آفاق الانحطاط السياسي بالمغرب
لم يمض سوى أسبوعين على إعلان نتائج انتخابات 7 أكتوبر، وهو زمن لا يكفي لاستقراء مؤشرات المرحلة القادمة بالمغرب. لكن المشهد السياسي في البلاد محكوم ببنية يميزها الكثير من الثبات، ولها من هذا المنظور صلابة الجبال التي لا تزعزها الرياح الموسمية. كما أن هذه الأسابيع الأخيرة من بداية الحملة الانتخابية إلى حدود اليوم حملت عناصر جديدة من السوريالية المغربية، تشي فيما تشي به، بما قد تتمخض عنه الأيام القادمة.
آراء أخرى
أسفرت انتخابات 2016 عن صدارة حزب “العدالة والتنمية”، وهي نتيجة متوقعة تفرض الاعتراف بصمود هذا الحزب أمام هزالة حصيلته وضحالة تدبيره الحكومي، وكذا أمام الحملات الواسعة التي رعاها المخزن ضده، خصوصا بعد تقدمه في الانتخابات الجماعية الأخيرة سنة 2015، بل وإن المضايقات المخزنية الواضحة التي تعرض لها بنكيران وحزبه خدمت إلى حد كبير أجندته الدعائية، وأدت إلى تغاضي النقاش السياسي في كثير من الأحيان عن حصيلة الحكومة، مجددة نوعا من الاستهلاك السياسوي للحظة 20 فبراير بما ترمز إليه من أزمة بنيوية في الممارسة السياسية بالمغرب يستحيل معها أي مشروع ديمقراطي. ومع ذلك، فقد برزت بمنطق الأرقام بوادر قطبية حزبية رغم زيفها، وضاعف المشروع “السلطوي” عدد مقاعده بعد خمس سنوات من حراك جاء يرفضه.
وقد طور حزب “العدالة والتنمية” خطابا سياسيا يعتمد على الوقوف في وجه التحكم من جهة، وعلى نية الإصلاح الهادئ التدريجي من داخل المؤسسات من جهة أخرى. ويكفي أن نعود إلى الحملة الانتخابية التي قادها بنكيران، لنجد أن الأخير لم يراهن على حصيلته إلا لِماما كما لم يركز على برنامجه في استدراج الناس، وكان بالمقابل أقرب إلى كاريزما الزعيم الغيور على الوطن، والمدافع عن حقوق الشعب، الحريص على نظافة اليد، والملتزم بالخيار الديمقراطي، والصامد في وجه قوى التحكم الخفية التي تحاول ليل نهار أن تكسر ظهره. وطعّم بنكيران خطابه بكثير من العاطفية والمظلومية وباستثمار ذكي -وإن كان مرفوضا في الديمقراطية- للمشترك الديني واليومي، فهو القائل مثلا ما مفاده “بغيتوني هو هاداك مابغيتونيش خليوني نمشي نعبد الله” .. كما أنه شخصن معاركه مع حزب إلياس العماري واتهمه بالكذب وبيع الوهم والاتجار بالمخدرات ومعاداة الإسلام والظلم وقطع أرزاق الناس، وغيرها من التهم التي تولد إحساس “الحكرة” أوالغيرة على الدين لدى البعض، والخوف من الانزلاق إلى النموذج التونسي في عهد بنعلي لدى البعض الآخر، وهي مشاعر تكفي ليغفر الناخب غلاء المعيشة واكتظاظ المدارس والمستشفيات العمومية، لا سيما إذا كان التحكم يتحمل مسؤولية عرقلة الإصلاحات في هذه المجالات. وهكذا، تزاوج بروباغاندا بنكيران بين النفَس الوطني الإصلاحي وبين النفَس الإيماني الإحساني، وهي خلطة تجد سامعها بشكل طبيعي لدى شرائح واسعة من المغاربة بحكم ارتباطها بثقافتهم ومعيشهم اليومي. وهي بذلك تراهن على سيكولوجيا الناخب وتضحي بكل رؤية سياسية لواقع ميزان القوى الذي يضبط الساحة السياسية بالمغرب، وإمكانيات الإصلاح من داخل النسق المخزني.
