عندنا من الأحزاب بكثرتها ما يغطي مساحة القارة الإفريقية وسكانها ، فها هي الولايات المتحدة الأمريكية بكثافتها السكانية التي تتعدي 320 مليون ومساحتها القارية لا تتوفر سوى على حزبين كبيرين ، غير أننا نحن في المغرب لنا من الأحزاب(62)حزبا، ما يفيد للوهلة الأولى أننا متفرقين ومتعددي المشارب الفكرية والسياسية مما جعل الأحزاب تتناسل بسرعة جنونية ، إلا أن هذا الأمر لا يعدو أن يكون من خبايا صناعة الأحزاب التي أتقنها النظام السياسي المغربي للتحكم في الخريطة الحزبية وجعلها سوقا يصعد وينزل فيها الحزب الذي يلامس مشاعر النظام أو العكس، الحزب الذي لا يسير مع دقات الطبل الممجد لنغمة الحال وأصحابه. 

فمن يتأمل في الخريطة الحزبية المغربية قد يصاب بالحول لأنها خريطة غير ثابتة المعالم ومتغيرة بصفة مستدامة بحثا عن مواقع غالبا ما تكون منحصرة في المناصب والكراسي الحكومية والبرلمانية ، وليست مواقع تتخندق وراءها للدفاع عن مصالح الشعب ، تلك المصالح التي هبت عليها رياح تحمل الجراد من أصناف بشرية تلج نوادي السياسة من أجل التلذذ بكؤوس من امتيازات وحظوة لقضاء المآرب لهم ولأقاربهم  ،فالأحزاب المغربية تناسلت بشكل سريع كما لو أننا ننهل فكريا واقتصاديا واجتماعيا من منابع وشلالات “انياكارا” ، والحال أن أغلبيتنا تعوم في برك من الجهل ماؤها آسن جراء سياسيات ثقافية وإعلامية تدفع الى معانقة أبو الجهل كما لو جاء من غيبة طويلة وهو الذي سكن عقولنا وعقول أجدادنا واستوطن فيها الى غير رجعة ، لأن البنية السياسية والفكرية التي تحتضنه عبارة عن قلعة حصينة لا تسمح لعقولنا الخروج عن نطاق ذلك الحصن الحصين ، وتنفس الحرية وآفاقها العريضة .

في هذا الإطار السياسي و الحزبي والفكري ترعرعت الأحزاب السياسية المغربية ، بل أنزلت للساحة فجأة دون إرهاصات ولا مقدمات ، كاملة المعالم ، بمؤتمرات وقيادات وقواعد حزبية كما لو كان لها تاريخ نضالي طويل ومنتمين شاخوا في الحياة الحزبية ، وراكموا من الممارسات ما يفيد العباد والبلاد، لكنها عبارة عن مصنوعات معلبة على عجل ومملوءة بكل أصناف المواقف التي تصب في قالب واحد بالرغم من الألوان و”المبادئ”التي تدعي الدفاع عنها .مواقف كلها تصب في مجموعة التأييد والمساندة وممارسة المعارضة من داخل هذه الخريطة التي تشابه فيها من يعارض ومن لا يعارض فأصبحنا نتحدث عن معارضة قديمة و جديدة والواقع أن لا معارضة على الإطلاق سوى بعض التيارات التي تخرج عن الصف لتعود كتكتيك لجلب من لم يتم استقطابه من الذين فروا من السياسة لأنها أصبحت فعلا لعبة تلعب بثقة الناس وتتلاعب بآمالهم وطموحاتهم.

فسلسلة الصناعة الحزبية لم تتوقف منذ فجر الاستقلال المغربي ، صناعة تحاول التجديد حتى لا تبور السلعة لكنها سقطت في تكرار النماذج الحزبية المفبركة وصار المواطن لا يولي قيمة لمثل هذ المنتوج السياسي الرديء والذي شمله البوار وساد حول الفراغ وهربت منه الجماهير وبقيت معزولة كما  تعزل الشاة الجرباء عن القطيع.

