يقترب الموعد الرسمي للانتخابات النيابية، ومعه يكثر الحديث حول مخرجات تلك الانتخابات، وما يمكن أن تؤول إليه، خصوصا بسبب القرب الزمني مع سابقتها الجماعية والجهوية، والتي أعطت الصدارة لكل من حزبي العدالة والتنمية، الذي يقود الحكومة، والأصالة والمعاصرة.

ومن ثم تجد الكثيرين، سواء أناسا عاديين أو متابعين للشأن السياسي، يتسابقون إلى التكهن بهذه النتيجة أو تلك، ويكون التخمين في الغالب إما لصالح العدالة والتنمية أو لصالح الأصالة والمعاصرة. وهذا الانقسام في الرأي حول من يمكن أن يكون صاحب صدارة في انتخابات تنتج عنها حكومة سياسية، يجب أن يطرح أكثر من سؤال على المحللين والمهتمين بالشأن السياسي والحزبي، مثل، هل يتجه المجال الحزبي  إلى ثنائية حزبية؟ وما مدى تأثير ذلك على المواطن/المصوت؟ وما مصير الأحزاب الأخرى خصوصا تلك التي لا تمثيلية حقيقية لها؟ وما تأثير ذلك على اللعبة السياسية والعمل الحكومي والتشريعي؟ ثم، وهذا ما يهمني هنا، هل قدر المغاربة موجود في اختيارين اثنين أما حزب العدالة أو حزب الأصالة؟.

إن السؤال المطروح أعلاه، يولد سؤالا آخر، سؤالا أكثر قلقا، ليس في البعد الزمني القريب ( زمن الانتخابات) بل في البعد الزمني البعيد، وهو كالتالي : هل المغاربة حقا منقسمون مجتمعيا بين مشروعين مجتمعيين فقط  ؟

فالعدالة والتنمية نتاج تقويض ناعم لحركة بدأت دينية بالأساس، أجرته وزارة الداخلية بهندسة من رئيسها الأسبق البصري. والبام هو نتاج محض للداخلية في إطار مشروع لم يكتب له الاستمرار طويلا، بعد حدث 20 فبراير، وهذا المشروع كان يتغيى تونسة المغرب كما في زمن بنعلي، أي تحضير حزب الدولة الدائم، الذي سيلف حوله باقي الأحزاب ، تلك التي فقدت كل شيء عندها، وكان ذلك آخر إبداع للدولة في هذا الخصوص بعد خلق جبهات حزبية حينا واستمالة أحزاب معارضة حينا، وتفتيت أحزاب في أحايين كثيرة.

نحن إذن أمام سؤال يتجاوز المكسب أو الخسارة الانتخابية، ويتعداه الى وجود الشعب بالأساس، فالشعب الذي يكون دوره انتخابي محض، ويتم استدعاؤه الى الصناديق فقط للتصويت، ويعطي رأيه في توجهين لم يصنع اي واحد منهما، ليس له وجود، انه غير حاضر لا وعيا ولا مبادرة ولا انتاجا، إنما هي يده واصبعه من يحضران مرحليا.

لم لم يلتف المغاربة حول مشروع اصيل خاص بهم؟

لقد تمت رشوة جزء كبير  من ما يعرف بالنسيج الجمعوي، عبر آلية دولتية مثل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وفقدت بذلك كثير من صيغ التضامن  جانبها المستقل الذي كان يسمح لها بالانحياز سياسيا ، وليست الأحزاب السياسية باحسن حال، فهي في غالبها تمثل صدى للدولة وخطاباتها، وحتى شكلها ونمطها، وعوض ان تكون هذه الأحزاب صلة بين الشعب/المواطن/المجتمع وبين الدولة/المؤسسات، أضحت صيغة تهدئة وترغيب وآلية تطبيل وتهليل للخطاب الرسمي.

