1ـ يفوز حزب سياسي في الانتخابات بالرتبة الأولى، ليجد نفسه رهينة لمطالب أحزاب الأقلية.

تبين هذه الواقعة أن السلطة لا تقاس بالأكثرية، وإنما بالقدرة على المناورة، من جهة، و تنشيط الموارد السياسية، من جهة أخرى. فبهذا العدد القليل من المقاعد استطاع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن يضمن لأحد مناضليه الاصطفاف إلى جانب رئيس الحكومة في البروتوكول؛ و ما لهذه المكانة من دلالات رمزية في نسق سياسي يعتد بالرموز وبالقرب من الملك.

2ـ لم تمض سوى أيام على حرب كلامية بين حزبين محافظين ـ إن صح الحديث عن تصنيف إيديولوجي للأحزاب السياسية المغربية ـ استعملت فيها جميع أنواع التضليل الإعلامي و التسميم السياسي ، لتتحول الحرب إلى سلم، و القذف و السب إلى مدح، و الافتراق إلى زواج كاتوليكي ، لا يمكن للحكومة أن تتشكل بحل هذا الميثاق.

تبين هذه الواقعة أن “حروب” الأحزاب المغربية ليست إلا مدخلا للسلم، وأن السلم مقدمة للحرب الكلامية؛ لأن المحدد ليس القيم، و إنما المصالح. وإذا كانت الأولى ثابتة فإن الثانية متغيرة وظرفية، وتتحكم فيها “النوازع” ، على حد تعبير عبد الله العروي.

3ـ يشتكي حزب سياسي من “التحكم” ، كتعبير عن الدولة العميقة كما يجسدها المخزن في المغرب، في وقت عمل ، بكل قوته ، على استمراره بدعوى “الإصلاح في ظل الاستقرار”. ألم يقف بعض رموز الحزب ضد مطالب حركة 20 فبراير للحرية والكرامة بحجة احتمال  زعزعتها لاستقرار المملكة الشريفة؛ في وقت لم يطالب شباب هذه الحركة إلا بالإصلاح( ملكية برلمانية) في ظل الاستقرار( احترام الملك كرمز تاريخي)؟

نستخلص من هذه الواقعة أن الحزب دخل اللعبة وهو يعرف مسبقا الفاعلين فيها ومحركيها. فعليه، إذن، أن يتحمل عواقب اختياراته ، أو يعتبرها من” الأخطاء القاتلة “، على حد تعبير الشهيد المهدي بن بركة في الاختيار الثوري.

4ـ يتحول رجل أعمال ـ ساهم بنكيران في تحويله إلى رجل سياسةـ خبيرـ نزيه ـ في زمن سياسي قصير إلى قائد سياسي، يرجى منه إحياء حزب، وتكوين قطب، ووقف زحف، وخلق تحالف، وتقويض سلطة ـ كاريزما بنكيران ـ 

واستطاع ، و هو المرتبط بالفلاحة، أن يجمع بين الحمامة و الحصان و السنبلة والوردة ، و في علاقة وثيقة  مع التراكتور، في انتظار جني ثمار هذه العلاقة.

تبين هذه الواقعة ، أولا: كيف تصبح زعيما في مغرب اليوم . وثانيا: كيف تبني اصطفافا سياسيا على أساس مصلحي تكتيكي. وثالثا: كيف يصبح الصديق عدوا و العدو صديقا ( إن صح استعمال عبارات كارل شميت) في خمسة أيام؟

5ـ يصرح زعيم سياسي بأن جزءا من غرب الجزائر أراضي مغربية محتلة من قبل الجزائر، و لا أحد يحتج ضده، و يعلن بأن موريتانيا تاريخيا مغربية ، لتقوم القيامة في المغرب قبل موريتانيا.

تستغل هذه الواقعة ضد الزعيم ، بحجة الطعن في دولة ذات سيادة، للحجر عليه من قبل حزبه بدعوى عدم قدرته على قيادة مشاورات الحزب للوصول إلى الحكومة. 