فتاريخ الصناعة الحزبية المغربية ، قديم ولقد تفنن النظام السياسي في وضع قوالب حزبية وفق ظرفية مختارة بدقة وسياق سياسي مدروس، لوضع المنتوج الحزبي في سوق السياسة وتسويقه لنيل مقاعد أمامية لفترة معينة ثم يتوارى عن الأنظار لما يستنفذ وظيفته ، وهكذا علمنا التاريخ السياسي الحزبي المغربي كيف خرجت جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية ، وكيف بدأ مسلسل الانقسامات الحزبية من حزب الاستقلال الى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من هذا الأخير الى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ومنه تناسلت عدة أحزاب كلها تحمل لافتة الاشتراكية حتى في زمن الكلاسنوسط” حيث سقط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي.  

ثم بدأت الصناعة الحزبية تزدهر بشكل سريع وتوالت الإنتاجات واحدة تلو الأخرى ، فمن المستقلين في انتخابات 1976 خرج حزب التجمع الوطني للأحرار برئاسة أحمد عصمان صهر المرحوم الحسن الثاني ، هذا الحزب سيجد نفسه منقسما الى حزبين حزب الأحرار والحزب الوطني الديموقراطي برئاسة ألمرحوم أرسلان الجديدي، والذي أطلق عليه حزب( لعروبية)، وبعده جاء حزب الاتحاد الدستوري برئاسة المرحوم المعطي بوعبيد الذي حصل على أغلبية برلمانية مريحة في برلمان 1983. 

 نعم يد السياسة و بمشاركة الإدارة كانت طويلة في كل تلك الخريطة الحزبية ولم تتوقف عند هذا الحد بل تكرر الأمر في عهد محمد السادس وخرج للضوء حزب الأصالة المعاصرة بلغة جديدة تجمع بين “العلمانية والحداثة” لمواجهة التقيدانية والمرجعية السياسية الإسلامية لحزب القنديل (العدالة والتنمية)  الذي هو بدوره خضع لعملية جراحية شارك فيها المرحوم الخطيب وتم لملمة الحزب بقطع من الجمعية الدعوية الإصلاح والتوحيد وحزب الحركة الشعبية الدستورية. هذا الحزب” الجرار” تزعمه في البدء صديق الملك ثم توارى عن الأنظار  لما صاحت الجموع “الفبرايرية” برحيله ليتركه للعماري حتى تنطلي الحبكة الحزبية على الكثير ويقال أنه جاء دور الريفيين ليحلوا محل الفاسيين ، تلك المعزوفة التي لا تصمد كثيرا مع واقع سياسي له حساباته التي لا تكشف إلا مع مرور الزمن من خلال تنفيذها كسياسة على أرض الواقع الذي نتجرع مرارته نحن غالبية الشعب في شكل قرارات تتجاوز طموحاتنا وتعلو عنها بل تضرب كل حاجاتنا عرض الحائط وتنفض يدها من مسؤولية ما يقع لنا في مجالات كثيرة .

إن الفعل الحزبي المغربي يتفاعل معنا وفق مصلحته الضيقة بوضع كل شخص منا كرقم في  صك النظام السياسي ليثبت به حصة الريع السياسي الذي له منه نصيب في كل ما يتم تحويله الى مزايا مادية ومعنوية تسجل في الملكية المصرفية والعقارية والفلاحية وتشكل مقابلا في حجوزات المقاعد البرلمانية والمناصب الوزارية والديبلوماسية وغيرها من المصالح التي قد لا تخطر على بال البعض. .     ونحن أين نحن من كل هذا؟ فالخريطة الحزبية المغربية لا وجود فيها لدليل عن منخرطين لهم وجود فعلي ونقاش سياسي يترجم في بيانات حزبية ما عدا عن بعض البلاغات التي تكتب في مكاتب مكيفة ومغلقة من قبل حرفيين في مثل هذه الأمور التي تعارفت عليها الأحزاب في جلها وطرق صياغتها وكتابتها بمصطلحات قد لا تفيد سوى ذر الرماد في العيون المتيقظة والتي غالبا ما يتم طردها من الحوب ونعتها بالمتمردين والمتنطعين على النظام الحزبي وقد تصعد التهم حسب الشخص والموقف .

