سئمنا من الخرجات الخطابية، التي تذكرنا بسوق عكاظ وبتفاخر القبائل العربية الجاهلية بأنسابها، وقرفنا من استغباء الناس، والتشدق بلحن القول الكاذب: حزبنا أصيل وحزبكم صنيع، حزبنا خرج من رحم الشعب وحزبكم باضته الإدارة أو المخزن أو التحكم كما ينشرون، نحن النبلاء وأنتم تطاردكم خطيئة النشأة، نحن الإسلام وأنتم الرذيلة والجاهلية والمروق.

ولكن الخطابات العنترية لا تصمد أمام واقع التاريخ العنيد، والحقيقة الساطعة التي توثق لكل مولود سياسي ميلاده، ففي المغرب مغرب الاستقلال، سيكون من السخرية الفجة بذكاء المغربي، الحديث عن تمييز رحم الشعب من رحم المخزن عند ولادة الأحزاب السياسية، أو حتى الحركات السياسية، فقد كانت ولا تزال  قاعدة  التوليد عند الحكم السياسي هي: خلق الأضداد لضرب الأضداد بالأضداد، والحزبان الوحيدان اللذان أنجبتهما إرادة الشعب إنجابا صافيا هما حزبا الحركة الوطنية التحريرية: حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال، وهما أيضا لم يكونا ليبصرا النور لولا أن إدارة الاستعمار كانت تتوخى من وجودهما تطويق الكفاح التحرري المسلح الذي كانت تخوضه القبائل المغربية الثائرة بمرجعية دينية جهادية، وكانت تتوخى أيضا دس الوقيعة بين أجنحة الحركة الوطنية نفسها.

وإذن فعلينا أن نختار إحدى طريقين: إما أن نستنطق التاريخ كي نستكشف لكل حزب عن نشأته والدور الموكول له، وهنا سوف تصفع وجوهنا خطايا النشأة وليست خطيئة واحدة للنشأة، وإما أن نترفع عن كيل الشتم للغير والشماتة به وأن نكون في مستوى اللحظة التاريخية لوطننا المغرب، الذي جعلته الأقدار، ولحد الٱن، جزيرة في بحر واقع عربي موار بالبراكين الشعبية والزلازل السياسية، أن يترفع كل حزب سياسي استغلظ مع المرحلة فراح يسخر من غيره من الأحزاب يراها  تزحف بأذنابها، بينما هو يتعامى عن رؤية ذيله الطويل المجرور في أوحال الأرض وطينها.

وأول باب للترفع عن سقط الكلام اللغو هو أن يعتبر كل حزب سياسي لغيره من الأحزاب السياسية، السواسية الكاملة، في الحقوق والواجبات، إن في النشأة والميلاد، وإن في الأدوار والمسؤوليات.

وأن تضع الأحزاب السياسية تحت أقدامها التصورات الديماغوجية حول  الانتساب إلى رحم الشعب، حتى لا تتداعى التصورات إلى طمث الأرحام، وإلى من أطمثها من قبل من الإنس أو الجان أو الشيطان، وأن لا رحم يعلو فوق رحم المواطنة، في التحزب السياسي  كحق ثابت تليد لكل مواطن مغربي، وأنه متى اتحدت إرادة بعض المواطنين في التأسيس لحزب سياسي يلائمون فيه ميولاتهم الفكرية ومصالحهم وطموحاتهم الوطنية، فلا حق لأي كان أن ينازعهم هذا التأسيس و تلك النشأة.

وأن الخلفية الفكرية متى ما كانت مرجعيتها مشروعة عند التأسيس الحزبي فليس لأي كان أن يلمزها بالنعوت الجارحة أو أن يناصبها العداء.

وفي النسق السياسي المغربي، تدور رحى الأحزاب السياسية عند نشأتها أو إنشائها حول محورين رئيسيين هما محور التوازن بين القوى السياسية، ومحور الحفاظ على الاستقرار السياسي للبلاد.

وعلى هذا الأساس قام حزب العدالة والتنمية، وعلى هذا الأساس أيضا قام حزب الأصالة والمعاصرة، وإذن فلا شيء أكثر تشابها وتقاسما لظروف النشأة والانطلاق، من هذين الحزبين السياسيين اللذين هما الٱن قطبي الصخب السياسي المندلع راهنا في البلاد.

ففي سنة 1996 وعندما انتهى الملك الحسن الثاني من مفاوضة المعارضة السياسية على أساس الشراكة في حكم البلاد، وفي صلب هذه المعارضة، حزب الاتحاد الاشتراكي  الحزب الوريث للقوى المناهضة للنظام السياسي، وعندما قرر الحسن الثاني منح صدارة الحكم لهذا الاتحاد الذي كان هو قلب اليسار المغربي وعقله وسواده الأعظم، وكان في بداية تاريخه يواجه النظام السياسي في طبيعته وفي نسقه الملكي، وقد كان هذا القرار الملكي التاريخي من أجل حماية الاستقرار السياسي وضمان استمرارية النظام السياسي.