وعلى سبيل المثال، كتب عزيز الرباح تدوينة قبل بضعة أشهر يحاول فيها تشخيص حالة التحكم بالمغرب، وقال إن التحكم اليوم ضعيف بالمغرب لكنه متربص دائماً بمؤسسات الدولة ومكتسبات المغاربة. وعوض أن يجرد الرباح خريطة التحكم وميكانيزمات اشتغاله ومصادر قوته أو يشرح السبل السياسية والقانونية التي تمكن من القضاء عليه، انساق إلى شعبوية التهويل والتخويف من هذا المد التحكمي الما بعد_مخزني_ وكيف بإمكانه اجتياح المؤسسات الإعلامية والأنشطة الاقتصادية تحضيرا لبسط هيمنته على البلاد. ويخيّل للقارئ أن هناك وحشا أو مافيا أوفيروسا فتّاكا ينخر جسد الدولة المخزنية أصلا، وأن على الجميع الاصطفاف لصدّ بوادره وإغراءاته. ويشبه خطر التحكم في هذا المقام بخطر الشيطان في الخطاب الدعوي التقليدي، حيث الأساليب الملتوية والنفس الأمّارة بالسوء، ويسمح هذا الجو النفسي ببروز الجانب الديني بحيث تصير مقاومة التحكم فرض عين على الجميع يقتضي التقوى وحفظ الحقوق والأرزاق. وهكذا تتظافر سيكولوجيا الخوف من الظلم السلطوي وسيكولوجيا إعلاء كلمة الإسلام والقانون بالتي هي أحسن، وهو ما يحاوله بنكيران من خلال استغلال “الباب الصغير الذي يفتح كل خمس سنوات لإيصال صوت الشعب للحاكمين ورد الضرر عنه قدر المستطاع”، إلى أن تهتدي الجهات النافذة في الدولة والعالم، وذلك بتقديم التنازلات، ودون الدخول في صراعات قد تؤدي إلى الفتنة، بالموازاة مع تقوية الجبهة الداخلية بالعمل الحزبي.
وذهب العديد من متتبعي الشأن المغربي إلى اعتبار نتائج الاقتراع الأخير انتصار للديمقراطية وللوطن، ورأوا في تعيين بنكيران رئيسا لولاية حكومية جديدة تـأكيدا لمسلسل الانتقال الديمقراطي، معزَّزاً بالوعي السياسي لدى المغاربة الذين أثبتوا إرادتهم بالتصويت على مشروع إصلاحي وضد مشروع مخزني، غالبا ما يتم اختزاله في حزب “الأصالة والمعاصرة”، لكونه يحظى بدعم جهاز الدولة ورجال السلطة والأعيان ويتنكر للصفحات القليلة التي خربشها المغاربة في كتاب الديمقراطية. كما استبشر كثيرون بأن الشعب المغربي أدرك خطر عودة السلطوية متنكرة في زي حزب سياسي يدّعي الحداثة والوطنية، جاعلين من هذه الانتخابات محطة فارقة في مغرب ما بعد 20 فبراير.
والحال أن هذه التحليلات تحتوي على قدر كبير من المزايدة، بل وتساير منطق البروباغاندا الداخلية والخارجية للاستثناء المغربي -كنموذج فريد للمنطقة بل وقابل للتصدير حسب البعض في طريقة إدماجه للإسلاميين والانتقال السلمي إلى الديمقراطية- أكثر مما تساير المنطق العميق للإصلاح الديمقراطي. ولعل نسبة المشاركة المعلن عنها خير دليل على ذلك، فهي هزيلة إذا ما قيست بحجم هذه الدعاية. كما أن الإقصاء الممنهج لشرائح واسعة من المجتمع عن طريق فرض التسجيل في اللوائح الانتخابية يسائل بحق نية الدولة في ترسيخ الديمقراطية، في الوقت الذي يكون فيه هذا التسجيل آليا في كثير من الدول الديمقراطية، بل وتعاقب دول كالبرازيل واليونان وبوليفيا على عدم التصويت إما بالغرامة أو بحجبٍ لبعض الخدمات العمومية قد يصل إلى الحرمان من جواز السفر.
