يحتاج تحديد مفهوم الوطن إلى حروف أخرى بديلة، ولن تسعفنا في ذلك قواميس ومعاجم اللغة وبخاصة بعد طحن ما تبقى من حروفه الثلاثة على مرأى من الذين يرون ما لا تراه السماء، تحول الكائن الهش في وطن منفي إلى حبيبات من العظام المفتتة.. ماذا تبقى من هذه الحروف الثلاثة سوى فروة ذئاب الكراسي الناعمة بالسلطة الخرساء، وهي تتوحش أمام صمت العظام المفتتة بالبذلة الرسمية التي تخنق صوتها كلما لامست قلبها عصا الجنون.. أخاف عليك أيتها الحروف المنسية في كلمة تقسوا عليها ربطات العنق المزينة بدماء البسطاء، ويصير الاسم قاسيا أيها المغرب المنفي في جذع ثقب لا يراه إلا من يتلذذوا ببثر روحك كل يوم..

هل يسعفني الورق كي أحكي قصة الحروف الثلاثة التي لا ينطقها جيدا من يغتالون أصوتنا المنسية.. “الحكرة” تحولت إلى أنين من الصرخات التي تذبل معها كل ألوان الحياة في وطن ينفي حروفه.. ماذا تبقى بعد خريف اللون والصوت والأحلام الطرية المبتورة.. أمازال بالعمر ما يسعف الكرامة؟! من سيحمل عنا هذه الآنات المتقطعة بالعذابات؟

إن قضية الشهيد محسن فكري لا تمثل استثناء بقدر ما تمثل محوا لكل ما يربطنا بهذه الحروف الثلاثة التي تباع مع المتلاشيات غير القابلة للطحن، ولا التعليب..؛ قضية الدهس المتواصلة للكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية وإنسانية الإنسان، دهس عن سبق إصرار وترصد، وفي الأخير يحقق (البصاص) في كل مرة، ويعدنا بأن تنطق العدالة المطحونة في زيت سراق الزيت، والكامون، والكلامار البري والبحري، وتدبج الأمنيات بخاتم أحمر وأزرق سماوي وأرضي واسعة لمن يريد أن يشتري هذه الحروف الثلاثة التي لوثها لصوص أعالي البحار والمحيطات والجبال والتلال والأنهار بعطر رخيص من زمن رصاصي كما لو كان الزمن لولبيا مرة أخرى.

فرواية هذا البلد لا تنتهي مهما تعالت الحناجر سوى بكلمات التحقيق العاطفية التي تشرف عليها السلطة المتوحشة، ولا تترك أي فرصة لكي لا تفقد هذه الحروف الثلاثة عقلها كلما نظرت في أعداد التحقيقات غير المفتوحة سوى في قعر الخابية أو بئر سيدي والو الذي يحمل الماء القذر إلى هؤلاء المستضعفين المجني عليهم في صمت وظلام. لكن قصة محسن فكري بالذات ذكرتنا بتاريخنا السري، تاريخ الألم والدم، وما “طحن مو” سوى قاموس يختزل بصورة واضحة ما يعيشه المواطن البسيط من تهميش واستئصال لأبسط حقوق، وهو يعيش في وطن لا وطن له، لا يوفر له حتى الحروف الثلاثة بدون عمل، ولا صحة، ولا تعليم، ولا كرامة، ولا لا ولا… بل حتى الحق في الحياة على هذه الأرض صارت أمنية تطحن في حاويات القمامة كما لو أننا أكياس من الأشلاء القابلة للاستثمار في موتها..

وطن يستثمر الموت، أيهاالسمّاك الذي تحمل سماء هذا الوطن الذي لم يسميك بل جعل بساطتك تسمي ما تبقى من حروف الزيف في مقلاة من يجيدون حرق الحروف الثلاثة بأياد ناعمة تعودت أن تأمر عوض أن تفكر في من سيحمي هذا الجنون القاسي في وطن معلق في الهواء.. لا عزاء لنا، ولا لغيرنا من بسطاء سوى الاحتجاج والدفاع عن قوتنا بأضراسنا، وربما صار قوتنا اليومي في فك يفترس كل شيء.. مأساة محسن فكري وغيرها من التراجيديات اللامتناهية للصيادين البسطاء المفقودين في لجة البحر، والذين يغادرون فراش عائلاتهم في الصباحات المنسية، ولا يعودون بأي كيس، سوى بأمراض الربو القاتلة، يحنطونهم أصحاب المرافئ المجهزة بأحدث وسائل التبريد والتعليب ومنصات البيع بالعملات الصعبة.

إنه صيدنا البحري البري الفضائي العابر للقارات سوى لقارة الحروف الثلاثة غير النظيفة وسط سواد الميناء الملطخ بعرق البسطاء الذين لا صوت لهم أمام أصحاب البدلات المزركشة بنياشين السلطة الخرساء الذين يوزعون الأصناف على معاملهم المخملية بماركات عالمية يسافرون على إثرها  إلى جزر الوقواق، تلك الأصناف التي نسمع عنها في حكايات ألف ليلة وليلة لا نراها ولا نشم ملحها، تباع وسط أدغال البحر المحمية بأضواء كاشفة وعلنية ممنوع الصيد بها لأصحاب الأشرعة الخشبية المهترئة، ويراكمون ما لا يعد ولا يحصى ويموت محسن فكري بحسن نواياهم السيئة. أما أوروبا فهي تحرضنا على أن تصبح معدتنا الصدئة معشوشبة بما فيه الكفاية، كما لو أننا لا نملك 3500 كلم من البحر بمحيطين، وتحفر قاع البحر، وتسطو على كل شيء ممنوع بروح الدعابة التي ترمي بها إلى خزينة مثقوبة أصلا بثروات تخجل من عرينا أمامنا.

ويصبح السمك مجرد حكاية لا يتذوقها المغاربة البسطاء المقهورين المهمشين المنسيين، لأن ثمنها مسجل في لائحة غنيس لتحطيم العظام وتفتيت القلوب والجيوب المثقلة بذنب الانتماء إلى الحروف الثلاثة الممزقة بعناية لا تخطئها الأفواه ولا البطون المنتفخة السمينة التي تهدينا كل يوم أغنيات للقتل الرخيص على مرأى من الذين يكتوون بالحكرة،  ويتكرمون علينا بالفتات، حتى وإن احترقت أفئدتنا من حب هذا الوطن المنفي في حروف لا تقوى على أن ترد عرق من ناضلوا من أجل خدمته (لا خدمته وسرقته). أي دموع تغتالك اليوم يا حرفا يقشر محجر الرؤية رغم تعاقب المناهج السياسية المحنطة، أيها الغرباء في وطن النفي..

لا ترتكنوا إلى بواعث اليأس؛ فالدم الذي جرى من قبلنا ومن بعدنا سيفجر ملوحة البحر كي يهبنا زرقته التي وصلت إلى سماء تمطر الآن من أجل حبات العرق التي شحذت بها شاحنة السلطة الخرساء والعمياء من يبللون الحروف الثلاثة كي يظهروا سلطتهم وهم ينهبون الحياة والأمل أن الزمن لم يعد قابلا للنفي؛ لأننا شعب يموت من أجل كرامة العيش، ولا حياة لنا من دون أن نعرف ماذا تبقى من حروف وطن غرسناه بدم الشهداء. فما هذا إلا منفى من نوع آخر ..