هذه البنود، بمشيئتها وإرادتها المنفردة،أي الجهة المفسرة…حتى اعتقدنا أننا أمام دستور 1996،بلوك ومظهر جديدين،خصوصا أمام التعاون المنقطع النظير الذي أبداه رئيس الحكومة وحزبه  والأغلبية البرلمانية،تجاه المؤسسات الراغبة في تقزيم هذا الدستور.

حكومة تائهة…وآفاق مجهولة

على الرغم من تصدر حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية كما يصرح بذلك، لتشريعيات 25 نونبر 2011،وبعد مقاطعة بعض القوى اليسارية الداعمة للحركة آنذاك،وهي النهج الديمقراطي والطليعة والإشتراكي الموحد،إلا أن البعض اعتبر ذلك تعبيرا عن حسن نوايا النظام السياسي،تجاه العملية السياسية،وراهن بعضهم على حكومة قوية وبرلمان قوي،يفكر ويتصرف بشجاعة شباب 20 فبراير،وقوة اللحظة الدستورية وزخم الحراك المجتمعي،إلا أنه وبعد أول خطاب لرئيس الحكومة أمام المعارضة البرلمانية،بدا الرجل تائها،خائفا من فقدانه لمنصبه ولامتيازات حزبه من خلال  المسؤولية الحكومية التي يتحملها رغم استعماله لما يسمى في علم النفس،بالآليات الدفاعية،فقد انتهى به المطاف إلى اللجوء فيما يُشبه الهروب الكبير، إلى استراتيجية التفكه وزرع الإبتسامة والمرح في قلوب المغاربة،عوض زرع وترسيخ الممارسة الديمقراطية داخل المؤسسات وفي علاقته بباقي المؤسسات والسلط،وهو ما سايرته فيه المعارضة البرلمانية نفسها،كإعلان واضح من الطرفين ،عن انتصار وهمي على روح الحراك الشعبي وتطلعاته المشروعة،والعودة إلى نقطة البداية،فكان التنازل عن الصلاحيات،تنازلا خلف تنازل،وعوض أن تشكل هذه الولاية الحكومية،فرصة تاريخية لوضع قطار الديمقراطية  على سكته،وإخراج قوانين تنظيمية تليق بلحظة تاريخية كلحظة 20 فبراير،وتدشين إصلاحات هيكلية عميقة،تمس  صناديق النهب والريع والإغتناء غير المشروع،بدا كل هذا حلما بعيد المنال،وأصبحنا أمام طموحات حزبوية ضيقة،تستهين بحاضر ومستقبل الوطن والأجيال القادمة،وتتسابق فيمن يقدم أفضل الخدمات للنظام الحاكم،وفيمن يكون أكثر مخزنية من الآخر،وعوض أن يلتحق المغرب بنادي الدول العصرية والديمقراطية ،عاد وتقهقر إلى الوراء،والتحق بدويلات الخليج البعيدة،حتى أن البعض سار يتهكم علينا عارضا عضوية بلدنا في مجلس التعاون الخليجي،إنه مآل لا نُحسد عليه،ويجسد أزمة حقيقية،سواء على مستوى السياسة الداخلية أو الخارجية للبلاد،وعليه،فإنه في ظل غياب دستور ديمقراطي،وفي ظل نخبة محافظة،و خنوعة وانتهازية،وفي ظل خطاب المؤامرة ،ينبغي أن نقول:إن الأوطان لا تُبنى بالتخويف والترهيب والقفز على الدساتير والإلتفاف عليها،وإنما بتدشين مسار ديمقراطي تشاركي وتنمية حقيقية،بعيدا عن شعار،أنا الدولة،الذي قال به لويس 14،في لحظة ما،ما عات تنفع في القرن 21…..إن إحلال سلطة المؤسسات مكان سلطة الاشخاص،وتحويلها من شخصية إلى مؤسساتية،ما يرافق ذلك من محاسبة ورقابة على أعمالها،هو الكفيل ببناء دولة الحق والقانون،وليس أي شيء آخر.