من جهة أخرى، يبالغ خطاب النصر هذا في الاحتفاء بانتصار الناخبين للصف الديمقراطي، معتبرا أن التصويت لم يكن على برامج الأحزاب بقدر ما كان “سياسيا” رافضا لمصادرة الإرادة الشعبية من طرف السلطة، بحيث يصبح فوز “العدالة والتنمية” كناية عن فوز الديمقراطية. وصحيح أن هذا المنطق حسم كثيرا من الأصوات لصالح الإسلاميين وشكل إضافة نوعية لقاعدتهم وداعميهم، لكنه كما أشرنا سابقا منطق أخلاقي وسيكولوجي قبل أن يكون سياسيا، تسنده العاطفة الدينية ويحكمه الخوف والرفض المبدئي للفساد والاستبداد اللذين لطالما ارتبطا بالدولة المخزنية.وتجدر الإشارة هنا، إلى أنها عناصر يفترض أن النظام حسم فيها بعد استجابته للحراك الشعبي سنة 2011، مما يجعل استمرارها إلى الآن دليلا على ضياع خمس سنوات من البناء الديمقراطي. صحيح أن بنكيران صنع قوة استفتائية ضد “الأصالة والمعاصرة” وضد انصياع الأحزاب التاريخية كـ”الاستقلال” و”الاتحاد الاشتراكي” لإلياس العماري بعد أن غرر بهم لسبب أو لآخر، ولكن ما معنى أن تنتصر الديمقراطية على حزب يستطيع الانقلاب عليها في حالة نجاحه ؟ ما معنى أن يتّهَم حزب “الأصالة والمعاصرة” بوصفه مبدئيا فاعلا سياسيا وجزءا من اللعبة بالسعي إلى الانقلاب على المسار الديمقراطي؟ ما معنى أن يتهم “الأصالة والمعاصرة” برغبة الإفساد من داخل المؤسسات والانتخابات كأنه مشروع فاشي جديد تحكمه المافيا وتنعدم فيه الوطنية ؟ أليس بقاء حزب تفترض فيه هذه المواصفات أكبر دليل على غياب البنية الديمقراطية؟ أليس الخوف من نجاحه دليلا على إيمان المغاربة بغياب الضمانات المؤسساتية والقانونية للخيار الديمقراطي؟
يصعب القول إذن أن فوز الإسلاميين فوز للديمقراطية. إنه فقط تأكيد لرغبة المغاربة في الإصلاح، وهو أمر طبيعي بعد أن نجح النسق السياسي في صناعة فزاعة التحكم. وقد شبه علي أنوزلا، في إحدى مقالاته الأخيرة، الانتخابات بالمغرب، بالاستفتاء الكبير الذي يرصد بعض نبض الشارع. وهو تشبيه بليغ يمكن ربطه بهذا المنطق الأخلاقي والسيكولوجي المتعالي عن البرامج والحصيلات. والحال أن هذه الفزاعة لا يمكنها أن تختزل البنية المخزنية للدولة المغربية المقاومة للبنية الديمقراطية بطبيعتها، والتي تجعل من الأذرع الحزبية القديمة والجديدة آلية من آليات ضبط السيناريوهات السياسية. فبرنامج بنكيران لا يرفض المخزن ويثمن كل التوجهات الكلاسيكية للدولة، ولا ينوي التراجع عن تنزيل الإملاءات الدولية في ظل الأزمة المالية الخانقة التي تعرفها الخزينة. إنه برنامج يقر ضمنيا بضرورة الإعلان عن حسن النية تجاه المخزن السياسي والاقتصادي ويقر بضرورة الحفاظ على توازن القوى. ولذا، فهو يشخص أعطاب السياسات بشكل تقنوقراطي تارة ككل الأحزاب الإدارية وبشكل أخلاقوي تارة أخرى، وفي نفس الوقت يستفيد من رأسماله الإيديولوجي لتقديم نفسه قريبا من شكوى الناس وبديلا عن الممارسات السلطوية. وإذا كان حزب بنكيران لم يفقد كل عذريته السياسية بحكم انتصاره، فإنه ينسى في قبوله لحرب المواقع والسمعة هاته إقراره بضعف مؤسسات الدولة، بل وضعف التزامها بالخيار الديمقراطي وتشبثها بأساليبها التاريخية.
