المغرب من دولة السلطان إلى سلطان الدولة على ضوء سؤال المواطنة /الرعية
المؤسسة الملكية هي القلب النابض للنظام السياسي المغربي،فحسب ريمي لوفو:” في قلب النظام السياسي المغربي يوجد رجل واحد، هو الملك وارث لطريقة في الحكم قوامها سلالات مغربية متعاقبة على امتداد القرون”. كما أنها لا تعدو أن تكون الفاعل المهيمن على الحقل السياسي فحسب، بل هي كذلك المزود الرئيسي للنظام السياسي المغربي، بالأشكال والمراسيم التي تحدد البنيات الكمية للنظام، وإضافة إلى استمداد مرجعيتها الشرعية من نظام الخلافة، تستمد إلهامها من نظام تقليدي متميز،ضبطت أشكاله وأساليبه خلال القرن التاسع عشر وما تزال تسري فعالية تقنياته حتى يومنا. وزيادة على ذلك فالملكية تقوم على البيعة،حيث تم رد الاعتبار إلى البيعة والرقي بها إلى مرتبة يصبح وفقها العقد الشرعي إحدى الدعامات التأسيسية للنظام، وكان في نية الملك الحسن الثاني،قطع الطريق أمام أية محاولة تهدف إلى جعل تمثيله لإرادة الشعبية مسألة تعاقدية مشروطة، وكذا الحد من تدخل القانون الوضعي والأجهزة التي يصدر عنها في العلاقة بين أمير المؤمنين ورعيته،ومن خلال نص بيعة 1979 أكد النظام على فكرة أساسية يعتمدها في خطابه السياسي تفيد صراحة بأن السلطة الملكية وجدت قبل وجود الدولة ، أي أن الملكية هي التي صنعت الدولة وأن وبالتالي فهي تسمو فوق القانون .
آراء أخرى
أصبح كثيرون يتحدثون اليوم عن الدولة الحديثة، كمعطى جاهز، كواقعة سياسية اكتملت معالمها أو تكاد في الغرب المعاصر، لكن غالبا يغفل أو يتغافل الطامحون إلى تأسيسها عن أنها تطلبت قرونا من الحركية التاريخية، المتعددة الأبعاد، اقتصاديا (تجارة وصناعة) واجتماعيا (ظهور الطبقة الوسطى) وعمرانيا (ظهور المدن)، وثقافيا ( الإصلاح الديني، عصر الأنوار، النزعات العقلانية والتجريبية…)، ثم سياسيا ( الشعور القومي وظهور الدولة_الأمة…)، بل يربط البعض أيضا بشكل تلقائي والي بين الدولة “الحديثة” والمبادئ ” الديمقراطية”، من حق الاقتراع وحقوق الأقليات والحريات المدنية، بيد أن وقائع التاريخ تبين أن نعت ” الديمقراطية” هو شي لاحق، غير سابق ولا متزامن مع تأسيس الدولة الحديثة، بعبارة أخرى يردف عز الدين العلام :” كان على أوروبا قبل أن تفكر في دمقرطة دولتها أن تؤسس أولا هذه الدولة، وقبل أن تفكر في فصل السلط أن تعمل على خلق هذه السلط، وهي كلها وقائع تطلبت صراعات طبقية، وثورات اجتماعية، ومذابح وماسي”.
على العكس من ذلك، ففي العالم العربي تم خلق مؤسسات”الديمقراطية”،قبل نشر الفكر الديمقراطي، وذلك راجع للعديد من الأسباب، لعل من أبرزها:
غياب طبقة أو نخبة مثقفة ديمقراطيا لتكون القاطرة التي تقود عملية التحول الديمقراطي، فالطبقة المثقفة العربية كان جزء منها يدور في فلك السلطة والسلطان، والمستبعدون من نعيم السلطة أو المبعدين أنفسهم عنها كانت ثقافتهم غير ديمقراطية.