تقدم هذه الواقعة درسا سياسيا مغربيا عميقا: كيف نضحي بالزعيم السياسي، و القائد الهمام، من أجل مكاسب سياسية؟ علما أن السياسي هو “ناطق بلسان من فوض له الكلام”، على حد تعبير بيير بورديو. 

6ـ يدافع حزب سياسي عن ” اليسار” ، و “الاشتراكية” ، و”التقدمية” و ” الحداثة”، و يتحالف مع الإسلاميين ، المناهضين لهذه الأفكار ، سرا وعلانية. و يدعو إلى النفعية في الممارسة..

تثير هذه الواقعة  الملاحظات الآتية:

أولا: حزب سياسي بدون سند انتخابي قوي، لكنه يتمتع بقدرة على قراءة صفحات كتاب السياسة المغربية الملونة بالمناصب والمكاسب.

ثانيا: تقدم جوابا براغماتيا لأزمة اليسار: فالحل يكمن في الاصطفاف في الحكومة وليس المعارضة، فوزير في الحكومة يستطيع أن يضمن استقطاب وولاء بعض الزبناء الجدد و يحافظ على القدماء، وكلما ازداد عدد الوزراء اتسعت لائحة المستفيدين ، ومعها تقوت جماهيرية الحزب.

ثالثا: حزب مغرب ما بعد دستور 2011 يتميز بقدرته على توزيع الخيرات وليس إنتاج الأفكار. رحم الله علال الفاسي، الحسن الوزاني، المهدي بن بركة ، عزيز بلال و الجابري (…).

7ـ يتحول، في ظرف زمني قصير، رفض المشاركة في الحكومة، إلى جانب العدالة والتنمية ل”تسخين أكتاف بنكيران” ، إلى رغبة ملحة في المشاركة. 

في الرفض كانت الحجة هي: ” عدم الخلط بين المرجعيات المحافظة التي تحكم والاشتراكية التقدمية”.

فهل غير أحد الحزبين مرجعيته في هذا الزمن القصير؟ أم أن القراءة السياسية لنتائج الانتخابات فرضت التضحية بالمرجعية من أجل الحكومة، وتوزيع خيراتها؟ أليس من مصلحة الحزب الدعوة إلى كتلة تاريخية إلى جانب الإسلاميين، و الانفصال عن أحزاب الإدارة كما كان يصفها في زمن غير بعيد؟ أم أن السياسة في المغرب انفصلت عن النظرية؟ 

8ـ يوظف السياسي المغربي الأرقام لخدمة أجندته السياسية. فحزب يدعي بأن الشعب المغربي بوأه الرتبة الأولى، بما يفوق المليون صوت ـ علما أن مناضليه يصلون إلى هذه العدد حسب تصريح بعض زعمائه مما يعني أن الحزب انتخب نفسه بنفسه ـ ويرد عليه معارضوه بحجة أن أزيد من  خمسة ملايين صوت كانت في صالح التحالف الذي انتخب رئيس مجلس النواب.

منظقيا لا يصح أن نستعمل “كل” في موضع يفترض فيه استعمال “بعض”(أحيل إلى كتاب التفكير المستقيم و التفكير الأعوج). والصحيح هو أن الانتخابات لا يشارك فيها الشعب المغربي وإنما جزء منه.

9ـ سينتهي “البلوكاج” ، وسيخفف “التحكم” من ألاعيبه، وستتحول العداوة إلى صداقة، و التراشق بالكلام إلى تواصل و تسويق سياسي، وستلتقي الكتلة في عيد ميلادها، وسيصطف المحافظون، جنبا إلى جنب، ضد الحداثة،وسيلتقي اليساريون، في ندوات خمسة نجوم، لمناقشة مآل اليسار ، بعيدا عن الطبقة العاملة طليعة اليسار و بحضور نخبة من البرجوازية الصغيرة، عفوا الطبقة الوسطى بمفهوم أرسطو، هاجسها الاستقرار،  وسيعوض البرلمانيون عن عدم عملهم ـ ضدا على قانون المحاسبة العمومية وقاعدة الأداء بعد الإنجازـ وسيفوز بعض الوجهاء و المرضيين بحقائب وزارية أو مناصب إدارية سامية أو سفراء ، وبعضهم ممن يعيش من السياسة على حد تعبير ماكس فيبر، ولكن من سيعوض الزمن السياسي الضائع؟ 