ففي مقابل هذا الفوز، يسائلنا حصول “الأصالة والمعاصرة” على 102 مقعدا بقوة. وبالنظر إلى كل ما أثير حول تدخل رجال السلطة والاعتماد على الأعيان واكتساح القرى من جديد، ورغم كل ما عاينه الكثيرون من حياد سلبي لوزارة الداخلية إبان الحملة الانتخابية، جاء خطاب الملك الأخير في افتتاح الدورة البرلمانية حاسما في الإشادة بالتزام السلطات بمسؤوليتها وإنجاحها للعرس الديمقراطي، ووجه النقد للمنتخبين، فقط على انتهازيتهم وعدم مسؤوليتهم. وهذا يعني مما لا شك فيه نجاح حزب “الأصالة والمعاصرة” كتنظيم سياسي وإعادة الاعتبار له في مغرب الخيار الديمقراطي رغم خطيئة النشأة. ومن هنا، لا يمكن القول أن رهان الديمقراطية اليوم مربوح أو مقتصر على محاربة حزب لا يعدو أن يكون أداة من بين أدوات شتى لتدخل المخزن في رسم الخريطة الحزبية والسياسية، لاسيما وأن الحزب المنتصر لا ينتفض ضد بنية يعتبرها من ثوابت البلد ويلتزم بأخلاق السمع والطاعة تجاهها، وهي بنية لا توفر أي ضمانة على تعطيل باقي الأدوات في المستقبل أو عدم بروز أدوات أخرى. فمثلا، لا يقدم بنكيران أي تصور لحل مشكل الوحدة الترابية ولا عن قنوات خلق الثروة بالمغرب ومستقبل علاقاته الخارجية، مكتفيا بدعم المبادرات الملكية في هذا المجال، وشاءت الصدف ألا يحتوي الوفد الذي رافق العاهل المغربي إلى رواندا على أي وزير من حزب العدالة والتنمية، في مقابل مجموعة من المسؤولين والوزراء المقربين من دوائر القرار العليا، ساهم العديد منهم في التحامل على بنكيران لترويضه سياسيا.
