
غاستون باشلار وصور الخيال الهوائي :''من لايصعد يسقط !''
بعد مقاربات غاستون باشلار العلمية للنار(1938)،في إطار بدايات مخاض سياق تحوُّل نوعي من الرَّافد العلمي صوب الشعري،الذي دشَّنه عمليا كتابه حول الماء والأحلام(1941)،ثم انساب خيط الحلقات مع جزأين قاربا أشكال أحلام الأرض(1948)، سواء جاءت شرارتها موصولة باستكانة الذات الإنسانية أو اندفاعها،بدا ضروريا إكمال مشهد الصورة بحديث مطوَّل عن شعرية الهواء(1943)،ومحاولة فهم حقيقة نزوع الإنسان نحو السمو والارتقاء والعيش عموديا،ضدّا على مختلف أشكال الارتداد والبقاء بين أعماق الحفر والهاويات.
آراء أخرى
حقيقة،مثلما الشأن مع مختلف نصوص باشلار التي اطَّلعتُ عليها،شكَّلت دراسته لصور الهواء الحالمة بكيفية رؤيوية،مرجعية أخلاقية وإيتيقية تطرح أمام اختيارات الإنسان،نهجا شعريا حكيما،قوامه إحداثيات الارتفاع والارتقاء ضمن وجهة عمودية رشيقة متحرِّرة،باعثها التحليق نحو عالم الشفافية التي تعكسها قبة السماء.
يحظى الارتفاع المتخيَّل بشتى مجازات السمو الإنساني،وتحضر دروس عامة جدا في غاية الأهمية حول الصعود الارتقاء وكذا الارتفاع،وتنتصب فورا قامة الإنسان. الديناميكية الايجابية العمودية واضحة تماما،تفضي صوب الإقرار بالحكمة التالية :”من لايصعد يسقط”.جوهر الإنسان،أن يحيا عموديا وليس أفقيا،بحيث تمثِّل استراحته ونومه في أغلب الأحيان سقوطا.
لذلك،انكببتُ طيلة سنتين تقريبا،في خضم تطلُّعي صوب ترجمة هذه الكلاسيكيات الباشلارية إلى اللغة العربية(1)،كي أستشف المناحي الصميمة التي انطوت عليها مضامين خمسة عشر فصلا أرست هياكل دراسة باشلار لصور الهواء،جاءت عناوينها كالتالي :
الخيال والحركية،حلم التحليق،شعرية الأجنحة،السقوط المتخيَّل،أعمال روبير ديزويل،نيتشه ونفسية الارتقاء، السماء الزرقاء، كوكبة نجوم، السحب، السديم، الشجرة الهوائية، الريح، إنشاد صامت، الصورة الأدبية،الفلسفة السينماتيكية والديناميكية.ثم مقدمة أوضحت المرتكزات النظرية التي تستند عليها منهجية باشلار،والمتمثلة في :
*إعادة تحديد هوية الخيال،وطبيعة علاقته مع الإدراك :”مثل كثير من القضايا النفسية،اضطربت الأبحاث حول الخيال بالإضاءة الخاطئة لمبحث الاشتقاق.نريد دائما أن يكون الخيال بمثابة قوَّة لتشكيل الصور.غير أنه يمثِّل بالأحرى قوة لتغيير شكل الصور التي يقدمها الإدراك، بل خاصة تلك القدرة على تحريرنا من الصور الأولى،وكذا تحوُّلها. إذا لم تعرف الصور تغيُّرا،وتآلفا غير متوقع،فلا وجود للخيال،وليس هناك فعل متخيِّل.أيضا،لا يمكننا الحديث عن الخيال،إذا لم تحفزنا صورة حاضرة للتفكير في أخرى غائبة،ولم تحرض صورة عَرَضِيَّة على خصوبة صور أخرى ضالّة،وكذا انفجار للصور.يتعلق الأمر بإدراك حسي، ذكرى تصور،ذاكرة مألوفة،وعُرْف على مستوى الألوان والأشكال.لذلك، تعتبر تسمية وهمي وليس صورة،اللفظة الجوهرية المناسبة للخيال”(2).
يجسِّد الخيال تجربة الانفتاح،بل والحداثة نفسها.يقول ويليم بليك :”ليس الخيال مجرَّد حالة،بل يمثِّل الوجود الإنساني ذاته”.عندما تتخلَّى صورة عن مبدئها المتخيِّل ثم تتوطَّد في إطار صيغة مطلقة،ستأخذ شيئا فشيئا سمات إدراك ماثل.ينطوي المتخيِّل على صور،لكنه يطرح نفسه دائما أبعد من صوره تلك،ويتجاوزها باستمرار.يمثِّل الخيال،قبل كل شيء، بالنسبة لمقاربة نفسية متكاملة،نمط حركية روحية،الأكبر والأكثر حياة وبقاء،لذلك وجب إضافة منهجية أخرى تهتمُّ بدراسة حركة الصور ضمن أفق خصوبتها وحياتها.
تناقض العادة مبدئيا الخيال المبدع،فالصور المألوفة تكبح ضمنيا القوى المتخيِّلة،تلك الصور التي ندرسها بين طيِّات الكتب،ويرعاها الأساتذة،وينصب عليها اهتمامهم النقدي المدرسي.