وفي هذا المنعطف التاريخي، بادر الملك الحسن الثاني إلى اتخاد قرار استراتيجي أخر يعزز به قرار منح صدارة الحكم للمعارضة الاتحادية، وذلك حفاظا على التوازن السياسي بين القوى كدعامة أساسية للاستقرار والاستمرارية، وهو القرار التاريخي الذي ضمن للإسلاميين اللحاق بالركب السياسي، بإلحاقهم وإدماجهم في الحياة السياسية، عبر بوابة الحركة الشعبية الدستورية، وتحت وصاية ورعاية ورقابة الدكتور عبد الكريم الخطيب، الزعيم الوطني في حرب التحرير وشيخ المدافعين عن المؤسسة الملكية.

وعبر هذا القرار الملكي التاريخي بضمان توازن القوى، خرج الدكتور الخطيب إلى الساحة السياسية من جديد، بعد أن كان متواريا في غمرة الكمون والحياد، وخرج لإنجاز وضبط المشروع الخطير، مشروع تسييس الإسلاميين، وهو المشروع الذي كان يتشبث به منذ 1967، ويرى من خلاله قيام  الحزب الإسلامي كوسيلة للدفاع عن المؤسسة الملكية والثوابت الدينية للمملكة، في مواجهة زحف الحركة الاتحادية ومخاطر اليسار، غير أن الحسن الثاني كان يمانع في ذلك ويتحفظ عليه.

وهكذا أصبح المشهد السياسي الجديد قائما على التوازن السياسي، بإدماج اليسار التقليدي: الاتحاد الاشتراكي في السلطة والحكم، وبإدماج جزء من الحركة الإسلامية في المشهد السياسي، التوازن بين القطب الذي يقوده عبد الرحمان اليوسفي زعيم المعارضة اليسارية والحركة الاتحادية المناهضة سابقا للحكم الملكي، والقطب الذي يقوده عبد الكريم الخطيب زعيم الدفاع عن المؤسسات الدستورية والفاعل التاريخي في تعزيز المؤسسة الملكية بالمرجعية الدينية ومؤسسة إمارة المومنين.

وإذن فقد نشأ حزب العدالة والتنمية في أحضان استراتيجية وطنية تبتغي تحصين الاستقرار السياسي عبر سبيل إحلال التوازن في البلاد بين القوى و التيارات السياسية، وقد تأتى لفريق من الإسلاميين أن يخدموا هذه الأهداف الوطنية بالتفافهم حول الدكتور الخطيب وهو رجل الدولة، ورجل المؤسسة الملكية، وابن دار المخزن وابن الحركة الوطنية وابن  الكفاح الجهادي التحريري.

وبعد المحطة السياسية لسنة 2007، وعندما اختلت الحياة السياسية، بالضعف والتضعضع الذي اعترى واقع الأحزاب السياسية، فنتج عنه عزوف سياسي خطير، وفراغ سياسي في المجتمع مهدد للتوازن في الاتجاه الذي قد تعلو فيه تيارات سياسية وايديولوجية، لا مصلحة لاستقرار البلاد في تناميها وغلبتها، عند حصول هذا الاختلال، كان لا بد من انطلاق استراتيجية تحرك الدينامية السياسية، وتمتص حالة الخمول والركود في اتجاه إنقاذ البلاد من حالة الترنح السياسي.

وهكذا نزل إلى الساحة السياسية رجل الدولة ورجل المؤسسة الملكية وابن دار المخزن فؤاد عالي الهمة، ليضع يده في يد فريق من السياسيين اليساريين، للتأسيس لحراك سياسي جديد ابتدأ بالنواة الأيديولوجية تحت مسمى الحركة لكل الديمقراطيين، وانتهى بالتحول لبناء الحزب السياسي: حزب الأصالة والمعاصرة.

وإذن فلقد نشأ حزب الأصالة والمعاصرة في أحضان استراتيجية وطنية تهدف إلى إنقاذ الاستقرار السياسي في البلاد بالتفاف فريق من اليسار ممن كان بعضه في سجون سنوات القمع والجمر، التفافهم حول رجل الدولة  فؤاد عالي الهمة، لخلق تجربة سياسية نوعية تتكاتف فيها كفاءات رجال الدولة مع الرصيد النضالي لبعض رجالات المعارضة اليسارية الراديكالية، من أجل مشروع وطني هو تفعيل الحركية السياسية في البلاد، بتفعيل التعدد والتنوع حفاظا على التوازن ودرءا  للتغول السياسي الأحادي.

وهو ذات المشروع الذي نهض له رجل الدولة عبد الكريم الخطيب، مستقطبا له فريقا من أبناء الحركة الإسلامية، لتفعيل تجربة سياسية في البلاد تستثمر الطاقات الإسلامية في اتجاه حراسة التوازن في البلاد بحراسة الثوابت المؤسسية والدستورية.

 ومن ثم فقد كانت النشأة السياسية لكلا الحزبين مبنية على فضيلة الحفاظ على التوازن الذي يضمن استقرار البلاد فاستمرار عافية مؤسساتها الدستورية، فهل يصح التقول على هذا المشروع الواحد والنشأة الواحدة باللمز بالخطيئة.