تنيط المادة 532 من مدونة الشغل بجهاز تفتيش الشغل عدة مهام من بينها “السهر على تطبيق الاحكام التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالشغل”، وهي نفس المهمة التي كرسها المرسوم  المتعلق بالنظام الأساسي الخاص بهيئة تفتيش الشغل. وجدير بالذكر أن هذه المهمة  تعتبر أهم الوظائف المسندة لجهاز تفتيش الشغل بمقتضى اتفاقية العمل الدولية رقم 81 التي نصت في مادتها الثالثة على أن “وظائف تفتيش الشغل هي: تأمين إنفاذ الأحكام القانونية المتعلقة بظروف العمل وحماية العمال أثناء قيامهم بهذا العمل مثل الاحكام الخاصة بساعات العمل والأجور والسلامة والصحة والرعاية واستخدام الأطفال والأحداث وغير ذلك من أمور بقدر ما تكون هذه الاحكام منوطة بمفتشي العمل….”.

ومن أجل تفعيل هذه المهمة الأساسية، فقد أسندت المادة 539 من مدونة الشغل إلى مفتش الشغل صلاحية ضبط المخالفات عن طريق معاينتها وتثبيتها في محاضر يوثق بمضمونها إلى ان يثبت عكس ما فيها، حيث نصت الفقرة الأولى من هذه المادة على أنه “يقوم الاعوان المكلفون بتفتيش الشغل، بمعاينة المخالفات المتعلقة بأحكام هذا القانون، والمقتضيات التنظيمية الصادرة بتطبيقه، وتثبيتها في محاضر يوثق بمضمونها إلى أن يثبت عكس ما فيها”.

ومعلوم أن المادة 19 من قانون المسطرة الجنائية وفي سياق تحديدها لمكونات الشرطة القضائية قد أدرجت في بندها الرابع “الموظفون والأعوان الذين ينيط بهم القانون بعض مهام الشرطة القضائية”، والتي من بينها “التثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة بشأنها” وذلك وفق ما نصت عليه المادة 18 من قانون المسطرة الجنائية. 

فاعتبارا لما سبق، يشكل مفتش الشغل أحد مكونات جهاز الشرطة القضائية، طالما أنه يضطلع بممارسة بعض مهامها أو بالأحرى أحد أهم مهامها وهي تثبيت المخالفات المتعلقة بأحكام قانون الشغل ومقتضياته التنظيمية في محاضر يوثق بمضمونها، كما تطبق عليه (مفتش الشغل) نفس المقتضيات المتعلقة بمراقبة أعمال الشرطة القضائية من طرف الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف استنادا لما تنص عليه المادة 35 من قانون المسطرة الجنائية.

الغاية من هذا التذكير بالمقتضيات القانونية ليس الترف المعرفي، بقدر ما هي التأكيد على الدور الذي يضطلع به مفتش الشغل من خلال وظيفته الأساسية المتمثلة في مراقبة تطبيق وإنفاذ تشريع الشغل، شأنه في ذلك شأن باقي أجهزة الضبط والمراقبة الموكول إليها مراقبة تطبيق باقي القوانين بما فيها القانون الجنائي، مدونة السير، الظهير المتعلق بزجر الإدمان على المخدرات السامة ووقاية المدمنين على هذه المخدرات، الظهير المتعلق بحفظ الغابات واستغلالها.. حيث تضطلع أجهزة الأمن الوطني والدرك الملكي ومراقبي المياه والغابات وغيرهم بالحرص على مراقبة إنفاذ هذه القوانين، مما ينعكس على معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي من خلال ارتفاع مؤشر سيادة القوانين.

غير أن واقع الحال يبرز أن جهاز تفتيش الشغل وإن كان يعتبر أحد  أقدم أجهزة المراقبة بالمغرب، فإنه وعلى المستوى العملي يظهر بشكل جلي تراجع دوره في ممارسة هذا الاختصاص وذلك لحساب مهام أخرى مسندة إليه بمقتضى نصوص مدونة الشغل او بمقتضى نصوص تنظيمية من بينها المرسوم المتعلق بالنظام الأساسي الخاص بهيئة تفتيش الشغل، وهو ما دفع لجنة الخبراء التابعة لمكتب العمل الدولي إلى توجيه ملاحظة إلى الحكومة المغربية سنة 2015 بشأن وظائف جهاز تفتيش الشغل ومدى تخصيصه الوقت الكافي لمهام المراقبة.

