عبد الرحمن اليساري العتيد، وعبد الإله ابن كيران الإسلامي العنيد، عنوانا تجربة فاشلة، علق عليها المغاربة آمالهم في لحظات فارقة ومصيرية من تاريخ البلاد.

الأولى كانت فرصة لانتقال ديمقراطي حقيقي، في ظل ما سمي تفاؤلا حينها بـ “العهد الجديد”؛ سرعان ما تبدد بممارسات جنحت نحو سلطة تصيغ آليات الضبط وسياسات التحكم بما تمتحه من النظام القديم، من منطلق الإعجاب به والوفاء له، باعتباره سيرورة زمنية لا ينفصل عليها رمز النظام الجديد على مستوى الشكل، والقطع مع المضمون النتن الذي أزكم الأنوف في وقتها، أو هكذا أراد أن يسوق النظام الجديد رؤيته، ويقدم نفسه، خصوصا مع عالم نهض لتوه من أوحال الحربين الكونيتين، مع ما شهده من صعود نجم ديمقراطيات ناشئة تتلمس طريقها نحو مزاحمة الدول الكبرى، على وقع أفول نجم الاستبداد تَمثَّل في سقوط ديكتاتوريات بعامل القوة الموضوعية والفشل الذاتي، تجلى في انقضاض قلاع النازية والفاشية، وتقهقر معاقل الاتحاد السوفياتي.

في هذه الأجواء المشبعة بالأمل، رمى اليوسفي صنارته، وبعد فترة انتظار فهم منها في البداية أنها فترة صبر وعدم تعجل الثمرات بالنظر للإرث المتراكم من السنوات العجاف،  خابت الآمال وانتكست التطلعات،مع دنو الفترة الانتقالية من منتهاها؛ بعد أن عمل النظام على إنتاج مركبات نقصه وصقل واجهاته حتى لا تشار إليه الأصابع، بالسوء طبعا. لتبدأ عملية جديدة قديمة تلقي باللائمة على الأحزاب، وتجعل منها مشجبا تعلق عليها واقع الإخفاق والفشل، وكل الخطايا والرزايا.

بهذه الصورة البانورامية البئيسة للأحزاب، التي أريد لها أن تتشكل في مخيال القواعد الانتخابية بمافيهم الشباب، وما تشكله هذه الفئة من قوة تغييرية إن أتيح لها الانخراط الفعلي في حياة سياسية نظيفة لا يحدد لها سقف التحكم ولا مكابح التغيير إن ارتضى النظام الديمقراطية آلية فعلية للتداول السلمي على السلطة، لا استثمارا لبعض أجزائها في تدبير مؤقت للأزمة وإطالة أمد الاحتقان، ذات الصورة تتشكل لدى الفاعل السياسي من خارج الأحزاب التي غدت، بعد يأسها من التغيير ومحدودية أثرها، مقاولات حزبية ينخرها الفساد والتطاحن على فتات المائدة، استُغِلت استغلالا بشعا في تسويق مسيرة ديمقراطية عرجاء لم تحسم في اختياراتها بعد، مسيرة ظلت بطيئة مثقلة بالأعطاب.

بهذه الصورة، التي لم ييأس البعض من التلويح بها في وجه النكسات المتتالية رغم إخفاقاتها المتكررة في المدمار المسيج، دخل عبد الإله ابن كيران بحزبه لحظة تغيير أملا في الإصلاح بقوة دفع، كان للشارع المتحرك الثائر على الفساد دور كبير فيها،إلى جانب نظافة رصيد الحزب.بمرور سنوات الولاية باتت مطالب الحراك السلمي في مهب الريح، فتعزز موقف القائلين باستحالة الإصلاح في ظل الواقع القائم الذي يهندس أبعاده النظام الحاكم، فيحدد شروط اللعبة وخطوطها وسقفها، ما زكى الطرح الذي يدفع في اتجاه الإحجام عن المشاركة المنقوصة.

وتأكد للكثيرين أن اختراقا ديمقراطيا لجدار الهيمنة بعيد المنال، في ظل منطق التعليمات والاستحواذ والقوى النافذة، المتحكمة المقربة من النظام المستفيدة من الوضع، المحاربة في أي اتجاه ترمق فيه ارهاصات التغيير وبوادر انعتاق الرقاب المستسلمة الخاضعة، هذا الخضوع الذي يشكل كنزا استراتيجيا لاستمرارية أية قوة مهيمنة.وقد توصل عبد الرحمن اليوسفي بعد مسيرة طويلة من الممارسة السياسية إلى قناعة لخصها بقوله: “لم يبق أمامي إلا الانسحاب. فلم تبق لا سياسة ولا جدية.”

إلا أن الرهان على مسألة السكون والخضوع رهان وقتي أثبت فشله. وما مقاومة الأحرار للقوة الاستعمارية إلا مثالا حيا للناقمين على الظلم والاستئثار كيف ما كان مصدره، ومهما كانت الظروف والحيثيات متباينة؛ أوليس ظلم ذوي القربى أشد مضاضة    على المرء من وقع الحسام المهند.

والمشترك بين التجربتين تبدى بشكل واضح في فشل تحقيق طموحات الشعب من حرية وكرامة وعدالة اجتماعية، فيما ظل المشترك الأبرز هو كون الحزبين استُقدِما لإسعاف النظام الحاكم في أحلك فتراته. فأنقذا الحاكمين في مقابل تعميق جراح المحكومين. ليتأكد للقاصي والداني أن أي إصلاح حقيقي يجب أن يكون على أرضية صادقة تجنب البلاد أزمات مستقبلية كرد فعل طبيعي ومتوقع لتنفيس الاحتقان السائد، وكذا بتنازلات مؤلمة للنظام إن كان حقا يسعى لمصلحة البلاد والعباد.