رفض باشلار الصور الفاترة والتقليدية،لأنَّها خسرت سلطتها الخيالية.في المقابل،هناك صور أخرى جديدة تماما،تتمثل فعليا حياة اللغة الحية،تختبرها،في إطار غنائيتها الفعلية،وكذا إشارتها الحميمة التي تنعش الروح والقلب؛بحيث تمنح صاحبها طاقة فيزيائية متوثِّبة،مادامت القصيدة أساسا بمثابة طموح وجهة صور جديدة،وقد تطابقت مع الحاجة الجوهرية للحداثة التي تميِّز النفسية الإنسانية :”إنَّ قصيدة رائعة بمثابة أفيون أو نبيذ،وغذاء مهدِّئ للأعصاب،يلزمها أن تبعث فينا تحريضا ديناميكيا.يحضرني في هذا السياق،تصور بول فاليري العميق حين قوله:الشاعر الحقيقي يلهم”(3).شاعر،يحوِّل الخيال إلى سفر وقصيدته دعوة أسفار.يضيف ماريا ريلكه :”لكي تبدع مقطعا شعريا واحدا، تحتاج إلى زيارة مدن كثيرة،وتعاين العديد من البشر والأشياء،يلزمك أن تكتشف حيوانات،وتحسّ بكيفية تحليق الطيور ثم تتأمل حركة الأزهار الصغيرة لحظات تفتُّحها صباحا”(4).
يسافر القارئ من خلال دراسة النفسية الهوائية،صوب بلد اللانهائي وكذا أقصى مستويات الارتفاع،تجعله يختبر حالة خيال منفتح،أو الخيال باعتباره إحدى صيغ الشجاعة الإنسانية،ويلزمه مضاعفة انتباهه نحو حسِّ الحرية واستحضار دروس الهواء الحرِّ،عند توخيه تأويل نصوص نوفاليس،شيلي، إدغار بو، رامبو،بلزاك،ويليام بليك،ماريا ريلكه، نيتشه…، ويعمل على قياسها ثم تقييمها حسب صعودها ثم انقيادها للخيال الديناميكي.
مثلما فعل باشلار في كتابه عن النار مع الشاعر دانيال هوفمان،ثم إدغار بو وسوينبرن على مستوى شعرية صور الماء،فقد تناول نيتشه باعتباره نموذجا مثاليا لأحلام الهواء،أكبر شاعر ومفكِّر تبلور شذراته معاني المنحى العمودي والقمم والارتفاع والصعود،نتيجة وفائه المطلق للديناميكية الهوائية. إنَّه المعلم الأول والمطلق،ولايتعلَّم شيئا من شخص آخر:”هواء نيتشه،ماهية حريتنا،جوهر سعادة فوق بشرية.مادة تعلو،مثلما السعادة النيتشوية،بمثابة سعادة بشرية تعلو.السعادة الأرضية،ثراء وجاذبية.السعادة المائية،رخاوة واستراحة.السعادة النارية،حبّ ورغبة.السعادة الهوائية،حرية.إذن،الهواء النيتشوي،عنصر غريب :مادة تفتقد لخاصيات أساسية.بالتالي،يمكنه تمييز الكائن باعتباره ملائما لفلسفة صيرورة شاملة. يحرِّرنا الهواء،في إطار سيادة الخيال،من تأملات شاردة ملموسة،حميمة، وهَضْمِيَّة،وكذا ارتباطنا بالعناصر: إنَّه مادة حريتنا”(5).
هواء نيتشه ماهية حريتنا لايوفِّر ولايمنح شيئا معينا،لذلك يعكس مضمون مجد هائل بخصوص اللاشيء،يترك الخيال المادي مكانه،لخيال محض ديناميكي،تنمحي معه جلُّ الأبعاد.يتحسَّس فقط نيتشه قوة انقباض العضلات،الصقيع والخلاء،يهجر خياله الروائح أثناء وقت انفصاله عن الماضي.نصادف ثانية مع هذا الهواء البارد للمرتفعات،قيمة نيتشوية :الصمت.
كيف بوسعنا رفض التآلف الجوهري،بين الهواء والبرودة والصمت؟نستنشق بالهواء والبرد،الصمت،وقد اندمج في كينونتنا ذاتها.
تثبت هذه الصور النيتشوية،الالتحام المادي والدينامكي،الذي يبلور خيالا ماديا وديناميكيا.صور هويتها هوائية،تنبثق عموديا صوب السماء الحرة : أرتمي نحو الأعلى،حرَّا كالهواء،وأغدو مادة للحرية.
تمثُّل النيتشوية،يعني اختبار تجربة انعطافة على مستوى الطاقة الحيوية،وصيغة تحوُّل غذائي للبرودة والهواء،اللذين يلزمهما إنتاج المادة الهوائية لدى الكائن الإنساني النيتشوي،صاحب القدرة المطلقة في حُلُميته الساعية،وإرادته الحالمة،فيلزمه التعبير عن عالم أكثر واقعية، بقوله :”يحلم العالم فينا ديناميكيا”.
طبعا،تحوي الشعرية النيتشوية،أشكالا ديناميكية تفوق الصخرة في السماء الزرقاء،وكذا شجرة الصنوبر المنتصبة التي تحدث الصاعقة وتحتقر الهاوية،ثم صورة الطريق إلى القِمَمِ،والزورق المحلِّق.
يعيش الكون النيتشوي،وفق لحظات نعثر عليها ثانية جراء اندفاعات دائما فتيَّةَ.إنَّه كون تاريخ الشموس المستيقِظَة.
اعتُبر نيتشه،أحد أكبر فلاسفة سيكولوجية التعالي من خلال هذا البيت الشعري الوحيد : إنَّكَ عمق كل القمم.
