(1)

كما هو الشأن في كل دول العالم يكتسي الشغل في المغرب أهمية بالغة في تحقيق استقرار الأفراد والمجتمع، فهو المصدر الأساس للعيش الكريم ووسيلة فعالة لتحقيق اندماج الأفراد في المجتمع وتحقيق الاستقرار المادي والنفسي للأسرة التي تعتبر النواة الأولى لبناء مواطن صالح قادر على المساهمة الواعية والفاعلة في بناء ورقي وازدهار بلده. 

من هذا المنطلق، ما فتئت السياسات الاقتصادية والاجتماعية منذ الاستقلال إلى اليوم تولي اهتماما ملحوظا بمسألة التشغيل وأحدثت من أجل ذلك آليات وبرامج متعددة وصرفت مبالغ مالية ضخمة بغية مواكبة النمو الديموغرافي المتزايد وما نتج عنه من ارتفاع مضطرد في الطلب على الشغل. ورغم كل المجهودات المبذولة في هذا الإطار ورغم أن نسب البطالة عرفت انخفاضا ملموسا خلال الخمس عشرة سنة الماضية (من 13,4% سنة 2000 إلى 9,7% سنة 2015)، إلا أن الأرقام والإحصائيات الرسمية حول واقع سوق الشغل (عدد العاطلين عن العمل، الشغل الناقص أو الهش، بطالة الشباب والنساء، بطالة حاملي الشواهد، إلخ) تبين بالملموس أن هناك المزيد من العمل يجب القيام به لحل أو على الأقل تقليص المشاكل البنيوية التي يتخبط فيها سوق الشغل.

وهذا ما جعل وزارة التشغيل والشؤون الاجتماعية في حكومة بنكيران تحاول الانتقال من تدبير ظرفي كانت الحكومات السابقة تنهجه بتضمينها للتدابير المتعلقة بالتشغيل في كل قانون مالية على حدة إلى مقاربة استراتيجية شاملة وطويلة الأمد، وذلك بإنجازها لأول استراتيجية وطنية من أجل التشغيل 2015-2025. وقد حددت لهذه الاستراتيجية غاية مركزية وهي “إنعاش الشغل اللائق والمنتج في أفق سنة 2025” تمت ترجمتها إلى مجموعة من الأهداف الكمية والنوعية والمتمثلة في :

1/ خلق مناصب كافية لاستيعاب الطلب المتزايد على الشغل؛

2/ تقليص الفوارق بين الجنسين والفوارق المجالية (قروي/حضري) في الولوج إلى الشغل؛

3/ تقليص الفوارق في إنتاجية وعائدات العمل؛

بالإضافة إلى أهداف أخرى غير مرتبطة بشكل مباشر بموضوع هذه الورقة.

وقد بنيت الاستراتيجية الوطنية من أجل التشغيل على نتائج “دراسة تشخيصية لواقع التشغيل بالمغرب” أنجزها فريق من الباحثين والخبراء بجامعة القاضي عياض لفائدة الوزارة المعنية بدعم تقني من مكتب العمل الدولي (Bureau international de travail)وبدعم مالي من الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي في مجال التنمية.

ما يثير الانتباه وربما الدهشة أيضا هو أن الاستراتيجية الوطنية للتشغيل اعتمدت سيناريو متفائل جدا حيث أنها حددت من بين أهدافها الكمية تقليص نسبة البطالة من 9.2% سنة 2013 إلى 3.9% سنة 2025 وهذا في نظري ما لا يمكن أن يتوقعه أكثر المتتبعين تفاؤلا بحيث أن مثل هذه المعدلات لا يتم تحقيقها إلا في اقتصاديات قوية ومتكاملة أو عندما تكون الدورة الاقتصادية (cycle économique) في مرحلة الصعود والمتميزة بنسب نمو مرتفعة، وهذه أمثلة على معدلات بطالة تعتبر من بين أدنى المعدلات في العالم تم تحقيقها سنتي 2014 أو 2015 : ألمانيا 4,5%، الصين 4,1%، اليابان 3,1%، إيسلندا 4,2%، إلخ.