بنية النظام العربي حيث من المتعارف عليه أن المجتمع العربي، مجتمع أبوي ونقصد بذلك أن المجتمع العربي ما هو إلا صورة مكبرة عن الأسرة الأبوية التي عرفتها المجتمعات القديمة حيث كان الأب هو صاحب الأمر والنهي وله حق الحياة والموت على أفراد أسرته، ويعبر هشام شرابي عن ذهنية النظام الأبوي بالقول:” تتمثل الذهنية الأبوية أول ما تتمثل في نزعتها السلطوية الشاملة التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا أسلوبا لفرض سيطرتها. إنها ذهنية امتلاك الحقيقة الواحدة التي لا تعرف الشك ولا تقر بإمكانية إعادة النظر…لهذا فإن الذهنية الأبوية_المستحدثة، علمانية كانت أم دينية، لا تستطيع تغيير موقفها لأنها لا تريد إلا حقيقتها، ولا تريد إلا فرضها على الآخرين، بالعنف وبالجبر إن لزم الأمر”.
ثقافة الديمقراطية، لم تتغلب بعد على ثقافة الخضوع، وأن الولاء للأشخاص والرموز أسهل وأكثر تقبلا عند العربي من الولاء للمؤسسات أو تحمل المسؤولية،وهو ما يعبر عنه إبراهيم لبيب ب”برادغم الطاعة”، كمعبر عن علاقة المجتمعات العربية بالسلطة والسلطان . وهذا السبب له صلة بالسبب التالي
يحول الفكر السياسي السلطاني الربط العضوي بين “الدولة” و”شخص” السلطان دون تبلور فكرة “الشيء العام” مما يؤدي على الدوام، وباستمرار، إلى تغذية الفصم الأزلي، بين ” الفرد” و”الدولة” داخل المجتمع السلطاني، وإلى إذكاء التعارض أو التخارج بين ” الحرية” و”الدولة” داخل هذه المجتمعات.
إذا استحضرنا مفهوم الانتقال الديمقراطي باعتباره تتويج لمسلسل سياسي متصف بانتقال النظام السياسي من الديكتاتورية إلى الديمقراطية بطريقة سلمية وهادئة وباضطراد ينتج وفق شروط واليات تختلف من دولة إلى أخرى، كما أنه يروم إلى توقيف القواعد الأوتوقراطية وتعويضها بأخرى ديمقراطية، فهو يجسد لحظة المرور من نظام سياسي مغلق إلى نظام مفتوح، يؤسس لعملية بناء قواعد سياسية جديدة تعكس طبيعة التسوية التي انتهى إليها أطراف الحقل السياسي المعني بالإنتقال الديمقراطي، وباعتباره تلك السيرورة التاريخية التي تتميز بتحول السلطة السياسية من نمط التدبير السلطوي، بشكل رسمي وتدريجي عبر إحداث تغييرات فعلية على مستوى المؤسسات والقوانين والعلائق بين الحاكمين والمحكومين، وتوسيع فضاءات المشاركة وتجويد إدارة الحكم وضمان الحقوق والحريات. وبعبارة أوجز الدولة حينما تبلغ مستوى اجتماعيا واقتصاديا معينا فإنها تدخل منطقة انتقالية حيث يزداد احتمال تحركها نحو الديمقراطية، خصوصا وأن التحول إلى الديمقراطية عملية معقدة، وتستغرق وقتا من اجل تدعيم أسس الديمقراطية ، باستحضار كل هذه المعطيات فانه لا يمكن لنا إلا الانسياق وراء الرأي القائل بأن المغرب يعرف تحولات ديمقراطية، ويقطع مع تركة الماضي.