ويظهر هذا التراجع على الخصوص من خلال الأرقام والمعطيات التي تقدمها وزارة التشغيل نفسها التي تعتبر سلطة مركزية تراقب هذا الجهاز وتشرف عليه بالمفهوم الذي نصت عليه المادة 4 من اتفاقية العمل الدولية رقم 81 بشأن تفتيش العمل في الصناعة والتجارة، حيث جاء في الحصيلة الاجتماعية لوزارة التشغيل والشؤون الاجتماعية برسم سنة 2014 أنه في الوقت الذي ارتفع عدد زيارات تفتيش الشغل بنسب مهمة،ما بين سنتي 2010 و 2014 فقد سجل عدد محاضر المخالفات والجنح المنجزة من طرف مفتشي الشغل منحى تنازلي حاد خلال نفس الفترة الزمنية حيث عرفت سنة 2010 تسجيل ما مجموعه 612 محضر  مخالفات وجنح، فيما سجلت سنة 2014 فقط 248 محضرا.

ومن أجل التوسع في هذه المعطيات، فقد تضمنت هذه الحصيلة أيضا رقما آخر بشأن الملاحظات التي وجهها مفتشو الشغل للمقاولات التي يقومون بزيارتها، من أجل المخالفات التي يعاينونها أثناء زياراتهم، حيث ارتفع عدد هذه الملاحظات بشكل ملحوظ ما بين سنة 2010 التي عرفت تسجيل 767151 ملاحظة، وسنة 2014 التي عرفت تسجيل ما مجموعه 877096 ملاحظة، وهو ما يعني ارتفاع عدد مخالفات التشريع الاجتماعي في مقابل انخفاض عدد المحاضر المثبتة لهذه المخالفات والتي يفترض توجيهها إلى النيابة العامة المختصة الموكول لها أمر تحريك المتابعات في حق المشغيلن المخالفين، في مقابل اكتفاء مفتشي الشغل بإعمال الصلاحية التي تمنحها لهم الفقرة الأخيرة من المادة 539 من مدونة الشغل، والفقرة الثانية من المادة 17 من اتفاقية العمل الدولية رقم 81 بشأن تفتيش العمل في الصناعة والتجارة، وتوجيه ملاحظات إلى المشغلين المخالفين لأحكام قانون الشغل بدل تحرير محاضر مخالفات لها حجيتها الاثباتية.

ومن أجل فهم أسباب هذا التراجع في إعمال مفتشي الشغل لصلاحيتهم الضبطية، فلا بد من الرجوع إلى السياق الزمني الذي شهد هذا التراجع، حيث سجلت سنوات 2011-2012-2013 ثم 2014 على التوالي، تحريك متابعات جنائية في حق بعض مفتشي الشغل بتهم تتعلق بالتزوير في محرر رسمي بعد أن تقدم مشغلون بطعون أمام القضاء تتعلق بحسب المصادر الإعلامية ب”تضمين محاضر مفتشي الشغل معطيات أو بيانات غير صحيحة”، وهو ما دفع مفتشي الشغل عبر إطارهم الجمعوي وإطاراتهم النقابية المختلفة إلى إصدار بيانات تنديدية تضمنت دعوات إلى التوقف عن تحرير محاضر المخالفات والجنح، والمطالبة بتوفير “الحماية القانونية لجهاز تفتيش الشغل”. بالإضافة إلى ذلك فقد عرفت هذه الفترة بداية وعي ونقاش قانوني حاد بين مفتشي الشغل حول مختلف المهام التي يضطلعون بها، وحول علاقتهم بالنيابة العامة من جهة، وبأجهزة الضابطة القضائية من جهة أخرى، بحيث برز توجه عام لدى اغلب مفتشي الشغل يتعلق برفض استدعائهم من طرف الضابطة القضائية قصد استفسارهم حول مضامين بعض محاضر المخالفات والجنح التي يحررونها خاصة تلك التي يتعذر عليهم فيها تحديد هوية الشخص الذاتي المخالف لتشريع الشغل والذي تم تحرير المحضر في حقه. وذلك ضمن مجموعة من حلقات النقاش والندوات والموائد المستديرة التي نظمتها الحركة النقابية والجمعوية المهتمة.

