قد يكون الأمر ممتعا لو افتتحنا هذا المقال ببعض من السرد لنعتبر منه؛ فبينما كنت أستقل الحافلة نحو مدينة شاعر الباشا محمد بن ابراهيم، علقت فتاة شابة على نفسها بندم: “أنا لست الغلط، بل مجرد جزء منه، وله هو أيضا نصيب من ذلك”؛ هي جملة قالتها في وجه حبيبها المغادر متحسِّرة على ماضيها المؤلم، لعلها ترمي وراءها أوزار تجاربها العشقية العابرة.. لم ألم الفتاة على أفعالها ولست بالطبع أهلا لفعل ذلك، لأنها في نظري جزء بسيط من الخطإ وليست كله.

قصة الفتاة يسيرة التفاصيل، إلا أن ما يهمني منها أن الإنسان قد تصيبه فترة ذبول خانقة.. قد يختار مسارا يراه البعض مذموما وغير مرغوب فيه، فيصبح باختياره في موضع الشتيمة والهجوم من قبل أناس يظنون أنهم يسيرون على الصراط المستقيم. إن عين الصواب هو أن يعتاد المرء  على التفكر في الوضع قبل الحكم عليه، فليس كل ما يصيبنا قد نتحمل نحن بالضرورة وزره ومسؤوليته، فكم من وضع سياسي واجتماعي مثلا سببته لنا بعض نخبنا السياسية الهشة؟! فلو أردنا الحديث عن العزوف السياسي في صفوف الشباب أو عن اتساع رقعة المقاطعين للانتخابات بالمغرب، لا يجب الاقتصار على وصفهم بخونة الوطن مثلما فعل السيد توفيق حجيرة، في وقت كان عليه طرح السؤال حول أسباب العزوف والمقاطعة وعدم الاكتفاء بمهاجمة مواطنين أحرار عبروا عن رأيهم بالطريقة تلك.

لقد سبق لي أن عاينت عن قرب تجربة قد ترُدُّ على كل الاتهامات التخوينية في حق مقاطعي العملية الانتخابية، وذلك لما تطوعت ضمن فريق من ملاحظي الانتخابات المحلية والجهوية ل 4 شتنبر 2015 بمدينة العيون، حيث لاحظت أن ثمة عددا مهما من أوراق التصويت المتضمنة لنصوص وعبارات: أغلبها قذفٌ وسبٌّ وبعضها نقدٌ وسخطٌ أراد له “المصوتون” أن تصل إلى الجهات المعنية. لكن، للأسف الشديد، لا يتجاوز هذا الصوت الثائر أنظار أعضاء مكتب التصويت لينتهي به المطاف في المحرقة التي تُوقد بعد إنهاء فرز الأوراق وعدِّها؛ هي في نظر المشرع مجرد أصوات ملغاة.. مجرد أصوات لا تُحَدِّدُ فلانا أو علانا، بل تجمعهما في كيس واحد متَّحد.. وهو كيس الفساد. أليس من الأجدر إذن أن تُدْرَسَ تلك الأوراق حتى تفهم عقليات هؤلاء الناخبين وتعرف رغباتهم؟ ما الذي أوصلهم أصلا إلى نهج هذا السلوك النقدي من داخل مكاتب التصويت؟

إن مقاطعة الانتخابات من حيث مبدئها أشبه بالإلحاد، وقد يليق بالمقاطع، لا انتقاصا منه ولا تحقيرا له، لقب “الملحد” السياسي، لأن الأصل في الإلحاد هو الإنكار والرفض. فهذا المقاطع لا يستنكر الانتخابات لوحدها، بل إنه يشكك في وجود الديموقراطية الحقة بالبلاد جملة وتفصيلا. وبالتالي فهو لا يؤمن بما تكشف عنه صناديق الاقتراع المطبوخة، ولا تقنعه في الأصل كل الأحزاب السياسية المتلونة ولا برامجها الفارغة أو مرشحيها الانتهازيين. إن مقاطع الانتخابات رافض لأساس العملية الانتخابية كله وليس فقط لجزء التصويت. إن هذا المقاطع ليس خائنا كما قيل، بل هو رأي آخر يحمل من دلالات السخط وعدم الرضا عن اللعبة السياسية كلها ما يحمله. من ذلك، إننا نقول بضرورة التعامل مع العزوف الانتخابي بمنطق يخالف منطق التخوين والإبعاد والهجوم. ألم يقل الملك في خطابه بأنه “ملك لكل المغاربة… ملك للذين يصوتون وللذين لا يصوتون”؟ 