في سياق إثبات وجهة النظر هذه، فإن الجابري مستنطقا لابن خلدون وابن رشد ومتسائلا حول نفس المضمون الذي نعالجه هنا، أي إشكالية الانتقال والتحولات في المغرب، و طبيعة نظام الحكم في المغرب، انه نظام مركب، يرى ابن رشد يقرر بلغته واصطلاحه كفيلسوف أن السياسة في المغرب إذا تؤملت توجد مركبة من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب، وابن خلدون يقرر عنها بلغة علم العمران الذي شيده إن” قوانينها مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية”وهو ما يلخصه الجابري في مفهوم المخزن باعتباره مفهوما انتقل من اسم لمكان المحل الذي تخزن فيه أمتعة الدولة من مؤن وغيرها إلى صار إليه زمن عبد المؤمن، مؤسس الدولة الموحدية، على صاحب ذلك المخزن إلى أن صار يطلق على الدولة نفسها، وقد تكرس هذا الاستعمال زمن ابن خلدون على عهد المرينين، حيث لم يعد يجمع الثورة وجابيا للضرائب وفقط ،بل صاحب السلطة القهرية، سلطة المخازني، وهو الشرطي الذي يجمع بين الحال المدنية والحال العسكرية، والذي مازال كثير يستحضر صورته ودوره في القرية المغربية خاصة ومن المعلوم أن المناطق التي لم تكن تجبى منها الضرائب كانت تسمى على الأقل في القرن الماضي وإلى أوائل هذا القرن_بلاد السيبة، وهي وضعية اللادولة حيث السلطة لشيوخ القبائل وهي أشبه بالمدينة الجماعية .
ونجد المغرب مازال يعرف نوعا من حضور مفهوم السيبة، على الأقل على مستوى تطبيق القانون وأداء الضرائب. حاليا يسبب ضعف الولاء للدولة اختلالا في العلاقة بين الدولة والمواطن، الذي قد يعتبر حقوقه على الدولة غنيمة وواجباته، إزاءها اعتداء وسلبا لحقوقه، ولعل أبرز نموذج لذلك يتجلى في طريقة المغربي مع الضريبة، التي لا يعتبرها مسألة أداء واجب مقابل خدمات عمومية، مما يفتح الباب أمام شرعنة كل وسائل الغش والتحايل والتهرب الضريبي، ولذلك ليس من الغريب أن تنطلق بعض الدراسات حول الديمقراطية في العالم العربي، من تحليل تصور”المواطنين” للضريبة كأحد أهم المتغيرات لفهم عوائق التحديث والديمقراطية.
في قراءة الجابري لدولة المغرب المعاصر على ضوء الهرم الخلدوني الحتمي الذي يصيب الدولة، وعلى الدولة “المركبة” من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب كما يقول ابن رشد يخلص إلى:
تعرض دولة المخزن للهرم المحتوم في أوائل هذا القرن مع فرض الحماية الفرنسية على المغرب
حصول تجديد ب” إضافة عمر إلى عمرها” حسب عبارة ابن خلدون، مع محمد الخامس الذي انفصل عن عملاء الإستعمار من المخزن القديم وتحالف مع الحركة الوطنية
تحقيق الاستقلال وتجديد الدولة وساد في تركيبها عنصر ” الفضيلة” بتعبير ابن رشد، لان محمد الخامس صاحب الدولة كان أسوة قومه الوطنيين، “لا ينفرد دونهم بشيء “حسب عبارة ابن خلدون
ثم معرفة الدولة خلال الأربعين سنة التي تولى فيها أمرها الحسن الثاني، نوعا من “التركيب” شبيه بذلك الذي تحدث عنه ابن رشد، فعرفت فترات يطبعها ” التغلب والاستبداد” وأخرى أقرب إلى الكرامة أو ” الحرية” لينتهي بها الأمر إلى الشروع في تغليب الفضيلة على العناصر الأخرى، بإقرار ما عرف ب” التناوب التوافقي” الذي جاء أشبه بذلك الذي بدأ على عهد والده محمد الخامس مجدد الدولة.
