منذ زمن غير قليل أدرك فلاسفة ومفكرون وسوسيولوجيون أمثال سارتر وفوكو وبورديو وهربرت ماركوز وهابرماس وآخرون …أهمية الشباب، والطلبة خاصة، في الحراك والتغير الاجتماعيين، وذلك لحيوية الفئة وزهدها من جهة، ولتحول المجتمعات نحو تجاوز الفئات الكلاسيكية مثل العمال والفلاحين، والدخول في مجتمع ما بعد الصناعة والتواصل من جهة ثانية.

على ضوء هذه الأولية نحاول قراءة خاطفة لدور الطلبة، وطلبة كليات الآداب واللغات والعلوم الإنسانية والاجتماعية خاصة، في تأطير المجتمع.  

كثيرا ما تلصق تهمة عدم الملائمة مع سوق الشغل بالنسبة لخريجي كليات الآداب والعلوم الإنسانية وكليات الحقوق والعلوم الاجتماعية. وهي تهمة وصمية مجانية ومهينة تبنتها حتى الجهات المسؤولة عن القطاع وبشكل فج ولامسؤول.

ولا يدخل الأمر كله في حقيقته  سوى من باب ” اللي بغا يطلق مرتو يتهمها بلهبال” … وذلك لضرب عصافير عديدة بحجر واحد:

 فتح الباب على مصراعيه للجامعات الأجنبية الخصوصية، والتي يعد لها كل شيء من الأرض المهيأة والأستاذ الكفء حتى التمويل! ويسمون الأمر استثمارا ومواكبة جودة المستوى الجامعي الدولي…

والقضاء على الفئة الحيوية والمفكرة والناقدة في المجتمع والمندمجة معه حسا وكفايات…

ثم تقوية دور التقنوقراط  كفئة طيعة ومنفذة …

هكذا يجب أن نفهم انزعاج “أصحاب القرار السياسي” من الآداب والحقوق والفنون والثقافة الاجتماعية عامة… كتعبير في العمق عن خواف من التفكير والنقد والمسائلة تجاه الفئات الريعية.

إن المتتبع لتاريخ الحراك الاجتماعي المثمر والذي أفاد المجتمع المغربي، وبعمق أحيانا، بإدخاله إلى نادي مجتمع الاحتجاج والحوار بين المجتمع المدني والدولة وبداية  الديمقراطية التشاورية بتعبير هابرماس، تجاوزا للصراع الفج والاقتتال حول القوةle qui vive  يدرك قوة وحيوية تواجد الشباب والطلبة خريجي المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح والآداب والحقوق خاصة كنخبة مؤطرة.

نحن أمام نخبة جديدة تقود نحو إسماع صوت من لا صوت له من فقراء ومهمشين وقرويين ونساء وشباب ومضطهدين

إن هذا الحوار رغم جنينيته وبساطته العفوية يشكل لحظة حاسمة ومفصلية في التاريخ الحديث للمغرب إذا أحسن استثماره والذهاب به إلى أقصى مدى.

المتتبع لذلك الحوار يدرك وبسرعة آثار ثقافة شعب وتخصصات الفلسفة والحقوق والاقتصاد والتاريخ واللغات في خلق عقلية جديدة تدافع عن حقوقها وحقوق المجتمع، بشكل وإن كانت تنقصه السطرجة والوضوح وبعد الرؤيا، فهو فعل اجتماعي لا يخلو من ذكاء عملي مستند إلى مفاهيم ونظريات عالمة حول الحق في تدبير أمور بعينها مثل بطاقة الحافلة، والتسجيل في الحي الجامعي، والحق في التسجيل في الشعب،  حتى الحق في  الشغل … وصولا إلى كل أشكال الشجب والاستنكار أو التضامن… وغير ذلك من أمور حياتية تجاوزت ما هو طلابي محض نحو أمور أكثر حيوية مثل الدفاع عن الحق في الكرامة والمدرسة والمستشفى والأرض والماء وتوزيع الثروة وتهيئة القرى والمدن، وكل القضايا الاجتماعية الحيوية وفق الأفعال الجماعية… التي أصبحت الخبز اليومي للإنسان المغربي بقيادة نخبة جديدة لم تعد نقابات العمال بعد تفكك المعامل الكبرى تحت ضغط المنافسة والعولمة ونظام المناولة، ولا الفلاحين لأنه ببساطة لم يعد هناك فلاحون. كما أن التنظيمات السياسية  المعبرة عن البورجاوزيات الوطنية والصغيرة، وبعد تفككها قيميا أصبحت غير قادرة على التعبئة والتأطير، خاصة عندما يحتاج الأمر إلى السرعة والفورية  … ولنا في احتجاجات الكرامة في قضية محسن فكري أحسن مثال.