العناصر الكونية الأربعة،هرمونات تضخِّمُنا نفسيا،تتيح أمامنا أسفارا نكتشف من خلالها جوهرنا،فالأفق الباشلاري يؤمن تماما بجدليتي الواقع واللاواقع :”يعتبر عُصَابيا الكائن المحروم من وظيفة اللا-واقع تماما مثل الكائن المفتَقِد لوظيفة الواقع.وبوسعنا القول، بأنَّ اضطرابا على مستوى وظيفة اللا-واقع يؤثِّر على وظيفة الواقع”(6).يستدعي هذا التوازن العلاجي، بناء للخيال وكذا تهذيبا دؤوبا لمنافذ الحلم اللَّيلي والحلم اليقظ.
في هذا الإطار،خَصَّص باشلار الفصل الرابع للحديث عن تقنية الطبيب النفساني روبير ديزويل،التي انصبَّت على التحليل النفسي للحلم اليقظ والتأمل الشارد الذي يوجِّه بشكل تعليمي وإعدادي بهدف العثور على منفذ نحو الصعود أمام نفسيات عالقة وترسيخ حلم الارتقاء لدى الذات الحالمة،لأنَّ من يسعى إلى مماثلة حياته بخياله،يشعر داخل ذاته سموّا :”بالنسبة للكائن المحتجَزِ داخل عقدة لاواعية،لاتنطوي فقط منهجية ديزويل على وسيلة قصد”تفكيك تلك العقدة”مثلما يفعل التحليل النفسي الكلاسيكي،بل يقدِّم تفعيلا.بينما ينحصر التحليل النفسي الكلاسيكي عند تفكيك العقد ب”تحيين إحساس قديم”دون أن يتيح قط مخطَّطا أمام المشاعر التي تجلت مع ذلك فظَّة وغير ملائمة،سيتحقَّق التسامي في أقصى حالاته ضمن منظور التحليل النفسي عند ديزويل،وقد أعدَّ لهذا التسامي دروبا للارتقاء تجعل الذات تحيا مشاعر جيدة،ونماذج عن تخليق التعبير العاطفي”(7).
قامت منهجية ديزويل على مبدأ الاسترخاء،عبر الخطوات التالية :
*تخلَّصوا من همومكم؛
*لاتمكثوا تحت هيمنة الكلمات؛
*فلتعيشوا الأفعال؛
*تأمَّلوا الصور؛
*اقتفوا حياة الصور.
يؤكد ديزويل على قوَّة ”المسالك التصويرية”،بفضل صور محرِّضة كما الشأن مع القمم، الأشجار،الطيور،تتيح للذات تساميا واعيا يشكِّل منفذا طبيعيا سعيدا ومرغوبا فيه وجهة حياة جديدة.
من جهة أخرى،وحدها فاعلية التأمل الشارد الهوائي،تزيل الطابع المادي عن السماء الزرقاء حيث تأويل زرقة السماء محض هوائية،الصورة من أجل الصورة،حينها تلامس النفسية الإنسانية سببا للمستقبل ضمن قصد مباشر.يؤكد باشلار مايلي :”إحدى المعطيات التي فاجأتني،خلال قراءتي لنصوص شعراء متنوعين جدا،تتمثل في ملاحظة مدى ندرة الصور حيث زُرقة السماء هوائية حقا.يعود ذلك،إلى ندرة الخيال الهوائي بحيث لم يرتق بعد نحو حضور خيالات النار،الأرض أو الماء.لكنه يتأتى أساسا من كون هذا الأزرق اللانهائي،البعيد،والهائل،وإن حظي بإحساس روح هوائية، يحتاج إلى أن يتجسَّد كي تتضمنه صورة أدبية…،لكن عندما نجوب سُلَّم إزالة الطابع المادي عن زرقة السماء،بوسعنا حينئذ تلمّس فاعلية التأمل الشارد الهوائي.هكذا،ندرك بأنَّ الأمر يتعلق بمماثلة الهوائي،انصهار الكائن الحالم بين طيات عالم مختلف قدر مايمكنه السعي،عالم أزرق وناعم،لانهائي وبدون شكل،قدر إمكان الجوهر”(8).
استحضر باشلار أربع مرجعيات للإحالة،قصد تصنيف وجهات نظر بخصوص كيفية تمثُّل المبدعين لزُرقة السماء :
*ستيفان مالارميه :”يعيش الشاعر نتيجة”سأم ثمين”وسط”مستنقعات أثيرية”، ويكابد ”سخرية”سماء زرقاء.لقد اكتشف لازورد مفرط العدوانية يسعى إلى :
”أن يسدَّ بيد لا تكلّ أبدا، تلك الحفر الزرقاء الكبيرة التي تصنعها وقاحة طيور”.
لكن لازورد أقوى، يجعل الأجراس تغني :
”وتكتسي روحي صوتا،
كي لايرعبني قط انتصاره الفظّ،
وينبعث المعدن الحي في أجراس إنجيلوس زرقاء”(9).
*إميل زولا:من خلال صفحة كتبها عن سيرج موري :”شخص غير آبه بماضيه، بل غير واعٍ بالمأساة الروحية التي يعيشها في مدينة بارادو،يراقب انطلاقا من فِراشه إبَّان نقاهته السماء الزرقاء،الباعث الوحيد لتأمل شارد ماثل:”كانت أمامه سماء شاسعة،لاشيء سوى الأزرق،أزرق بكيفية لانهائية؛يغتسل في خضم ذلك من وجعه،مستسلما لهذه الرغبة، المماثلة لتهدهد خفيف،حيث يرتشف العذوبة،الصفاء،ثم الفتوة. فقط، الغصن الذي رأى ظله يتجاوز النافذة،كي يصل البحر الأزرق باخضرار شديد؛سيتشكَّل معه تدفق قوي جدا، لحساسية مرضه الذي يتأذى من تلويث طيور السنونو المحلِّقة صوب الأفق”(إميل زولا، غلطة الكاهن موري،فاسكيل ص150)(10) .
