في إحدى الحارات بالمدينة، تجري معركة غريبة ( وربما في أغلب الحارات كما سأسمع من بعد)، معركة تدور بالليل غالبا، تخفت نهارا، ويشتد أوارها ليلا، خاصة قبل الفجر، حين يكون الناس في سبات عميق، في هذا الوقت بالذات ، تبدأ عملية القذف بالمنجنيق بين سكان الحارة، ولم تكن القذيفة غير صندوق القمامة “الأخضر” الكبير، لا أحد يرغب فيه أمام باب بيته، و لا يحتمل مرآه رابضا أمام باب منزله.

ولأن دروب الحارة ضيقة مثل سرداب، ولأنه لم يتبق بالحارة موضع قدم شاغر، فقد أجمع أصحاب الحارة ألا بقاء للصندوق “الأخضر” الكبير، أمام سكنى أحدهم، وغدوا على حرد مصمّمين، يتقاذفونه بينهم ، ويتبرؤون منه كما يتبرمون من الأجذم .

ولإدارة المعركة ، جيّش كل واحد منهم ، أهل داره و جيرانه ، يلبثون خلف المتاريس بالليل والنهار، يتناوبون و لا يكلون، فريق لليل و آخر للنهار ، يسحلون الصندوق ويجرونه ويلقونه بعيدا، هناك حيث ينبغي أن يكون، عند الآخرين الذين يستحقون تواجده بينهم ، و يردون القذيفة من حيت أتت. وحدهم عمال النظافة المساكين، أصابهم الدوار وهم يبحثون ،كل صباح، عن الصندوق “الأخضر” الكبير الضائع بين متاهات هذا السرداب الكبير. 

مايجري بين سكان الحارات، يقع مثله بين دول  العالم ، و يضحي صندوق القمامة الأخضر الكبير ،شحنة عملاقة ، وسواء أكانت القمامة سامة أم غير سامة، إيطالية أم فرنسية أم هندوسية حتى، فإنها تبقى في الأخير قمامة وقذارة و قذى، ويزيد الأمر نتنا و عفونة إذا أتوا بها من عند الآخر.

 وبعيدا عن حسابات الاقتصاد والسياسة، فإن للأمر بعدا أخلاقيا ، لا ينبغي إغفاله أو التغاضي عنه، “فالشيء” الوارد (ليست بضاعة كما هو متعارف عليه تجاريا) ليس  منتجا مصنعا أو فلاحيا أو خدماتيا، يستحق عناء المبادلة بالنقد الصعب الثقيل، المسألة هنا ) بعد أن شاعت وذاعت) مرتبطة بما فضل عن الآخرين، بما خلفوه ، ولم يرغبوا في تركه بينهم، بما يخافون إبقاءه فوق ترابهم، وسمائهم، ومائهم، بمخلفاتهم التي حتما تؤذيهم، إنها مسألة تسمية  قبل كل شيء، والنفايات تبقى نفايات، سواء سموها بديلا حراريا أو كتلة طاقية أو “قاذورة” عطر. فكيف سينظر أبناؤهم إلى أبنائنا، عندما يُعلمونهم ، أننا مطرح نفاياتهم و مكب قذارتهم !.

حتما لن يقتلنا الجوع و لا الحروب، و لا الجراد، لن نموت من إملاق أو فاقة، ستقتلنا القذارة و الوساخة ، وستعوي أمعاؤنا جراء الماء القذر، وستخنقنا نفاياتنا ، التي عجزنا عن تدويرها، وسنغور في هذه الحفر التي من تحتنا( مدن بأكملها تعوم فوق حفر سموها حفر القذارة)، وسنشرب من الماء الآسن ،الذي لم نستطع الحفاظ على ماء وجهه، كما تفعل باقي الأمم.

يا لسخافتنا! متى أصبح الآخر ينقل قاذوراتنا ، وفوضنا إليه تدبير مائنا و كهربائنا، الآخر الذي على ظهور أبنائنا ، يبعث إلينا بالخردة ننشرها في الأسواق، وبعرباته المهترئة تصدأ على أرضنا قطرة قطرة. الآخر الذي باسم الاستثمار، يزرع أرضه حورا و صفصافا، وشرفات منزله ياسمينا وفلاّ، وفي المقابل يلقي إلينا بمعامله، ذات المداخن العملاقة، الآخر الذي فجر الأرض من تحت أقدامنا، يجري تجاربه النووية ( استعدادا لمعركة ضد من ؟!)و انظروا إلى صحراء الجزائر وسهوب كازاخستان و قيعان المحيطات، هل تُنبت بعدها، ساق قمح واحدة.

لقد فطن الناس في الطابق العلوي ، للعمارة التي نسكنها أجمعين، أن حبل التقدم بدأ يلتف حول عنق الناس، وأن العلم الذي نشده البشر، لم يوصلهم إلى الجنة الموعودة، فتداركوا الأمر، واشرأبوا إلى السماء العالية، يعبون من هوائها النقي. أما في أسفل البناء، فالزحام والزحار والدفيئة، سلخت جلود العباد، وملأ الرماد عيونهم، واستوطن السخام رئاتهم، وهم يتطلعون إلى الأعلى، لعل فضلة تنزل فوق رأس أحدهم.