نحن أمام نخبة جديدة تقود نحو إسماع صوت من لا صوت له من فقراء ومهمشين وقرويين ونساء وشباب ومضطهدين. فئة تدربت على الاحتجاج في الحرم الجامعي ونقلته إلى الفضاء العمومي عكس ما كان عليه الحال بالنسبة للجيل السبعيني الذي يجد نفسه ما أن يتخرج حتى ينخرط في نضالات مهنية ونقابية. ورغم كون هذه النضالات كانت رائدة وقوية آنذاك فقد بقيت محصورة الفعالية والجدوى. في حين أن الخريج الحالي لم يعد ينتقل من الحياة الطلابية إلى المهنة بل إلى الاصطفاف مع زملائه في جماعة المعطلين. الجماعة التي استطاعت أن تتكيف مع أشكال جديدة من الاحتجاج مثل الاعتصام وأخرى تنظيمية مثل التنسيقيات. وهي الفئة البؤرة التي تناسلت لتهب للفئات الشعبية لسانا فصيحا وأسلوبا متحضرا في الحوار والحجاج.   

هكذا ينتج الطلبة، لما يعودون إلى حيواتهم في القرى والأحياء، ثقافة احتجاجية حقوقية حلت محل الأحزاب والنقابات في التأطير والتربية السياسيتين، ثقافة وتربية عالية المرامي نحو الكرامة والحرية والمساواة والتسامح، بعيدا عن النزاع حول السلطة وعقلية التمرد والانقلاب أو المهادنة والرضوخ أو اقتسام الفوائد والمنافع . وذلك كله بنفس طويل يقتضيه روح التربية المدنية يعطي الدروس تلو الدروس للاحتراف السياسي والهرولة نحو المناصب والامتيازات بالنسبة للسياسيين ونقط الضوء وتلميع الصورة بالنسبة لأشباه المثقفين.

 وربما هي الثقافة والتربية التي يمكن اعتبارها الاستثناء المغربي الحق.  

أمام  الإفلاس السوسيولوجي للتنظيمات السياسية، وأمام انحسار رؤيا وإدراك النخب التقنوقراطية وتهافتها على فتات موائد كبار الملاكين العقاريين ومنتهزي الصفقات  …أمام هذا الإفلاس ظهرت “مهن” جديدة لم يخلقها السوق الاقتصادي ولكن الطلب الاجتماعي كان ملحا تجاهها. إنها مهن استوجبت كفايات وهندسات جديدة مثل استنفار واجتهاد ومعاناة وذكاء التعبئة، وتقنيات التحسيس الدينامية والعضوية، والتعبير والتواصل وفق مرافعات بلاغة الواقع ونقض لغة الخشب والاستغباء. ثم التأطير القانوني وفق ذكاء فوري تعلمه الحلقيات كمدرسة للحجاج وتوليد الأفكار  …

هي كفايات  تقدم المجتمع  نحو سيادة الحرية والمساواة والقانون والحق والثقة ….ليعود النفع على الجميع، الدولة والمستثمر ورجل الأعمال والمهندس والطبيب والحرفي وكل الفئات الاجتماعية…

غير أن عدم قدرة إدراك وتقديرالفئات الأخرى لهذا الدور الذي كان واضحا منذ نقابات المعلمين، والذي تحايلت عليه الفئات نفسها من أجل تحييده… غياب الإرادة هذه أعطى صورة مشوهة عن البليغ لعد كفايته ثرثرة، واعتبار عبرة المؤرخ حكايات وماضوية، والتحليل السوسيولوجي ترفا، والملائمة الحقوقية حذلقة.

والمتمعن في الأمر يدرك وبعمق غبن المجازف من أجل المجتمع برمته، ومن أجل حتى تلك الفئات التي تسرق منه اجتهاده بدعوى امتلاك الكفايات التقنية والتجارية والديماغوجية.

إن هذا الدور النبيل الذي يؤديه المؤطرون الجدد للمجتمع يجب وبإلحاح أن يجازى عليه أهله اليوم قبل الغد… ولعل إعادة فتح باب الشغل والتدريس خاصة أمامهم وفق الكرامة وليس وفق قانون المناولة والتعاقد هو الجزاء، وليس الجواب هنا مرة أخرى نظريا ولا هبة بل ممارسة قلنا أن كفايات الفئات المعنية كفيلة بإحقاقه.