*صامويل كولريدج :”تأخذ السماء،أمام العين- يقول صامويل كولريدج(ترجمه جون شاربونتي في دراسته المعنونة ب”كولريدج المُسرنِم العظيم”)،شكل قَدَح مقلوب،وسط حوض ياقوت أزرق،منتهى جمال الشكل واللون.أما بالنسبة للفكر،فالسماء تعكس الضخامة. لكن العين تشعر، تقريبا، بقدرتها على الرؤية من خلالها،وتحس في هذا الإطار على نحو مبهم بانعدام أيِّ مقاومة. لا تختبر العين تحديدا الحسّ الذي تبعثه الأشياء الصلبة والمتناهية: تشعر بأن الاحتواء يكمن في سلطتها أمام اللامتناهي كي تجعله يسمو بما تراه”(11).
*بول إيلوار :”وأنا صغير جدا،فتحت ذراعي للصفاء. بدا الأمر مجرد خفقان أجنحة وجهة سماء خلودي… لحظتها لم يعد بإمكاني السقوط ثانية”(12).
قُبَّة السماء لوحة ضخمة يكشف لونها اللازوردي عن صور شتى،يستشفها حالم يحدِّد قيمة الكائن من خلال أبعاده العمودية،ويؤمن بأولوية الخيال الدينامكي مقارنة مع خيال الأشكال،حينما يعيد إلى الصورة قوتها الحُلُمية.الخيال قوَّة أولى،ينبغي له التبلور في خضم عزلة الكائن المتخيِّل،من ذلك كوكبة النجوم :”صورة أدبية خالصة،لايمكنها أن تحظى بتثمين سوى في إطار الأدب”.(13)
التأمُّل الشارد أمام سماء تلمع بالنجوم:”هناك العديد من الأحلام في السماء،لم تهتم بتسميتها قصيدة تزعجها الكلمات القديمة! كم من كُتَّاب الليل،بوسعنا مخاطبتهم:”عودوا إلى مبدأ التأمل:حاضرة أمامنا تلك السماء المرصَّعة بالنجوم،كي نحلم بها وليس معرفتها. إنَّها تجسِّد دعوة إلى أحلام تؤثثها النجوم،وكذا بناء سهل وعابر لآلاف الأشكال المعبِّرة عن رغباتنا؛تكمن وظيفة النجوم ”الثابتة” في تحديد بعض الأحلام،وإفشاء بعضها،أو العثور ثانية على بعضها. هكذا،يستدل الحالم عن البعد الشمولي للحُلُمي”(14).حلم مرصَّع بالنجوم،خلال زمن الليل،عبر التعقُّب الديناميكي لخيالنا وتأويله :”حينما نُثَبِّتُ نجمة وسط سماء مجهولة، تغدو نجمة لنا، تلمع من أجلنا، تحيط بضوئها قليلا من الدمع، هكذا أمكن الحياة الهوائية أن تخفِّف عنا أحزان الأرض. يبدو،إذن بأنَّ نجمة قدِمت إلينا. يجترّ العقل تبريره دون طائل بأنَّها تاهت وسط الأرجاء: يجعلها حلم حميمي قريبا من فؤادنا. يبعدنا الليل عن الأرض، لكنه يعيد إلينا أحلام التضامن الهوائي”(15).
لكن خلال أوج النهار،تندرج الغيوم ضمن المعطيات الشعرية،الأكثر حُلُمية كي ترسم تأملات شاردة سهلة وعابرة :” يحظى التأمل الشارد للغيوم بميزة نفسية خاصة: تأمل شارد دون مسؤولية”(16).الغيمة لعبة سهلة الأشكال و :”مادة خيال بالنسبة لعاجِنٍ كسول”(17).جملة مخطَّطات،نفهم من خلالها عند إمعان النظر،طبيعة العلاقات بين الجمال و الإرادة،بحيث ينتظم الكون برمته وفق إرادة خيال الحالم :”شخصية متلهِّفة كي تتناول بين أياديها العالم اللامرئي،إنها قادرة على معانقة أكثر النَّزوات الهوائية خيالا وحِذقا،وكذا الحلم الأكثر تحرُّرا من إكراهات الأرض”(18). ينتظم الكون برمته،وفق إرادة خيال الحالم و نتذوَّق السِّحر الهوائي في خضم شرود يتأمل الأشكال التي تقدمها الغيوم،عبر الاستمرارية الكلِّية للتحول وفق مشاركة ديناميكية حقيقية،عندما ينجح الشاعر في إنجاز وظيفته الأولى، بأن يحرِّر انطلاقا من دواخلنا مادة تشرئِب صوب الحلم.
ينبغي فهم الغيوم،في إطار عالم الحركة والصيرورة الشعرية،ضمن محددات درس نوفاليس الذي تصوَّر القصيدة كفنٍّ للديناميكية النفسية :”الغيمة،حركة بطيئة ودائرية، بيضاء،تهوي دون ضجيج،تبعث فينا حياة خيال ناعمة،مستديرة،ذات بياض خافت، صامتة،مفعمة بالندف… يستهلك الخيال جراء انتشائه الديناميكي،غيوما مثل انبثاق يحرِّض حركتنا.لايمكن لأيِّ شيء الصمود طويلا،أمام دعوة السفر الصادرة عن الغيوم،وهي تعبر ثم تكرِّر بأناة عبور أعالي السماء الزرقاء. يبدو بالنسبة للحالم،انطواء الغيمة على إمكانية حملها كل شيء:الحزن، المعدن،والصرخة”(19).يقتفي التأمل الشارد،آثار الغيمات حسب ارتقاء جوهري ينتهي غاية أعلى مستويات التسامي،عبر ذوبان عند أعلى نقطة تكمن في السماء الزرقاء.