وإذا كانت معظم الأسباب التي تمت الإشارة إليها في الفقرة أعلاه تعتبر في إجمالها وعموميتها منطقية، فإنها تبقى بحاجة اكثر للتفصيل والتدقيق بحيث أنه من غير المقبول أن يتم استدعاء مفتش الشغل قصد استفساره بشأن المحاضر التي حررها في سياق ممارسته لمهامه الرقابية، وذلك (الاستدعاء) من طرف الضابطة القضائية التي تعمل تحت إشراف النيابة العامة الموكول لها صلاحية تحريك المتابعة في حق المخالفين، باعتبار أن جهاز الضابطة القضائية يبقى ذا ولاية عامة للبحث والتحري بشأن مختلف الجرائم أيا كان نوعها سواء مخالفات أو جنح أو جنايات، بما فيها الجرائم المنصوص عليها في القوانين الخاصة، وبذلك فإنه يبقى من صلاحياتها تعميق البحث بشأن المخالفات والجنح التي ضمنها مفتش الشغل في محضره المحرر ضد المخالفين للتشريع الاجتماعي وذلك بناءا على طلب النيابة العامة في إطار السلطة المخولة لها. غير أن هذا البحث والتحري يفترض أن يتم بشكل يراعي اعتبار واستقلالية مفتش الشغل المكفولين بمقتضى الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، بحيث يمكن الاكتفاء بالمعلومات الواردة في المحضر الموجه إلى النيابة العامة، أو القيام بمهام البحث والتحري دون اقحام مفتش الشغل من جديد عبر استدعائه للاستماع إليه أو استفساره طالما أنه يضمن ما لديه من معلومات وملاحظات وما عاينه من مخالفات في المحضر.

أما ما يتعلق بمطلب الحماية القانونية فالواقع من الأمر أنه يبقى مطلبا فضفاضا باعتبار أن جهاز تفتيش الشغل وكغيره من أجهزة المراقبة والضبط يستفيد من الحماية المقررة له بنصوص القانون سواء فيما يتعلق بحمايته كموظف عمومي من كل أشكال الإهانة  والعنف الذي يمكن ان يتعرض له بمناسبة ممارسة مهامه خاصة ما تضمنته مقتضيات القانون الجنائي بهذا الخصوص، كما تتمتع المحاضر التي ينجزها في إطار ممارسة مهامه الرقابية بنفس القيمة الثبوتية التي تتمتع بها محاضر الضابطة القضائية في المخالفات والجنح وفق ما نصت عليه المادتين 289 و 290 من قانون المسطرة الجنائية من جهة والمادة 539 من مدونة الشغل من جهة أخرى.

بالإضافة إلى ذلك فإنه لا يمكن في إطار مفهوم دولة الحق والقانون تصور تحصين عمل أي جهاز من أجهزة المراقبة والضبط ضد الطعون، وبالتالي الحد من حق فئة من المواطنين في الولوج إلى القضاء، وبالتالي فتح باب التعسف على مصراعيه لفائدة هذا الجاهز أو ذاك، 

يبقى أن نشير في ختام هذا المقال أن أزمة جهاز تفتيش الشغل ليست أزمة قانون، ولا يستقيم ربطها في عمومها او اختصارها في تعديل نصوص مدونة الشغل، وإن كانت هذه الأخيرة تشكل في جزء منها سببا من أسباب هذه الأزمة، لكن حقيقة أزمة هذا الجهاز ترتبط أساسا بالإرادة السياسية للدولة وتوجهاتها، فكلما كانت الدولة تعتبر البعد الاجتماعي ضمن أولوياتها سيكون جهاز تفتيش الشغل بالضرورة أحد أهم الأجهزة التي تستثمر فيها وتقوي مكانتها وتعطي لعملها القيمة اللازمة لها، وكلما ارتفع مؤشر التوجه الليبرالي للدولة إلا وتم إضعاف هذا الجهاز والدفع إلى انقراضه بعدم الاستثمار فيه وعدم تقويته بالموارد البشرية والاعتمادات المالية اللازمة، أو بالتوجه نحو تبخيس عمله من خلال حفظ محاضره وعدم تحريك المتابعات بشأنها، أو من خلال التكتم على مآلات محاضره الزجرية وعدم الكشف على الحجم الحقيقي للمداخيل التي تجنيها خزينة الدولة نتيجة تدخلاته سواء بشكل مباشر او بشكل غير مباشر. ولا ادل على ذلك من كون سنة 2011 التي عرفت فيها شوارع المملكة حراكا اجتماعيا مهما، قد شهدت توظيف حوالي 50 مفتشا للشغل وهو رقم قياسي في تاريخ هذه الوزارة، فيما لم تتجاوز عدد المناصب المالية المخصصة لمفتشي الشغل خلال السنوات اللاحقة في احسن الحالات 5 مفتشين.

عضو المكتب المركزي للعصبة  المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان