انطلقت الحملة الانتخابية لثالث استحقاق انتخابي في مغرب ما بعد تاسع مارس، اليوم الذي وصفه المتفائلون جدا إبانه بالتاريخي الثوري، انطلقت وانطلق معها موسم توزيع صكوك الوطنية على الناخبين الصالحين (لكل شيء)، وخطابات التخوين تارة، والوعظ والتوجيه أخرى، على من سولت له نفسه الأمارة بالرفض مقاطعة الاستحقاق المنتظر.

 حمي الوطيس بين المزهو بنصر سابق وآخر آت منتظر، ولاعن متوعد مؤمن بأن أسبوع التين خلص وفسحة الاستعانة انقضت. اليوم وبعد خمس سنوات يبسط الملاحظ أسئلة الجدوى، هل نجحت حكومة ما بعد الحراك في تنفيذ مطالب الحراك، وتنزيل دستور “الفاتح”، وتجسيد أطروحة “الاستثناء”، وترجمة “فلسفة” الإصلاح في ظل الاستقرار، وإقناع الرافضين والثائرين بأن المغرب تغير، والإصلاح تحقق، والفساد غار، والاستبداد انتهى، والدور على المواصلة؟.

نعود بعد أعوام خمسة لمساءلة خطوط دستور يوليوز البادية، كونه الوثيقة التي أطرت، أو افترض أن تؤطر، العمل السياسي، لنستبين هل صدق النظام الذي منحها للشعب بعد أن جيش كل الآليات المشروعة والمحظورة، لتمر بأكثر من عشرة ملايين نعم، وليست هذه العودة إرجاعا لعقارب الساعة إلى الوراء، بل هي محاولة لتلمس مدى جدية النظام في تنزيل عقد خطه بيده، وإمكانية تصديقه وتأثيث تشريعيات ثانية.

لعل من أبرز ما حظي بالإشادة في الوثيقة الدستورية هو توسيعها لصلاحيات رئيس الحكومة، ومنحه هامشا أكبر كان قبلها حكرا على الملك، ما رأى فيه ذات “المتفائلين جدا”، تدرجا يصبو إلى الملكية البرلمانية، لكن واقع الحال والمقال اليوم يؤكد أن هذا (الرئيس) تخلى إنْ طوعا أو كرها عن جملة من هذه الصلاحيات، من تعيين الوزراء والسفراء، إلى العمال والولاة، وكذا بقية “مُزحة” الاستشارة. ومبرره في ذلك لازمته الأزلية: كسب رضا الملك وتفادي التصادم معه. فهل يصح حقا، بعد نهاية الولاية أن نجد فروقا بين مؤسسة رئاسة الحكومة، وسالفتها الوزارة الأولى، أمأن الواقع يشهد بأن الفصول 47 و49 و78 وغيرها مجرد أسطر لزم استبدالها بالنص الصريح:بنكيران ليس رئيس حكومة، بل هووزير (صاحب الجلالة) بحكومة (صاحب الجلالة) التي تسعى لإرضاء (صاحب الجلالة)، ثم لخدمة مصالح الرعية والشعب، إن ظل جهد ووقت.

يقول الفصل الأول من الدستور في تعريفه لنظام الحكم في المغرب بأنه “نظام ملكية دستورية ديمقراطية برلمانية واجتماعية”، ثم يعود في ذات الفصل ليرص الملكية الدستورية ـمُفردةـ ضمن الثوابت الجامعة، المتمثلة في “الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والاختيار الديمقراطي”. وهنا نطرح السؤال الأكبر: ما هو تعريف نظام الحكم في المغرب في ظل الضبابية التي تحملها التركيبة الرباعية التي تبعث على الحيرة والعجب؟. عجب ينهيه دستور الأمر الواقع بفقرة بديلة: “نظام الحكم في المغرب ملكية مخزنية تنفيذية تسود وتحكم وتتحكم وتُحكِّم، تترأس المجلس الوزاري، تعين الوزراء وتقيلهم وتوجه البرلمان وتحله”.

ذات الفصل ينص على ربط المسؤولية بالمحاسبة، دون أن يسرد الجهة التي تطالها ذي المحاسبة، ليبقى الأمر على إطلاقه، فهل يصح أن نستحضر الفصل 41 الذي ينص على مسؤولية صريحة يتولاها الملك بصفته رئيس الدولة، لنسائل الوثيقة:هل قُيد الربط أمام هذا الفصل والمنصب الاستثنائيين أم ظل الإطلاق حاصلا؟ فإن سرى عليهما فما الجهة المخول لها تحقيق المحاسبة، وإلا فما جدوى التقعيد والتنصيص إن ظل باب الخرق والاستثناء مشرعا. والأجدى حال النفي تفصيل أحد الفصلين باقتباس شارح “لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون”. 

لا مغالاة حين القول إن ما يعرِّف الحالة المغربية في ظل الدستور وتنزيله، والواقع وتمظهراته هو حالة العبث، العبث في الخط والتطبيق، الهزل في الوعد والثبات، الامتهان فيالبناء والإنهاء،وبداية القطع مع العبث تبدأ بالحسم في نقطتين رئيستين: تتجسد الأولى في تعريف نظام الحكم، ولا بديل واقعيا عن الاختيار بين أحد نظامين:

 -ملكية تنفيذية مطلقة تسير الشأن العام وتدبره، تتحمل وحدها المسؤولية الكاملة وقت فساد حاله أو صلاحه بعيدا عن التشاركية غير المنصفة وديموقراطية “نص نص”، يطبق في ظلها مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة من قبل المؤسسات المنتخبة، على أن تكون ذكرى العرش، مناسبة للحساب الأكبر عن كل بغلة عثرت وطفل جاع، لا عيدا لحشر الناس وحشدهم للركوع في صفوف يحادى فيها بين المناكب والأقدام وتُسد الفرج. 