إن الخريطة الحزبية المغربية تتشابك فيها المصالح الذاتية وتغلف الى مصالح عامة لتنطلي اللعبة على المتتبع العادي وينضوي في الهيئة الحزبية دون علم أنه في منظومة تأكل منه كيانه وتسلب منه فكره ووقته ليخدم مصالح ذاتية لمجموعة تستفيد منه إن كانت له كفاءة أو مكانة في المجتمع أو مال لتمويل صناديق لا يعرف أين ومن يملك أقفاله .فتتخذ قرارات وتصاغ بيانات حزبية دون علمه أو مشاركته ، كانه غير موجود إلا في دهن الذي يريدون حشد أقرانه في تظاهرة مفبركة أو تجمع حزبي لجمع الأصوات والمساندة و”تعمارالشواري”فوق ظهر العديد ممن لا يدرون ما تفعل تلك الأحزاب بهم. . .

كل هذا السواد الذي رسمت به الخريطة الحزبية المغربية انعكس في عمل الحكومات التي تتكون من أحزاب لا تجمعها مبادئ ولا أدنى أفكار متناسقة يمكن على أساسها بناء مشروع مجتمعي أو محاولة لتسيير مقاولة صغيرة ،لأنها أحزاب تتجمع حول الحقائب الوزارية وتقاسم المناصب الإدارية والمسؤوليات لما لذلك من مصالح تعود على صاحبه وذويه دون وجود أي مؤشر يدل على أنها أحزاب تعمل لبناء الوطن ومواطنيه، فتشكيل الحكومات المغربية كان دوما يخضع لهذه الحسابات الضيقة التي تسير بالبلاد الى ما هي عليه ضعف في البنيات وتراجع في كل القطاعات خاصة القطاعاتالاجتماعية كالتعليم والصحة ،لأن العقلية السائدة لدى النخب الحاكمة لا تهتم بهما لأنها تعالج في الخارج وتعلم أبناءها في الجامعات الأجنبية ومعاهدها إذن لم العناء بضخ ميزانيات ضخمة في قطاعات لن يستفيدوا منها؟؟ إن الحسابات التي تطرحها الأحزاب المغربية في غالبيتها هي حسابات واهية، لأنها ليست لها بعد النظر لتطوير قدرات البلاد البشرية والمادية للمرور الى الضفة الأخرى والرفع من مستوى المواطنين وضمان كرامتهم .  تلك بعض الآراء حول البنية الحزبية المغربية في انتظار حدوث تغيير في الفكر السياسي المغربي. وهل لنا أن ننظر مزيدا من الوقت لرسم خريطة حزبية تعكس توجهاتنا ؟ أم أن ذلك مرتبط بسرعة تحركنا وسعينا للتغيير بأعمالنا وليس بالكلام وراء الحجاب؟..

فتلك الخريطة الحزبية بكل سلبياتها تجثم بكلكلها على الجسد السياسي المغربي وتضغط على ذكائه ليفرز فقاعات من مشاريع مجتمعية لا تلبث أن تثيرها الرياح فلاهي مكثت في الأرض ولا استقرت في الأذهان ، أحزاب تأتي وتحصل على المال والعتاد لتملأ الكرسي والفراغ وتصفق بحرارة على من لا حرارة فيه وتمضي مع المجاري وهكذا ، وبيتنا فارغ ينتظر من لا يأتي للخلاص من وضع يزداد تأزما مع مرور الوقت ، فها هو العربون في حكومة مازالت لم تتشكل لأن السياسة التي توصف تارة بالدولة العميقة وتارة بالتحكم وما هي في الحقيقة سوى لعبة سياسية لم تتضح بعد معالمها لأنها بكل بساطة لم تدخل بعد نادي الديموقراطية الذي يؤشر على الفعل السياسي ويجعله واضحا وصافيا كالماء الزلال .

فهل بمثل هذه الخريطة – المتاهة  يمكن أن نؤسس الفعل السياسي الذي له القوة والقدرة على بناء الصرح الديموقراطي؟ أم أن تلك الخريطة سوف تزيد في ممارسة “التضليل السياسي “وتعمق الهوة بين السياسة ومشاركة المواطنين فيها ؟