وبما أن نسبة البطالة و بنية سوق الشغل والتشغيل تمثلان وجهين لعملة واحدة فإن تحليلا دقيقا للمعطيات الاحصائية المتعلقة بسوق الشغل وتطوراته الممكنة في أفق سنة 2025 كفيل بإعطاء صورة تقريبية على الأقل عن قابلية الهدف السالف الذكر للتحقق. ولهذه الغاية نطرح سؤالين اثنين سنحاول الإجابة عنهما في هذه الورقة :

أولا : إذا كان من البديهي أن تقليص معدل البطالة بخلق مناصب شغل جديدة مرتبط أساسا ببنية سوق الشغل وبشكل أشمل ببنية الاقتصاد الوطني، فهل وصلت المنظومة الاقتصادية الوطنية إلى ما يكفي من النضج والقوة والتوازن التي تمكنها من استيعاب الأعداد المتزايدة سنويا من الراغبين في الشغل ؟. فحسب آخر الإحصائيات المتوفرة (تقرير بنك المغرب لسنة 2015 مثلا) يزداد عدد السكان النشيطين بمعدل سنوي يصل إلى حوالي 115.000 فردا في حين يخلق الاقتصاد الوطني معدل 129.000 منصب شغل سنويا. وبعملية حسابية بسيطة إذا استمرت هذه المؤشرات على نفس المنحى فإن معدل البطالة سيكون في حدود 7.76%سنة 2025 أما إذا أردنا تحقيق معدل بطالة في حدود 3.9% فيجب أن يوفر الاقتصاد الوطني معدل 179.200 منصب شغل سنويا بدل 129.000.

ثانيا : إذا كانت الاستراتيجية الوطنية تراهن على نسب نمو مرتفعة خلال العشر سنوات القادمة كفيلة بتغيير جدري (un bouleversement) في وضعية سوق الشغل – وهذا أمر مستبعد بالنظر إلى الظرفية الاقتصادية العالمية التي تنذر باستمرار حالة الركود على الأقل على المدى المتوسط وكذا نظرا للبنية الاحتكارية واللاتنافسية للاقتصاد الوطني – فهل الإجراءات المسطرة من خلال المحاور الاستراتيجية الأربع كفيلة بتحقيق هذا التغيير ثم إلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى أن تلك الإجراءات قابلة للتطبيق ؟

سنحاول إذن في هذه الورقة الإجابة عن السؤالين السابقين من خلال قراءة تحليلية مبسطة للدراسة التشخيصية المشار إليها أعلاه وكذلك للتقارير الدورية الخاصة بسوق الشغل خصوصا منها تقرير بنك المغرب وتقارير المندوبية السامية للتخطيط ثم من خلال قراءة تحليلية نقدية للاستراتيجية الوطنية من أجل التشغيل 2015-2025. ولكن قبل ذلك لا بد من تحديد بعض المفاهيم التقنية المستعملة في هذه الورقة تيسيرا للفهم على القارء غير المتخصص.

1/ مفاهيم تقنية مرتبطة بسوق الشغل

مفهوم العمل : كما هو متعارف عليه في النظريات الاقتصادية والليبيرالية منها على الخصوص، يعتبر العمل عاملا من عوامل الانتاج بجانب الموارد الطبيعية ورأس المال. والعمل (le travail) أو قوة العمل عند الماركسية (force de travail) هو سلعة مثل باقي السلع قابلة للبيع والشراء وخاضعة لقانون العرض والطلب. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يجب التمييز بين العمل (travail) والشغل (emploi) الذي يعني الوظيفة التي يتم من خلالها إنجاز هذا العمل أو عملية التوظيف في حد ذاتها.

مفهوم سوق الشغل(أو سوق العمل): سوق الشغل (إذا جاز فعلا أن نسميه سوقا) هو المكان الافتراضي الذي يتم فيه تداول العمل كسلعة تباع وتشترى مثل باقي السلع ويتكون سوق الشغل من أربعة عناصر:

عرض العمل (أو طلب الشغل) ويتجلى في مجموع الأشخاص الذين يعرضون كفاءاتهم وخبراتهم ومعارفهم للبيع مقابل أجرة محددة؛

 طلب العمل (أو عرض الشغل) ويتجلى في جميع الوحدات الإنتاجية بمختلف أشكالها (أشخاص طبيعيون، مقاولات، إدارات عمومية، …) التي تبحث عن العاملين لديها مقابل أجرة محددة ؛

 ثمن العمل وهي الأجرة المتفق عليها بين الطرفين؛

مجموع المقتضيات القانونية والتنظيمية المنظمة لسوق الشغل.

وتعمل هذه العناصر الأربعة مجتمعة لتحدد لنا في آخر المطاف عدد الأشخاص العاملين داخل اقتصاد معين، عدد العاطلين ونسبة البطالة، دخل العمل، إلخ.

السكان النشيطون – السكان غير النشيطون: في إطار الإحصائيات المتعلقة بالشغل، يصنف السكان إلى فئتين: فئة الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة وهؤلاء يعتبرون خارج السن القانوني للشغل. ثم فئة السكان البالغين 15 سنة فما فوق وهؤلاء هم مجموع السكان في سن العمل (population en âge de travailler). وتنقسم فئة السكان البالغين سن العمل إلى فئتين كذلك: السكان النشيطون (population active) والسكان غير النشيطين (population inactive). ويصنف في فئة غير النشيطين كبار السن، المرضى العاجزين عن العمل، الأشخاص ذوو الاحتياجات الخاصة الغير قادرين على العمل، التلاميذ والطلبة المتابعين لدراستهم، ربات البيوت اللاتي لا تبحثن عن عمل، إلخ.  

وتظم فئة السكان النشيطين مجموع الأشخاص المشتغلين فعليا (actifs occupés) بالإضافة إلى النشيطين غير المشتغلين (actifs inoccupés ou chômeurs) والذين يسمون بالعاطلين عن العمل. وتجدر الإشارة هنا أن عددا كبيرا من المغاربة لا يصدقون أرقام الحكومة المتعلقة بنسبة البطالة وهذا راجع بالأساس إلى نوع من الخلط في تحديد معنى العطالة. فحسب مكتب العمل الدولي وكذلك المندوبية السامية للتخطيط التي تبنت نفس التعريف، لكي يعتبر شخص ما عاطلا عن العمل يجب أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط : أن يكون في سن الشغل، قادرا عليه ويرغب فيه، أن يكون بدون شغل أي أن لا يكون قد مارس نشاطا مهنيا أكثر من ساعة خلال أسبوع مرجعي، أن يكون مستعدا للشغل في أجل لا يتعدى 15 يوما، ثم أن يكون في بحث متواصل عن الشغل وذلك بالقيام بإجراءات بحث متعارف عليها. وعلى هذا الأساس لا تعتبر ربات البيوت مثلا عاطلات ولا يعتبر عاطلا كل شخص فقد الأمل في إيجاد شغل واستسلم وتوقف عن البحث منذ أكثر من شهر.

نسبة النشاط (taux d’activité): تعبر هذه النسبة عن عدد السكان النشيطين مقارنة بعدد السكان البالغين سن الشغل. فإذا كان مثلا عدد السكان البالغين 15 سنة فما فوق هو 10 ملايين من بينهم 6 ملايين من السكان النشيطين فإن نسبة النشاط هي 6 على 10 أي 60%.

نسبة البطالة (taux de chômage): تعبر هذه النسبة عن عدد العاطلين مقارنة مع عدد السكان النشيطين. فإذا كان عدد السكان النشيطين هو 6 ملايين من بينهم نصف مليون عاطل فإن نسبة البطالة هي0.5 عل 6 أي 8.33%.