إن عدم توجه المواطن لصناديق “الاقتراع” ليس وضعا فطريا أو خِلقيًّا، وإنما هي نتاج مكتسب له أسبابه وحججه: إذ يكفي أن يتذكر هذا المواطن البسيط أن أوضاعه لا تتغير، بل تسوء بتغير الحكومات ليقاطع، يكفي أن يتذكر الأستاذ المتدرب أن رأسه قد هشمته عصي الحكومة ليقاطع، يكفي أن تتذكر 10000 إطار تربوي كذبة الحكومة لتقاطع، يكفي أن يتذكر الموظف المضرب ما اقتطعته الحكومة من رزقه ليقاطع، يكفي أن يتذكر الصحفي “أحكام وزير العدل” ليقاطع، أفلا يكفي أن يتذكر القاضي عزل “الحكومة” له ليقاطع؟ ألا يكفي أن يتذكر البصير حقه المسلوب ليقاطع؟ ألا يكفي أن يتذكر المتقاعد صندوقه المتقوب ليقاطع؟ ثم ألا يكفينا نحن أن نتذكر كيف عز عليكم تقاعدكم، أيها السادة، لنقاطعكم؟ بالله عليكم ما كانت آمالكم؟ أن نصوت لكم لتزدادوا غنى على غناكم؟! أن نصوت عليكم لتناموا في مقاعدكم أو لتلعبوا بهواتفكم؟ بالله عليكم ألا تخجلون أنتم وسادتكم من تبديد مالنا العام؟ ألا تخجلون من تلويث شوارعنا بهتافاتكم وأوساخكم وفي النهاية تمررون قوانينكم المجحفة؟ قونينكم التي نتحمل نحن فقط أثقالها من أموالنا ومكتسباتنا وحريتنا وقيمنا.

إن مقاطع الانتخابات يعلم يا سادة أنكم تمثلون أنفسكم والأصل أنكم لا تحكمون.. لهذا هم قاطعوا كل المسرحية حقْنًا لدماء المال العام، حَقْنًا للأرزاق التي تُسْفَكُ في الرفاهية والسيارات الفارهة والبقع “الرخيصة” والتعويضات الباهضة والإقامات الفاخرة والأسفار الاستكشافية، حَقْنًا للمال الذي تستجمعونه من الضرائب والغرامات وعرق عباد الله في المحاكم “العادلة”.. لقد قاطعوا نداءكم محبةً في المواطن والوطن، فلماذا إذن تنعتونهم بخونته؟

في الختام، ربما ستسالون يا سادة متى يحين وقت الإيمان؛ متى يؤمن بكم “الملحدون” أو بكلمة أدق عن اللحظة التي سيهب فيها الوطن “بخونته” ليلبي نداءات مثل نداء 7 أكتوبر2016. دعوني أخبركم عن الزمن الذي سيفتخر به المواطن المغربي بالذهاب إلى مكتب التصويت: أولا: سنناصركم عندما تصان كرامة المواطن، لأنها أصل الوجود وأساسه، وصيانة الكرامة معناها إيجاد مقومات العيش الكريم لكل المغاربة دون استثناء أو تفضيل أو تبخيس: تعليم جيد للجميع، وصحة جيدة للجميع، وعدالة جيدة للجميع، وإدارة جيدة للجميع… ثانيا: سنساندكم عندما تنتقلون من فلسفة الشعارات الفارغة إلى فلسفة الأعمال الخالدة ، ولتنتقلوا لا بد لكم من إيثار مصالحكم الضيقة على مصالح الشعب الكريم: مثلاً: أن تتنازلوا عن الريع الذي كرسته مراسيمكم، لأنه حشوما أن يأخد برلماني نائم تعويضاً شهريا سمينا وتقاعداً يقدر ب 8000 لخمس سنوات من “العمل”، في وقت يتقاعد فيه بعض العسكريين ب 1500 درهم كحد أدنى لعمر بأكمله. ثالثا: سندعمكم عندما نلمس أنكم تحكمون وتسيرون بقناعاتكم، لا وفق إملاءات فوقية تجعل من العملية الانتخابية مجرد مسرحية توهم الناس بالديمقراطية الحقة وتبدد بها الميزانيات من المال العام.