أيضا،مثلما يخلق حالم الكون أشكالا لانهائية،فيحقِّق تساميا مطلقا عبر أقصى تجلِّيات السفر،سيبلور مع السَّديم أشكالا أخرى بلا عدد و تيمة تحولات لانهائية :”بالنسبة لسَديم في طور التشكُّل،يتأمل الليل بصمت،تلتئم رويدا رويدا الغيمات الأصلية.ينبغي لشاعر كبير الاحتفاظ بهذا البطء وكذا الصمت.تتمكن قوة متخَيِّلة وكذا هيولى الصور،في خضم تأمل مشهد من هذا النوع،كي تتبادل قيمها…تجسِّد القوة المتخيِّلة وحدة مع هذه الصور، حينما يشتغل الحالم على العجين السماوي. يفسح سحر اعتاد التأثير على الكون،المجال أمام سحر ثان يشتغل على فؤاد الحالم نفسه.يتضافر سحر منفتح وآخر انطوائي،وفق تبادل دقيق”.(20)
من جهة أخرى،أوضح باشلار عبر فقرات الفصل السابق الذي تحدثت فقراته عن الطاقة النيتشوية،بأنَّ شجرة الصنوبر تجَسِّد للخيال محورا حقيقي للتأمل الشارد الديناميكي،بحيث يدرك كل حالم كبير عمق هذه الصورة العمودية،وكذا الصورة ذات المنحى العمودي.الشجرة المستقيمة قوة بديهية تحمل حياة أرضية صوب السماء الزرقاء.لذلك،جاء الفصل العاشر كي يجعلنا نعيش مع الشجرة حميمة الاندفاع النباتي. وحده الخيال الديناميكي،يمكنه تناول الشجرة كموضوعة للمبالغة.
ضمن شعريته المنصبَّة على صور الكون،في بعدها الجواني؛غير المادي،والحلم العميق،استعاد باشلار كينونة الشجرة.يتعلق الأمر بجوهر عنصر نباتي،احتشدت حول ألغازه وأسراره جملة أساطير ومجازات ونصوص تجاوزت كثيرا حدود معطيات النباتية و الأداتية والخشبية،إلخ،كي تلامس أبعادا لانهائية لشجرة أكثر عمقا وإيحاء،تضمر ثراء بلاغيا وفق منظور تحليل نفسي للحياة العمودية،لأنّ الشجرة بمثابة خطِّ تذكير يرشد ويوجِّه الحالم الهوائي.الشجرة،نموذج مستمر عن بطولة الاستقامة.
يتأتَّى أفق من هذا القبيل،لحظة السعي إلى دراسة منهجية تلك الصور الجوهرية، والقطع مع سيادة خيال الصور المرئية.بالتالي،تحقُّق استيعاب ارتباط عالم النبات بعالم تأملات شاردة مميَّزة تشكِّلُ محفِّزَات صوب تأمل شارد خاص،يعتبر نوعها النباتي الأكثر بطئا وهدوءا وباعثا على الاسترخاء.
نعيش صدقا،أفراحنا الأولى،حين استعادة صور الحديقة، والمرعى والغابة وضفاف الأنهار.
ترسم الشجرة،منظرا طبيعيا محوريا يمضي من خلاله الحالم وجهة الهوائي،وقد انتشل ذاته من ثِقل الأرضي.توقفت عن الاستسلام إلى سطوة النظرة الملوَّنة،كي تأخذ لدى شاعر كبير صورة مصير وجودي توحي بإغراءات متعدِّدة لتماثل هوائي.
تلهمنا الشجرة،الكائن الأكثر انعزالا،بمختلف دلالات وإيحاءات معاني الفعل العمودي.أنْ تعيش حميما اندفاعها النباتي،يعني إحساسكَ على امتداد العالم بنفس القوة الشعرية.
تأمَّل باشلار الشجرة،ضمن سياق حُلُمية هادئة،متجرِّدة عن كل سيادة للأشكال أو محدِّدات الخيال المادي،بل تستدعي فقط أبعاد خيال ديناميكي،ينتقل من الواقعي إلى المتخيَّل،يمكنه التحليق بالشجرة كموضوعة لبلاغة المبالغة،حينها تبعثنا الشجرة نحو جهة أخرى من العالم.تساعد الإنسان العمودي عامة والشاعر النوعي أساسا،الخلاّق غير النمطي،كي ينتقل صوب ذاك الأعلى،يتجاوز القمم،يحيا حياة منعشة مفعمة بحيوية وترياق الهواء النقيِّ.
الشجرة ملاذ حقيقي للحلم،يتيح أمام الإنسان المتأمِّل جملة وصايا ونصائح وجودية،مثل الاستقامة، الثبات، التماسك، الرحمة، الأمومة،العطاء، التطهير، والتطهُّر، الكبرياء،التسامي، المقاومة…
ينبغي فقط على شاعر أصيل، تبرَّأ تماما من يسر وطمأنينة قصيدة مكتظَّة بصور خاطئة، فاترة، استُنسخت ثم أعيد استنساخها ثانية، إدراك كيفية الوصول إلى منبع التأملات الشاردة الراهنة وكذا المبادئ الفتية للحياة المتخيَّلة،قصد تقويم الشجرة تبعا لمعانيها الشعرية الجديدة والمختلفة.حينها، نستدعي الشجرة باعتبارها كائن الإيقاع الكبير،الأكثر صفاء، دِقَّة، وثوقا، ثراء، ثم سخاء.
الشجرة المستقيمة قوة بديهية، ترتقي بالحياة الأرضية صوب السماء الزرقاء،ولعل أبرز مثال جليٍّ في هذا الإطار،مثال شجرة الصنوبر التي تشكِّل بالنسبة للخيال محورا حقيقيا للتأمل الشارد الديناميكي.كيف نتمثَّل بشكل أفضل الدرس الديناميكي لشجرة الصنوبر؟ :”هيَّا ! كنْ مستقيما على شاكلتي.قف منتصبا،تخاطب الشجرة الحالم المنبطِحِ”. إنَّها مستقيمة جدا، ترسِّخ الكون الهوائي.
الشجرة كائن ثابت بامتياز، قوية، متجلِّدة ، غير مكترثة، بطيئة، هادئة. لكنها تحظى من لدن خيالنا بحياة ديناميكية رائعة، فتغدو اندفاعا لامتناهيا يستحيل إيقافه.
نموذج مستمر عن بطولات الاستقامة. كائن يسلم من التشويه الوجودي،بفضل الحلم العميق،وتجليات رؤى حالمة، تقطع مع وضعية الشجرة المعتادة والمألوفة التي تبرز كائنا ضامرا بلا وجه أو ملامح مميَّزة.
الشجرة رمز للأمومة الكونية،أساسا جراء فعل الهَدْهَدة.وإن ظلَّ الأخير خطيرا في أعالي الأغصان،نتيجة كل سوء تقدير من طرف الكائن إلى رشاقته وخِفّته وكذا مهارة التمسُّكِ بالأغصان.هكذا،تبدو الحياة بين أحضان الشجرة ملجأ،نحلم بها دائما ثم معها بنفس الكيفية،تحت رحمة عزلة خاصة وامتثالا لحياة هوائية ديناميكية.
الشجرة عشٌّ ضخم يتأرجح مع هبوب الرياح.ننجذب إليه تطلعا وجهة حياة دافئة نلتمسها،لكن أكثر بسبب وازع ارتفاعه وعزلته.ذلك،أن عشّ القمم،حلم بالقوة يعيدنا إلى كبرياء فتوة العمر.سنكتشف فوق شجرة أكثر علوّا،من أعلى قمة،حياة هوائية حسب أقصى مستويات كمالها.
أيضا،جذع الشجرة على استعداد دائم،كي يضمُّنا ونستلقي بين أحضانه ثم الاستسلام إلى نوم عميق يسندنا ويدعمنا سلوى يقين استيقاظ مغاير تماما.
بوسع الشجرة المعذَّبة والمهتاجة والمتحمِّسة،تقديم صور مختلف العواطف الإنسانية،لذلك كمْ هي الأساطير التي أظهرت لنا الشجرة باكية و نازفة! بالتالي،رؤية شجرة في الجبل منهزمة أمام الرياح،تنتشل حضورنا من وضعية اللامبالاة حيال المشهد وتداعياته النفسية.مشهد يذكِّرنا بالإنسان وآلامه.تطرح الشجرة المتوجِّعة منتهى الفشل.
الشجرة ذخيرة للتحليق،فأن تعيش في الشجرة الكبيرة بين طيات الورق الضخم، يعني دائما بالنسبة للخيال،أنَّك طائر أيها الإنسان.
بعد ذلك،انتقل باشلار في الفصل الحادي عشر،نحو أقصى مستويات الصورة الديناميكية للرِّيح الهائجة التي تعكس رمز غضب محض،يفتقد موضوعا معينا،أو مبرِّرا :”بوسعنا،تناول الغضب الأولي،من خلال هواء عنيف،يجسِّد كلِّيا حركة ثم لاشيء سوى الحركة.نصادف جراء ذلك صورا مهمَّة جدا،تصل بين الإرادة والخيال.من جهة، إرادة قوية مرتبطة بلاشيء،ثم خيال دون رمز معين،يدعم أحدهما الثاني. حينما نعيش حميما صور الإعصار، ندرك ماهية الإرادة الحانقة و العقيمة”(21).
تأمُّل هواء عنيف ينسج أمام أعيننا صورا جوهرية،تصل بين الإرادة والخيال،ندرك ماهية الإرادة الحانقة والغاضبة،نعيش كل شيء جرَّاء الخيال الديناميكي،بتواتر موضوعات الإعصار والعاصفة الخلاَّقة ثم ريح الغضب بحيث تُتَناول جميعها كمصادر للطاقة :”تتكتَّل بين طيات زوبعة الإعصار،كائنات متوحِّشة ومتنافرة.لكن،حينما نريد حقا رصد إنتاج هذه الكائنات المتخيَّلة،نكتشف فورا بأنَّ القوة التي أفرزتها بمثابة صرخة غاضبة،وغير منبثقة من حنجرة حيوانية،فهي صرخة العاصفة.أورانوس(أسطورة إغريقية)،صراخ هائل للرياح الساخطة”(22).
يمثِّل إفراط الريح،غضبا خلاّقا يغمر كل أرجاء المكان ثم اللا-مكان،يولد ويولد ثانية من تلقاء ذاته،بحيث يدور وينقلب.تتكتَّل بين طيات زوبعة الإعصار المتخيَّل،كائنات متوحِّشة ومتنافرة.العاصفة شرسة وخالصة،تموت وتنبعث ثانية.يقتفي الشاعر حياة النَّفَس الكوني.
تمتلك مختلف مراحل الريح نفسيتها.تتحمَّس الريح كما تشعر بالإحباط.تصرخ مثلما تشتكي.تنتقل من العنف إلى المعاناة. بل يمكن لخاصية أنفاس غير متجانسة عديمة الجدوى، بلورة صورة سوداوية متوترة مختلفة جدا عن سوداوية متعبة.