أما الإغتناء بالدولة وبواسطتها حسب قانون ” التملق مفيد للجاه” و “الجاه مفيد للمال”، فقد كان ومازال ظاهرة متفشية. وهي التي تقف وراء التفاوت الفاحش بين أقلية من الأغنياء وأكثرية الفقراء
واليوم مع محمد السادس، ينتظر أن يتم الإنتقال إلى التناوب الديمقراطي الحق، وبذلك يتم تجاوز دولة المخزن والانتقال إلى الدولة الديمقراطية
ويضيف الجابري معلقا انه إذا كان التركيب المبني على الإرادة وفق ابن رشد والهرم الخلدوني يهدد المغرب فبإمكان المغرب الخروج من الدورة الخلدونية وإلى الأبد عن طريق صب هذا التركيب في مؤسسات يحكمها التعبير الديمقراطي الحر وهو ما كان غائبا عن أفق ابن رشد وابن خلدون. فالانتخابات كما تجري لم تكن من المفكر فيه لديهما. وكان يأمل الجابري أن يتم الخروج من قاعة الانتظار على حد تعبيره إلى قاعة مرور وجواز نحو ما هو منتظر من إعطاء مزيد من الصلاحيات للحكومة والبرلمان واستقلال للسلطة القضائية باعتبار المغرب مرشحا اكبر من غيره ،ليكون بلد الديمقراطية في العالم الثالث.
واذا كان الانفتاح السياسي حقيقة بدأ مع اواخر حياة الراحل الحسن الثاني ،فانه وفي عهد الملك محمد السادس بدأت ملامح الانتقال تظهر على الواجهة بشكل خافت، فبعد ساعات قليلة بعد الإعلان الرسمي عن وفاة الملك الحسن الثاني، شاهد المغاربة على شاشة التلفزة مباشرة مراسيم مبايعة ولي العهد الأمير سيدي محمد الذي سيصبح بمقتضى عقد البيعة ملك المغرب محمد السادس. و فيما عدا الحفاظ على الطابع التقليدي السلطاني لهذه المراسيم و قواعدها المرعية، لاحظ المتتبّعون للشأن السياسي تواجد عدد من الإشارات تترجم في دلالاتها مستجدات الحياة السياسية المغربية، كما تشير إلى الرغبة في تأكيد ثقافة سياسية جديدة. و تتجلّى هذه الإشارات في نص البيعة الموجز، و إن احتفظ بلغته التقليدية، وتقليص عدد الموقعين، وخاصة تراتبيتهم، حيث كان الوزير الأول، في أول سابقة من نوعها، أوّل الموقعين بعد الأسرة الملكية، و الحضور غير المعهود لامرأتين وزيرتين، و العدد القليل فيما يخصّ تمثيلية العلماء على الرغم من الطابع الديني الملازم لمبدأ البيعة نفسه.
وفي نفس السياق الرامي إلى تثبيت هذه الصورة الجديدة، لوحظ نوع من التخفيف من حدّة البروتوكول، و هو ما تجلى بدءا في الأشكال التي اتخذتها استقبالات ملكية في مناسبات مختلفة لبعض رجال الفكر و الثقافة، أو لبعض أعضاء الجالية المغربية بالخارج. كما كان أمرا محسوسا نهج تواصل سياسي جديد يتوخى القرب والحضور، كما توضّح ذلك أيضا في علنية مراسيم الزواج الملكي، وفي تعدّد الزيارات الميدانية، و ما تخلّلها من لقاءات مباشرة مع مواطنين من مختلف المستويات و الآفاق. ومن علامات هذا التجديد الخطب الملكية التي لمس فيها العديد، مواطنون و باحثون، بداية تحديث سياسي باحترامها موعد البث دونما انتظار، وبنصوصها الموجزة و المقروءة دونما ارتجال ، ناهيك طبعا عن مضامينها التي تمحورت بشكل أساسي حول مفهوم الحداثة،وما يستتبعه من تصورات أخرى لا تقل أهمية، وعلى رأسها مبدأ المواطنة و دور النخبة و نقد السياسوية الضيقة.