10ـ استطاعت الأغلبية الحكومية السابقة المحافظة على سبقها الانتخابي، مما يخولها القدرة على تشكيل الحكومة الجديدة. لكن تبخرت هذه الأغلبية في صراع حول القبول بلاعبين جدد من المعارضة السابقة.

وفي خضم هذا الجدل لم تستطع سبعة أحزب التوافق على حد أدنى فيما بينها، علما أنها تلتقي جميعها حول خطاب التوافق، والإصلاح، و الاستقرار و المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار.

فكيف يستطيع أزيد من ثلاثين حزبا التوافق فيما بينهم ؟ أم أن النخب الحزبية تحتاج دائما إلى “يد خفية” تدفعهم إلى التوافق؟

11ـ يرسخ الراهن السياسي المغربي أطروحة أن السياسة لعبة تدار في الخفاء/ الكواليس، بعيدا عن الشعب، الذي ينحصر دوره في اصطفاء النخبة الحزبية كل خمس سنوات، و عندما يفهم الشعب السياسة فإنها لن تصبح سياسة.

أو كما قال أحد السفسطائيين ، في العصر اليوناني:

ـ لا شئ موجود؛ 

ـ إذا وجد لن تستطيع فهمه؛

ـ وإذا استطعت فهمه لن تقدر على التعبير عنه.

ألا ينطبق هذا القول على الممارسة السياسية في المغرب؟

12ـ ظهرت آراء، تحث يافطة الخبرة و التحليل، تدعو إلى تدخل ملكي، كرئيس للدولة ،على أساس الفصل 42 من الدستور، في تأويلها للدستور المغربي، لتجاوز حالة الفراغ التي يتضمنها الفصل 47 في حالة فشل رئيس الحكومة المعين من قبل الملك في الحصول على أغلبية تضمن له التنصيب البرلماني.

في نظرنا فإن المرحلة تفترض الدفاع عن تأويل ديمقراطي للدستور ، ومن تجلياته:

ـ سياسيا: لم نصل بعد إلى فشل رئيس الحكومة،  ويمكن أن نصف الوضعية الحالية بالأزمة ، بمعناها الإيجابي عند اليونان، أي “القرار الحاسم”؛ و الذي يفرض على الفاعلين السياسيين التعاون على حد أدنى ، مع الحفاظ على هامش الحرية لكل فاعل من أجل إنجاح الفعل الجماعي ، على حد تعبير كروزيه في الفاعل و النظام.

ـ إذا كان الفصل 47 لا ينص صراحة على إمكانية اللجوء إلى الانتخابات، فإن التأويل الديمقراطي، و بغض النظر عن النتائج التي يمكن أن تترتب عن الانتخابات من حفاظ على الوضع القائم، يفرض التمسك بهذا الحل الديمقراطي، أي الرجوع إلى الشعب من جديد باعتباره مالك السيادة الأصلي.

ـ قانونيا ، يمكن للملك اللجوء إلى الفصل 174 من الدستورـ الذي ينص في فقرته الثالثة على أن “للملك، بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية، أن يعرض بظهير، على البرلمان، مشروع مراجعة بعض مقتضيات الدستور”ـ  بالدعوة إلى تعديل دستوري يغير مضمون الفصل 47 وإعطاء الملك صلاحية التعيين من الحزب الذي يستطيع تشكيل أغلبية حزبية تخوله التنصيب البرلماني.

ختاما ، نخلص إلى طرح الأسئلة الآتية:

ـ ما معنى مصلحة الوطن فوق كل اعتبار في تصور الأحزاب السياسية المغربية؟

ـ ما معنى التوافق على حد أدنى في تصورها؟