وبالرجوع إلى حرب المواقع التي يبدو أنها أساس اللعبة السياسية في تعاملها مع هاجس التوازن الذي تسعى إليه سلطة المخزن، نجد أن بوادر التحالفات التي نشهدها اليوم تؤكد ما قلناه عن غياب الديمقراطية من طاولة الرهان، ولو مرحليا. فها حزب “الاستقلال” يعلن انقلابه على العماري ويصف لحظة 7 أكتوبر بالانتكاسة نظرا للاختلالات الكبيرة التي شهدتها لصالح القطبية الزائفة، وها شباط يدعو إلى تكتل القوى الوطنية الديمقراطية إلى جانب “العدالة والتنمية”، وهو شباط نفسه الذي خرج من التحالف الحكومي عام 2013 لغياب الديمقراطية التشاركية في التدبير الحكومي حسب ادعائه، كما أنه شباط نفسه الذي وقّع بمعيّة لشكر والباكوري مذكرة رفعتها المعارضة إلى الملك تشكو فيها عدم التزام بنكيران بمقتضيات الدستور الديمقراطي. ويبدو أن شباط استطاع أن يستدرج لشكر لنفس الموقف خصوصا بعد أن ذهبت كل حسابات حزب “الاتحاد الاشتراكي” هباء بشكل مهين للغاية. ولن يكون من المفاجأ بتاتا أن يتجه بنكيران إلى لمّ شمل الكتلة الديمقراطية حيث لا ينقصه إلا حزب عبد الرحمن اليوسفي. وقد قدم لشكر تمويهات إيجابية في هذا الصدد واعدا بتسهيل مهمة رئيس الحكومة، ومعتزما رفع مذكرة إلى الملك للتنديد بالأضرار التي ألحقتها القطبية المصطنعة بالحقل الحزبي، وهو لشكر نفسه الذي كان منذ أيام يحذر من المآل السوري في حالة استمرار حكم الإسلاميين. وإذا قضي الأمر فإنه سيكون انتصارا معنويا ورمزيا مهما لبنكيران، لأنه سيعني نجاحه في عزل الأحزاب الإدارية والإضعاف القبلي للمعارضة البرلمانية، مما سيكسبه قوة أكبر في تفاوضه مع المخزن تمكنه من تعزيز مكانته في الساحة، مدعوما بشرعيته الشعبية الكبيرة مقارنة بباقي الأحزاب، في أفق أن يصير وسيطا عضويا بين الشعب والمخزن لا يمكن الاستغناء عنه. ولعل إلياس العماري استشعر هذا الخطر وبادر بدعوته إلى المصالحة الوطنية. وهي دعوة سوريالية رغم قوتها التنظيرية ونفسها الماركسي الجميل لأنها في العمق تفترض مصالحة بين المخزن والمخزن لا بين المخزن والشعب.
مشكلة الأحزاب في المغرب هي “التسنطيح”، ويبدو أن هذه العناصر التي أوردناها تعدنا بمزيد من “التسنطيح” السياسي في الأيام القادمة. فكل هؤلاء القادة مستعدون للمتاجرة بالمبادئ والمواقف لأجل حسابات سياسوية ضيقة. فها هو بنكيران يموه بمدّه يد المصالحة للأحزاب الوطنية محرّرا إياها من شبح التحكم، رغم معرفته العميقة بأن هذه الأحزاب فقدت منذ زمان استقلاليتها السياسية. ويمكن أن نغفر لبنكيران وحلفائه تعلُّلَهم بتقارب البرامج والرؤى لأنهم مجبرون على إيجاد أرضية مشتركة، أما أن يدرَج الأمر ضمن الحرب على التحكم ففي ذلك تحميل التحالف ما لا يحتمل، بالنظر إلى مسار هاته الأحزاب في السنوات الأخيرة الذي ميزه عدم الاكتراث بالمسار الديمقراطي وتواطئها مع المخزن لتبخيس الاحتجاجات الشعبية. ولنا أن نتخيل ما كان سيؤول إليه موقف شباط ولشكر في حالة فوز “الأصالة والمعاصرة” في الانتخابات الأخيرة. فهذه التغيرات السريعة لمواقع المصلحة الوطنية وكذا هذه التحولات السحرية لمكامن الديمقراطية، تكشف مرة أخرى، أن الفاعل السياسي بالمغرب لا يتقن إلا ركوب الأمواج