يعيـش الكائـن الهـوائي حقـا،وسـط كـون عـلى مـا يرام.تكمـن صلـة بنيوية،بيـن صحة الذات والموضوع،مـن الكـون إلى كائـن يتنفَّـس. تنعشـنا الصـور الهوائيـة الجميلـة.
عندمـا يسـتيقظ الخيـال الهوائي،تنتهـي سـيادة الصمـت المنغلق.بالتالي،يبـدأ صمـت يتنفَّـس،ثـم تبـدأ سـطوة النهائيـة ل”الصمـت المنفتح”،حيث جاء أفق التأويل الشعري عند غاستون باشلار بخصوص مقاربته للقصيدة،ضمن سياق تصوُّر أولاني وأصيل أراده بهذا الخصوص،يستشرف معادلات من صنف الشذرات اللغوية التالية؛حتى لاأقول البيانات،لأنَّ باشلار رفض دائما استدعاء الإحالات البيروقراطية لهذه الكلمة:
لاتوجد قصيدة سابقة عن المفعول الخلاَّق للفعل الشعري،مثلما لاتكمن حقيقة قبلية عن الصورة الأدبية.يتكلَّم الخيال داخلنا، تتكلَّم أحلامنا وأفكارنا.يرغب كل نشاط إنساني،في التكلم.حينما يعي الكلام بذاته،يسعى النشاط الإنساني حينئذ إلى الكتابة،بمعنى تنظيم الأحلام والأفكار.
تمثِّل القصيدة ظاهرة أولى للصمت.تبقي الصمت المنتبِه،حيَّا، بين طيات الصور. تتأسس القصيدة ضمن سياق زمن صامت،لاشيء يثقل عليه، يخضعه أو يأمره؛ لأنه زمن حريتنا.تنمو جيولوجية الصمت،حين البحث عن فكر مختبئ تحت الترسبات التعبيرية.يجدر حين توخي دراسة اندماج الصمت في القصيدة،ضرورة استيعاب أن مبدأ الصمت في القصيدة،يجسِّد فكرا مضمرا ومتواريا.
يمثِّل النَّفَس الشعري قبل كونه مجازا،حقيقة بوسعنا العثور عليها في حياة القصيدة هكذا على الأقل،حال القصائد التي تتنفُّس جيدا،وتعكس خطاطات ديناميكية جميلة عن التنفُّسِ.
توقظ القصيدة الحقيقية رغبة غير قابلة للكبح، كي تُقرأ ثانية، تبثُّ لدينا انطباعا مفاده أنَّ القراءة الثانية،ستقول بصددها أكثر من نظيرتها الأولى،وتعتبر أيضا– مع اختلاف كبير عن قراءة عقلانية –أكثر تؤَدَة من الأولى،لأنها متأمِلة.لن نتوقَّف أبدا في إطارها عن الحلم بالقصيدة،ولا قطعا التوقُّف عن التفكير فيها.أحيانا يأتي مقطع شعري كبير، يغمره حزن أو فكر ما، يهمسه القارئ – القارئ المنعزل- : لن يكون هذا اليوم كما البارحة.
حينما نكتب،نتأمَّل،يبرز إلى السطح تعدد أصوات،باعتباره صدى خلاصة.امتلكت باستمرار،القصيدة الحقيقية،طبقات متعدِّدة.
لايتيح الإصغاء قط إمكانية الحلم بالصور في العمق.هكذا،اعتقد باشلار دائما بأنَّ قارئا متواضعا يتذوَّق على نحو أفضل القصائد بإعادة كتابتها بدل إنشادها.تتجاوز القصيدة المكتوبة كل إنشاد.
القصيدة موضوع زماني جميل يخلق مقياسه الخاص.كمْ يتجلى بؤس الوقت الجاري، لقاء الأزمنة التي تبدعها القصائد!
لاتعبِّر القصيدة،عن شيء يظلُّ بالنسبة إليها غريبا،حتى الجانب التعليمي الشعري الخالص، الذي يوضح القصيدة، يعجز عن تقديم وظيفة الشعر الحقيقية.
حينما تدرك القصيدة كيفية تجميعها في إطار حقيقتها الهوائية،تغدو أحيانا مهدِّئا رائعا.أيضا،يعرف المقطع الشعري اللاذع والبطولي سبيل الحفاظ على ذخيرة من النَّفَس. ترتهن كل قصيدة –القصيدة التي ننشدها،أو المقروءة صمتا- إلى هذا الاقتصاد الأولي للأنفاس.
يوجد شعراء صامتون، يلازمون الصمت، يتطلعون أولا صوب إعادة السكينة إلى عالم صاخب جدا.يسمعون كذلك،ما يكتبونه،لحظة كتابته،من خلال المقياس البطيء للغة مكتوبة. لايستنسخون القصيدة، بل يبدعونها. يتذوَّق هؤلاء الشعراء،إيقاع الصفحة الأدبية حيث يتكلم الفكر،ويفكر الكلام .
وفق صيغتها البسيطة،الطبيعية،الأولية،بعيدا عن كل طموح جمالي وكل ميتافيزيقا، فالقصيدة بهجة النَّفَسِ،بداهة انشراح أن تتنفَّس.تسحق آلاف الصور المتكلِّمة القصيدة الكلاسيكية،وكذا البلاغة، مثلما ندرسها.
تولد القصيدة في خضم صمت وعزلة الكائن،منفصلة عن السمع والنظر،بالتالي اعتبرها باشلار ظاهرة أولى لإرادة الإنسان الجمالية،القصيدة حلم أولي،وإيقاظ لصور أولية.
