في خضم هذه الحملة الإعلامية والشعبية والحقوقية التي تقودها العديد من الطاقات المحلية بخنيفرة احتحاجا على ملوحة الماء غير العادية بمدينة خنيفرة وددت أن أحكي لكم حكايتي مع هذه المياه باعتباري وافدا عليها من منطقة غير بعيدة ، لكنها تتميز بمياه حلوة لا علاقة لها بما يشربه  المواطنون في عاصمة زيان .

 أحيانا أطرح على نفسي سؤالا حول طريقة تنويمنا نحن معشر هذه الجماهير  الغفيرة ، هل كان ضروريا أن نصمت على كل هذا الذل والإهانات الواحدة تلو الأخرى؟ ماذا ستفقد هذه الجماهير التي تعيش الحرمان ويقتل وينصب بعضها البعض ؟

قبل أن أستقر بمدينة خنيفرة كنت أزورها لقضاء أغراض شخصية أو حضور تظاهرات ثقافية بها، وأول ما كان يثير انتباهي المذاق  المالح للماء الشروب الذي يقدمه نادل المقهى ، مذاق يصبح مقبولا كلما كانت درجة حرارته منخفضة، لكن الشيء الذي يجعلني انتفض في هذه الزيارات هو عندما أسهو وأطلب ” براد أتاي” من النادل أنذاك يصبح مذاق الشاي والملح مقززا إذ في الغالب لا أشرب إلا كأسا أو نصف كأس.

 شاءت الظروف أن استقر بخنيفرة وأتعايش مع مذاق مياه أم الربيع المالحة،  وللإشارة أخبرني أحد الأصدقاء أن قنوات من منبع أروكو  ذو المياه الحلوة تصل إلى مساكن مجموعة من البنايات المخزنية لإعفاء سكانها  من شرب المياه المالحة. المياه التي يوزعها المكتب الوطني للماء على الاف الأسر الخنيفرية، بدأت أتعود شيئا فشيئا عليه وأصبح براد شاي واحد لا يكفيني خاصة إذا أضفت إليه نعناع” أروكو” الذي يسميه الباعة ب” وين تمازيرت”في إطار نوع من الماركوتينغ المحلي،  كأن باقي أنواع النعناع الأخرى نستوردها من إيطاليا كالنفايات والأحذية الأنيقة.

مرت ثلاث سنوات وأصبحت ضمن المستهلكين للمياه المالحة على أساس أنها غير مالحة، إلى درجة أن أحد أصدقائي في الفايسبوك كاد يستفزني حين كان في زيارة للمدينة وعلق على ملوحة المياه في صفحته،  وطرحت السؤال في ذهني أنذاك هل الماء مالح؟ علما أنني كنت أتقزز من شرب الشاي بالماء المالح.

 خلاصة ما سردته أن سبب صمتنا يعود إلى أننا عودنا على الخضوع وتم تدريبنا وترويضنا على الصمت لقرون عبر اشتغال مؤسسات وجهات كثيرة  كالمسجد والمدرسة والأسرة و الأولياء والصلحاء والشارع،  على تنمية ملكة النسيان والخضوع في ذهنيتنا، وفي وقتنا الحالي انتقل العقل المخزني إلى استغلال الوسائل الحديثة لصالحه وكان من الممكن لو استغلت جيدا،  أن تدمره من الداخل. 

توزيع  الماء المالح، أمر  تستهين فيه السلطات بصرخة الخنيفريين بعدما تضاعفت ملوحته مؤخرا، لأن المكتب المسير للقطاع له القدرة على نفخ الفواتير، وما الاحتجاجات التي عرفتها المدينة في السنة الماضية إلا نموذج حي لصرخات الخنيفريين، احتجاجات لا زال يتابع فيها مواطنون قالوا بصوت مرتفع :”  راه الما غالي علينا”،  وليست له نفس القدرة لإصلاح عطب تقني عكر الحياة على الاف المواطنين في استهلاكهم لمادة حيوية لا خيار لهم إلا شراؤها من شركات الريع أو التنقل إلى المنابع القريبة من المدينة لتلبية حاجياتهم.

  الملوحة لا تغادر ألسنتنا، بل تجف شفاهنا كلما تعرضت للهواء وتبدأ في التشقق كأننا نتبع علاجا كيميائيا لتجميلها، كما تسببت في أمراض كثيرة لسكان المدينة وزوارها،  ربما لو تم تشخيصها لاكتشفنا فداحة الأمر أكثر .

مثلما دربنا المخزن على الصمت في قضية الماء دربنا أن نصمت في قضايا أخرى ويستهزء بعضنا من بعض حتى وإن كان المطلب واحدا، ويتهم بعضنا البعض بالخيانة و التخندق في صف المخزن بمجرد ما تختلف أشكال التصدي لمشاكلنا التي تكون أحيانا محلية وتحتاج إلى نزع قبعات الانتماء الأيديولوجي لحلها.

في انتظار أن تتغير عقليتنا وأساليب عملنا وتتوحد الجهود للوقوف في وجه كل الإهانات التي يصر المخزن أن يذيقنا إياها ( التقاعد،  نفايات، تفويت الأراضي،  رفع الأسعار ….) دعونا نشرب الماء المالح لعل الملوحة تتسرب إلى خلايا أدمغتنا لتفسد كل وصفات الخضوع والخنوع التي رسخت فيها منذ قرون.