ماذا لو كانت الصورة غير ذلك؟

تاريخيا، لم يكن المجتمع المغربي مستقطبا لاتجاه واحد، حتى زمن المقاومة إبان طرد المحتل الفرنسو- إسباني ، وهذا ما سيظهر جليا بعد الاستقلال السياسي، اذ سينقسم الشعب المغربي طوليا حول مشروعين مجتمعيين كبيرين، أولهما مشروع تحرري بنفحة اشتراكية وديمقراطية، وثانيهما مشروع تسلطي استبدادي بطابع مخزني عتيق. وهذا الانقسام الثنائي ما لبث يستقيم حتى أعيدت صياغته مع صعود موجة التأسلم التي عرفتها المجتمعات العربية والإسلامية في الثمانينيّات والتسعينيات من القرن الماضي، فأصبحنا امام تقاطب مجتمعي ثلاثي، مخزني وهو الذي يهيمن على الدولة، وتحرري موزع في الاطارات السياسية والنقابية والجمعوية، وماضوي يؤدلج الدين، ويبعد الصراع عن حقيقته المادية ( سياسيا واقتصاديا) الى صراع هوياتي وإيماني.

وإذن هل اختفى المشروع التحرري ليترك مكانه لثنائية مجتمعية؟ او هل تماهى مع احدهما لحساب الاخر؟ وإذا كان غير ذلك فكيف يتجلى ذلك المشروع؟

ان مشروعا فكريا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا كمشروع التحرر الوطني لا يمكن ان يختفي هكذا بين عشية وضحاها، ولا يمكن ان يكون قد ذاب في مشروع اخر او انصهر فيه، ذلك ان مسببات بروز ذلك المشروع بداية لازالت قائمة، التأخر التاريخي وغياب الدولة الوطنية الديمقراطية واستفحال التبعية على كل المناحي مع استمرار الطغمة السياسية المستبدة في الحكم، وهذا يعني اننا لا زلنا في مرحلة التقاطب المجتمعي الثلاثي بين المخزني والتحرري والماضوي، غير ان حوامل هذه المشاريع ليست بنفس القوة والتنظيم والحضور الإعلامي، اذ بمقابل مركزة المشروع المخزني والمشروع الماضوي في حامل او حاملين، تعددت حوامل المشروع التحرري وتنوع من ينتسب له، صراحة او ضمنا، دون قدرة اي طرف على تشكله كمحور رئيس ضمن هذا المشروع فتلتف حوله باقي الحوامل.

وإذن فان المشروع التحرري الوطني لازال قائما، وفي كل ابعاده، سياسيا وثقافيا واقتصاديا، لكن المهيمن على اللعبة في المغرب يريد ان يغيبه عنوة وقسرا، لانه مشروع مهدد لاستمرار التسلط والاستبداد.

 ان الشعار السياسي هو دائما المكثف لباقي الشعارات والمعبر عن خلاصاتها، ولذلك فاني ارى ان ما تبقى من اليسار المغربي هو القادر ان يكون كقصب الغزل الذي يجمع  حول شعاراته وتصوراته السياسية باقي حوامل المشروع التحرري من نقابات كفاحية وجمعيات مناضلة وشخصيات نزيهة. ذاك ان اليسار هو أمل الشعب الوحيد ، الان، الذي يمكنه ان يكون أمينا على شعارات المرحلة : الحرية- الديمقراطية- العدالة والكرامة. وهي في نفس الوقت مطالب حركات احتجاجية كثيرة.

ان ما تبقى من اليسار المغربي قد قطعت صلاته من جهة الحركات الاحتجاجية، كما قطعت الى جهة النخبة المثقفة والمبادرة، فأصبحت حوامل المشروع التحرري في جزر شبه معزولة عن بعضها، الجميع يشتغل، لكن ليس هناك تجميعا طاقيا للجهد المبذول،وليس  هناك توحد حول تعبير سياسي. وبالرغم من ذلك يبقى للمشروع التحرري الوطني وجودا قطعيا، وهو يخترق المجتمع فكرا وثقافة، كما له حضور سياسي واجتماعي، وهو يقدم نفسه علانية في تعابير متباينة على حسب المستويات والميادين.

لذلك فقدر المغاربة ليس هو الاختيار بين مشروعي التسلط والتبعية، مشروع مخزني يتغنى بالحداثة والديمقراطية دون اعمال حقيقي لهما، وبين مشروع ماضوي يحصر التدين في الشكل ويعلي قيمة النقل على العقل. بل هناك اختيار متجاوز لهما، له رؤاه الواضحة في السياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها، يضع المواطن في مركز اهتمامه، ويهدف الى تحرير الانسان وتحرير الارض وتحرير القرار.