مستعملا “سنطيحته” وقليلا من قصر الذاكرة، سعيا إلى اقتسام كعكة الامتيازات والحقائب الوزارية. فأحزاب الكتلة الديمقراطية تعوّل على بنكيران لإحيائها في السنوات الخمس القادمة وإعادتها إلى الساحة، عوض أن تتجه إلى وقفة صريحة مع الذات لتسائل حقيقة هذا الانحطاط الذي دخل عقده الثاني، لأنها ببساطة تخرج نفسها من حسابات المستقبل وتدور في فلك القطبين اللذين تنتقدهما. وقد نتفهم إلى حد ما تحالف شباط وبنكيران باعتبار مرجعيتهما المحافظة المشتركة، لكن انضمام حزب علي يعتة وحزب بوعبيد لهذه الخلطة السحرية من أجل الديمقراطية يصعب تبريره بالمنطق السياسي السليم، فهما بذلك يبيعان بقايا اليسار التاريخي ويحنّطان أمل انبعاثه، في حين يقتضي المنطق السياسي الديمقراطي أن تراجع هذه الأحزاب حساباتها لصالح اليسار لا ضده، خصوصا في ظل انبثاق تجربة يسارية واعدة وطموحة تمثلها فيدرالية اليسار الديمقراطي. وهكذا، كان يفترض، حسب منطق المصلحة الوطنية، الاعتراف بأزمة اليسار في وقت يسيطر فيه حزبان يمينيان على المشهد، والتفكير في إمكانات تجاوزها بتشجيع طاقات جديدة بما يمكن أن يوفره الحزبان التاريخيان من دعم تنظيمي وامتداد مجتمعي مهما بلغ انحساره. وهو ما لم يحدث لأن “سنطيحة “لشكر وبنعبد الله قدّرَت غير ذلك لخدمة حزبيهما.
يتبين لنا إذن من خلال هذا العرض أن انتخابات 7 أكتوبر باعتبار سياقها وحيثياتها وبوادر التحالفات، أكدّت أن النخب السياسية الموجودة اليوم تبالغ في استسهال شعارات المرحلة من ديمقراطية وإصلاح وحداثة، كما أن انتهازيتها تدفعها إلى التنكر لمقررات انتماءاتها الحزبية وتغيير بوصلاتها الفكرية لخدمة أغراض سياسوية تندرج ضمن حرب المواقع التي ترعاها الدولة المخزنية للإبقاء على تفوقها وسيادتها. وقد يحسب لبنكيران عزل الأحزاب الإدارية بما فيها حزب إلياس العماري وإبطال شرعيتها إذا نجح في ذلك، لكن أغلبيته في هذه الحالة ستؤكد بدعمها له أنها لم تعد تملك من المصداقية والشرعية ما يكفي لتدفعه لمواجهة التحكم المخزني، فهذا الأخير مطمئن إلى حدّ ما بمجرد النظر إلى برامجها. أما عن مستقبل اليسار، فإن المغرب في أشد الحاجة إلى جبهة اشتراكية متينة لخلق قوة مضادة تمارس النقد البناء للتوجهات النيوليبرالية للدولة المغربية. وهي توجهات لا تتردد الأحزاب المهيمنة في تطبيقها انسجاما مع إيديولوجيتها حينا ومع ولائها للمخزن أحيانا أخرى. ويقتضي ذلك الإقرار بأن الأحزاب الكبرى تلعب لعبة خارج التاريخ لأنها تموّه بضرورة الاصطفاف اللاإيديولوجي لمواجهة الأزمة – لعل آخر تجلياتها دعوة العماري للمصالحة – لكنها في الحقيقة تتواطأ لتخفي عنفا إيديولوجيا لا زالت تمارسه الدولة بالمغرب يتعارض ومقومات الدولة الحديثة. وفي انتظار ألّا يبقى هذا الإقرار مقتصراً على أحزاب “الفيدرالية” و”النهج الديمقراطي”، وفي انتظار أن يتصالح اليساريّون وتلتف الأحزاب حول رؤية سياسية متكاملة تعيدنا إلى التاريخ، وفي انتظار أن يتعبّأ الشباب لرفض العنف الإيديولوجي للمخزن بغض النظر عن الاصطفاف السياسي، سيستمر التطاحن الحزبي والمناورات السياسوية وسنرى إبداعات جديدة كل يوم في فنون ركوب الأمواج وامتطاء “السنطيحة”.