عندما كان يكتب الماغوط لم يكن يكتب لأنه شاعرا، و إنما حمل في وجدانه قضية قومية ناضل و كافح من أجلها، تمرد على ذاته و خان وطنه نثرا، من أجل الضعفاء و الصعاليك و المهمشين …

《عكازك الذي تتكئ عليه‏

يوجع الإسفلت‏

فـ«الآن في الساعة الثالثة من هذا القرن

‏ لم يعد ثمة مايفصل جثث الموتى‏ عن أحذية المارة»

*****

انحاز الماغوط بشكل متواطئ ، مع القضايا الخاسرة، و أمن منذ البداية ان معركته لن تخرج عن مؤامرة مدبرة تورط في خوض فصولها، وظل يحمل قصائده متسكعا، يطرق أبواب المساجين و المنبوذين و قطاع الطرق وحمل هموم الجميع ساخرا من قدر أباد اجيالا كاملة. لم يكن هذا البدوي الأحمر، يؤمن باشراقة شمس الصباح وقصر الليل و عشاق الغابات و حقيقة التاريخ و المروج الذهبية.

دموعي زرقاء

من كثرةِ ما نظرتُ إلى السماء وبكيت

دموعي صفراء

من طولِ ما حلمتُ بالسنابلِ الذهبيةِ

 وبكيت فليذهب القادةُ إلى الحروب

والعشاقُ إلى الغابات

والعلماءُ إلى المختبرات

أما أنا فسأبحث عن مسبحةٍ وكرسيٍ عتيق.

من يقرأ محمد الماغوط يستمتع بتلك الذائقة الشعرية الممزوجة بالسخرية السوداء والرافضة للقهر و الظلم و البؤس البشري، فكل قصيدة من قصائده شكلت عنوانا للحزن و الهزائم ، و لم يكن يوما الفرح مهنته، فقد ترعرع مثل بذرة نمت و تفرعت أغصانها بين تلال فقدت تاريخها، و ظل مثل عصفور احذب يغرد خارج السرب و شكل لوحده جيشا من الأحرف الصامتة، لكنها سرعان ما تصبح مثل طوفان جارف في يم القصيدة، تكتسح من خلال ايقاعها الداخلي كل قارئ سقط في فخ قصائد الماغوط.

مللت اللجوء الى التبغ

والخمر

والمهدئات

وأبراج الحظ

إن سعة الخيال تمزق أعصابي

ولم تعد عندي حدود واضحة أو آمنة بين

المجد والعار

والأمل واليأس

والفرح والحزن

والربيع والخريف

والصيف والشتاء

والمذكر والمؤنث

والمرفوع والمنصوب

وها أنا أضع أجمل وآخر قصائدي

في أذني وإصبعي على الزناد

وأنا واثق بأن حلقات من الدخان ستتصاعد كأنها رصاصة حقيقية

لقد كان الماغوط يتلاعب بالصور الشعرية، مثل مروض احترف التهجين و تطويع الأشياء و ترويض الحيوان و اختارق الطبيعة، امتهن الفاحشة في الأصول، كل هذا لكي يعلن تمرده على الوجود.

ماذا نفعل عند هؤلاء العرب من المحيط إلى الخليج ؟

لقد أعطونا الساعات وأخذوا الزمن

أعطونا الأحذية وأخذوا الطرقات

أعطونا البرلمانات وأخذوا الحرية

أعطونا العطر والخواتم وأخذوا الحب

أعطونا الأراجيح وأخذوا الأعياد

أعطونا الحليب المجفف وأخذوا الطفولة

أعطونا السماد الكيماوي واخذوا الربيع

أعطونا الجوامع والكنائس وأخذوا الإيمان

أعطونا الحراس والأقفال وأخذوا الأمان

أعطونا الثوار وأخذوا الثورة

كان الماغوط ابن ضيعة، يعرف سر الحقول، اكتسب من خبرة أبيه قواعد الفلاحة، نشأ في أسرة فقيرة، حظه في التعليم انتهى برسالة أبيه. حسب تصريح صحفي للماغوط يقول بخصوص هذه النازلة : ” إن أبي الله يرحمه بعث رسالة أن يرأفوا بحالي لأنني فقير علقوها في لوحة الإعلانات بالمدرسة والرايح والجاي يقرأها ويضحك ومن يومها هربت من المدرسة.”

هروب قاده، الى واقع شكل انعطافة في حياة الماغوط، عندما لاجأ إلى إحدى مقرات الحزب القومي و هو الحزب الذي لم يقرأ مبادئه.

في هذه الفترة، بدأ الماغوط واقع التمرد من نافذة الأدب طور من مساره الفكري عن طريق القراءة، بفضل مساعدة زوجته سنية صالح و هي كاتبة وشاعرة سورية، التقت بالماغوط اول مرة في بيت الشاعر السوري أدونيس في بيروت، وهي الفترة التي قضاها الماغوط هناك في أواخر الخمسينيات، إذ فيها تعرف الماغوط على أدونيس في السجن وحينها اكتشف أدونيس مواهب الماغوط المسرحية و الشعرية، ليتطور التعارف بينهما خارج أسوار السجن.

منذ تلك الفترة بدأت تبرز أعمال الماغوط عن طريق الإصدارات الأدبية و الشعرية و المسرحية “حزن في ضوء القمر” 1959 و”غرفة بملايين الجدران” 1960 و”الفرح ليس مهنتي” 1970، هذا فضلا عن مسرحياته التي من أشهرها “غربة” و”كاسك يا وطن” و”ضيعة تشرين”، وللسينما كتب “التقرير” و”الحدود”.

ولد محمد أحمد عيسى الماغوط في سلمية بمحافظة حماة عام 1934. كانت سلمية ودمشق وبيروت المحطات الأساسية في حياته وإبداعه، وامتاز في القصيدة النثرية التي يعتبر واحدًا من روادها، توفي في دمشق في 3 أبريل 2006.

جناح الكآبة

مخذولٌ أنا لا أهل ولا حبيبة

أتسكعُ كالضباب المتلاشي

كمدينة تحترق في الليل

والحنين يلسع منكبيّ الهزيلين

كالرياح الجميلة، والغبار الأعمى

فالطريق طويلة والغابة تبتعد كالرمح

مدّي ذراعيك يا أمي أيتها العجوز البعيدة

ذات القميص الرمادي

 دعيني ألمس حزامك المصدَّف

وأنشج بين الثديين العجوزين لألمس طفولتي وكآبتي

الدمع يتساقط وفؤادي يختنق كأجراس من الدم

فالطفولة تتبعني كالشبح كالساقطة المحلولة الغدائر

ملحوظة: المقاطع الشعرية مأخوذة من قصائد الماغوط