ـ ملكية برلمانية تتولى السلطة إبّانها حكومة منتخبة “تجازى” بتجديد الثقة إن أصلحت، وبالطرد إن أخفقت، وبالزنازين إن أفسدت. أما النظام الحالي الذي نتخبط في متاهاته (مطلق حقيقة ودستوري خطّاً) فلن يؤدي إلا إلى تعاظم منطق التقريع ورمي المسؤوليات من جهة، والولاء والتمسح بالأعتاب لنيل الرضا، من جهة ثانية، والنتيجة لا محالة… مغرب غير مُشرق.

 ثانيا: تعديل جدي وجذريلقانون الانتخاببما يشمل نمط الاقتراع والتقطيع الانتخابي اللذين يشكلان، دون كثير مبالغة، فجوة للتزوير القانوني المشرعن، الذي تمارسه الدولة، ما ينتج حكومات شبه ائتلافية، تعمل بمنطِقي تسيير الأعمال وتحقيق التراضي، فكيف يعقل أن تنتجمزحة تخفيض العتبة، وخرق “أكبر بقية” المعجز، كيف يعقل أن تنتج كل تلك الترسانة اللاهية، نظاما ديمقراطيا وحكومات قوية تستطيع أن تتقاسم الحكم مع المؤسسة الملكية (الدستورية)، ستكون لا محالة حكومات تمضيعهدتها في تدبير الخلافات وحل النزاعات ـ نعم ـلكن بين أعضائها ومفاصلها، لا بين المواطنين والسلطة.

لا شك أن المقاطعة لن تشكل الحل الأنجع والبديل الناجح، لكنها منفذ مؤقت للراغب المضطر، وهي وسيلة إبداء رأي وليست غاية مرتجاة،لكنها رغم كل الحصار المفروض عليها حققت بضعنقاط، وإلا فلِم أقر الجالس على العرش بالمنتسبين إليها في آخر خطاب، ولا تقلّ جدوى عن الانتخاب في ظل الغبش، أو التصويت العقابي، فكلها وسائل توصل المنتخبين إلى منصب المحاسبة دون حكم، ليتلقوا السخط من أسفل والتقريع من علٍ. 

ولا شك أيضا أن حكومة بنكيران نجحت في تحقيق بضع إنجازات اجتماعية و(ديمومية) تمثلت في الوصول إلى خط الوصول رغم المطبات، ووضع اليد على ملفات لم يسبقها إليها أحد من المتناوبين على “الحكم”، كما يشهد لها بالمحافظة على حالة الإقبال الشعبي على السياسة التي خلفها الحراكان الداخلي والعربي. لكنها في الجانب السياسي -وهو الأهم كونه يتحكم في ما سواه- تعدت الفشل الذريع، وحادت عن الصفر إلى ما هو دونه، فلا هي حازت رضا الملكية الذي بذلت كل جهد لنيله، وتوالي الصفعات والغضبات عليها من المؤسسة الملكية، يقطع باليقين كل شك، ولا هي ضمنت التكامل بين مكوناتها وإقناع الناخب بإمكانية إقامة حكومة تماسك، ولا هي استطاعت قطع حكم الأصدقاء وتقويةثقة الرافضين بجدوى الانخراط.

والحصيلة: قبلة كتف انتقلت إلى اليد، وخد لم يمل رغم توالي الصفعات، ووزارة داخلية تسير بثبات نحو البصرنة، تجلد زميلاتها ومواطنيها، وتسلب وزير العدل حريته في الممارسة والتصريح، ووزراء يفقدون القدرة على النطق أمام بلاغ تقريع من رئيس الدولة.

 فهل اقتربنا حقا من البرلمانية الموعودة والمسطورة، أم أن صوت الحسن ينادي؟!. 

سيتجاوز المؤمنون بالانتخاب كل الأسطر ـ دون كثير تمحيص ـليواصلوا خطاب الإرشاد والتساؤل: ماذا حققت كل المقاطعات السابقة؟ نجيب:ما الفرق بينتاسع أكتوبر 2013، وثامنه من ذي السنة؟ لا فرق.. فعوالم الترضية والتذلل والترقيع ستبرز ولا مراء.سيشهرون من جديد تهماليوتوبيةوالانتظاريةوالعدمية، نرد:اليوتوبية التامة هي الحلم بإمكانية إصلاح النظام المخزني من الداخل والإصلاح في ظل الاستمرار والتدرج، وللمشكك أسوة حسنة أو سيئة في عصر التناوب القديم والحديث، فالاستبداد كائن لا يقبل انشطار السلطةواقتسام الأمر. والانتظارية الحقيقية هي الإقدام على نفس الخطوات كل خمس عجاف وانتظار اختلاف النتائج، والعدمية الحقة هياحتضان”الكنبة” وتطليق السياسة والإعراض عنها، ولسنا على ذلك بمقدمين، فلا تخلطوها بالواقعية.

اختاروا نظام حكم حقيقيا وواضحا، توقفوا عن الانتقال المرتعد بين لغة بن المقفع ثم التشويش ثم التحكم، طبقوا الحِسبة على الحَكَم والمساعد، وكفوا الألسن عن تضميخ البسطاء بالثناء إن قل الوعي وتعاظمت النصرة، ورمي المعارضين بالخيانة إن قالوا ما اختلج في الصدور وحشرج في الحناجر، حين ذاك لن نحتاج لإزكام الآذان بالحث على زيارة المَخادع، فالديمقراطية الحقة تجر خلفها ألف طابور، فجهزوا لذاك اليوم أكثر من صندوق، في انتظار ذلك تناول قلم السُّلطة ومحضر الانتخاب وسجل.. أنا مقاطع.