العودة إلى مبدأ الصمت، بتوحيد الصمت المتأمِّل واليقظ ثم نحيا من جديد إرادة التكلم في إطار حالته الناشئة،ترنيمته الأولى،افتراضية تماما،وبيضاء.سيظهر العقل والإنشاد الصامتين،مثل عنصريين أوليين للصيرورة الإنسانية.
لنحاول اختزال كل وجودنا صمتا،كي نشعر بذلك جيدا،بحيث لانصغي سوى لِنَفَسِنا، ونصبح هوائيين مثل نَفَسِنا،لانحدث ضجيجا سوى نَفَسا، نَفَسا خفيفا،نتخيَّل فقط الكلمات التي تتشكَّل على ضوء نَفَسِنا.حينما نعيد الخيال المتكلِّم إلى حرية التنفُّسِ، سيقترح على أية حال صورا شفوية جديدة.
يحتاج الإنسان،قبل كل فعل،الحديث إلى نفسه، من خلال صمت كائنه،حول مايريده لصيرورته؛يثبت وينشد تلك الصيرورة.هنا تكمن الوظيفة الإرادية للقصيدة.يلزمها أن توضع في إطار علاقة مع مثابرة وشجاعة الكائن الصامت.
تظهر لنا الصورة الأدبية،عبر الاشتغال الداخلي لقيمها الشعرية،أنَّ تشكّل ثنائية لفظية،يعدّ نشاطا لسانيا طبيعيا وخصبا،حتى مع انعدام حضور لغة عليمة قصد الإمساك بالمعنى الجديد،ستتمكن حساسية لسانية كي تبيِّن بامتياز حقيقة ازدواجيات المعنى.
يبتهج الخيال بالصورة الأدبية.ليس الأدب بديلا عن أيِّ نشاط ثان.بل،يتمِّم رغبة إنسانية ويعكس انبثاقا للخيال.
تكفي أحيانا صورة أدبية،كي تنقلنا من عالم صوب آخر،فتتبدَّى الصورة الأدبية باعتبارها الوظيفة الأكثر تجدُّدا للغة. لغة،تتطور بصورها،أكثر من مجهودها الدلالي.
تهتدي بنا صور أدبية، نحو تأملات لانهائية، صامتة.فندرك لحظتها، امتزاجا عميقا للصمت مع الصورة ذاتها.
تعكس صورة أدبية،معنى حالة ناشئة؛ تأتي الكلمة – الكلمة القديمة- كي تنعم بدلالة جديدة.يلزم الصورة الأدبية الاغتناء بحُلُمية جديدة .الدلالة على شيء آخر،ثم التحريض على الحلم بكيفية مختلفة، تلك بمثابة المهمَّة المزدوجة للصورة الأدبية.
أخيرا،تنبغي الإشارة إلى أعلام المتون التي اعتمدها باشلار،كي يبرز أحلام ورؤى صور الهواء على امتداد صفحات هذا الكتاب:
نوفاليس، بيرسي شيلي، إدغار بو، رامبو، بلزاك، ويليام بليك،ماريا ريلكه، نيتشه، جاك لندن، جون ميلتون، توماس دي كوينسي، ألفونس توسنيل، جين فيليت، ويليام بليك، بلزاك، جون لوسكور، جول ميشليه، غابريل دانونزيو، جورج ساند، شارل نوديي، جول ميشليه، روبير ديسويل، ستيفان مالارميه،صامويل كولريدج، بول إيلوار، شوبنهاور، بول كلوديل، غابريل دانونزيو، هوغو فون هوفمانستال، هولدرلين، جورج موريس دو غيران، جولز سوبيرفيل، بول فاليري، أنجيلو دي غوبيرناتيس، بودلير، غوته، نيكولاس ليناو، إدغار كينيت، باتريك لافكاديو هيرن، غوستاف كاهن، جولز لافورغ، أندريه أرنيفيلد، فلاديسلاس ميلوز، فرانسيس جيمس، جون بول ريشتير، فرانسوا دو شاتوبريان، أوغست ستريندبرغ، خواكيم غاسكيه، بول غادين، تيودور جوفروي، غوبلي دالفيلا،أر. بي. أندرسون، بونيفاس سانتين ، لافونتين، بول غادين، ألبير إيتيان لاكوبيري، جوزيف كونراد، يعقوب بوهم، ديكارت، إليمير بورجي، فيكتور هيغو، مارسيل غريول، جولز لافورغ، إلي ديكاهور،سان بول روكس، أندري بروتون، سان بول روكس، مينيشي، جاك كولين دي بلانسي، فريديريك ويليام شوارتز، غرهارت هاوبتمان،روني فيفيان، إميل فيرهارن، فرانسيس جريفين، بيير فيلي، بول كلوديل.
هامش :
(1)Gaston Bachelrd :L’ air et les songes.essai sur l’ imagination du mouvement.josé corti .1943.
غاستون باشلار :الهواء وأحلام الرؤى،دراسة خيال الحركة،ترجمة وتقديم سعيد بوخليط . دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع.2023
(2) نفسه : ص 12
(3) نفسه : ص 14
(4)نفسه : ص 15
(5) نفسه : ص 148- 149
(6) نفسه : ص 17
(7) نفسه : ص 124
(8) نفسه : ص 180-181
(9)نفسه : ص 181- 182
(10) نفسه : ص 182
(11) نفسه : ص 183
(12) نفسه : ص 185
(13) نفسه : ص 199
(14) نفسه : ص 196
(15) نفسه : ص203
(16) نفسه : ص 205
(17) نفسه : ص 206
(18) نفسه : ص 207
(19) نفسه : ص 210
(20) نفسه : ص 223
(21) نفسه : ص 249
(22) نفسه : ص 250