لقد اشرنا أن هذا الانفتاح بدأ حتى قبل العهد الجديد، فقد واكب مرحلة الانفتاح السياسي منذ التسعينات دخول عدة مفاهيم جديدة في القاموس السياسي المغربي، كمفاهيم التوافق، التراضي، التناوب،التناوب التوافقي،العدالة الانتقالية…الخ، كما لوحظ الإقبال المكثف توظيف بعض المفاهيم كالحداثة، التحديث، الديمقراطية، المجتمع المدني، المواطنة، حقوق الإنسان…الخ،والمثير للانتباه أن توظيف هذه المفاهيم يتم دون حرص على تدقيق محتواها الدلالي،كما لو أن هذا الأخير في غاية البداهة في حين أنه من المعلوم أن دلالة مفهوم المواطنة مثلا في الفكر السياسي الحديث، تكاد تختلف تماما عن دلالته، في الفكر اليوناني أو القرون الوسطى، بل تختلف حتى عن الدلالة التي استعملها الثوار الفرنسيون في إعلان1789، حيث اكتسى المفهوم في كل محطة من هذه المحطات محتوى دلاليا عكس حالة تطور الفكر وصراع المصالح والمذاهب وتفاعل الأبعاد السياسية، الدينية، الاقتصادية والثقافية في حياة هذه المجتمعات.
الإصلاح الذي شهده المغرب المعاصر،يمكن التحقق منه عبر مجموعة من الإنجازات التي تحققت في طريق التحديث،والتي يمكن قياسها كميا عبر توسيع البنيات التحتية الاقتصادية، والتصنيع، والتبادل التجاري، والمكننة الفلاحية، والتنظيم الترابي،والتجهيزات الجمعية، وأنماط العيش، الخ. كما يمكن مقاربة الأبعاد النوعية لهذه الإنجازات من خلال شيوع العلاقات والقيم البضاعية، وتغيير مدلول الزمن والمجال، وإدخال قواعد ( (norme جديدة، الخ. غير انه ومن الملاحظ أن هذا التحديث عرف تباينات وتفاوتات ما بين المجالات المختلفة للنشاط الاجتماعي والثقافي، فالتحولات الاقتصادية والاجتماعية، لم تواكبها تحولات سياسية وثقافية/فكرية مماثلة .
تقدم الخطب السياسية للملك محمد السادس، إطارا عاما لمختلف مناحي الإصلاح، إنه “الهدف الأسمى” الذي يتعين على المغرب وصوله، و”التوجه الاستراتيجي” للبلاد. هذا الإطار العام هو “المشروع المجتمعي” الذي تدافع عنه المؤسسة الملكية، تارة تحت شعار “المشروع المجتمعي الديمقراطي التنموي”،وتارة أخرى تحت شعار “المشروع الديمقراطي الحداثي”، وفي حالات أخرى يتم الاكتفاء بمفهـوم “المشروع المجتمعي” دون أية إضافة.
وإذا كانت وظيفة المؤسسة الملكية هنا، هي تحديد التوجهات الكبرى لهذا المشروع المجتمعي فإن “على المؤسسات الدستورية، والهيئات السياسية، والقوى الحية في البلاد، أن تقوم بتجسيد هذه التوجهات على أرض الواقع، من خلال برامج مضبوطة في أهدافها، ووسائل تمويلها، وآماد إنجازها وتقييمها” . واذا علمنا أن الخطاب السياسي للمؤسسة الملكية بشكل بنية مورفولوجية قائمة الذات لها قواعدها الشكلية والموضوعية الخاصة،كما أن الخطاب السياسي للعهد الجديد يتضمن عناصر الاستمرارية مثلما يحمل بين طياته عناصر التجديد.
في هذا السياق يمكن القول وباريحية ان “المواطنة” بشكل من الأشكال تظل إحدى نقط الارتكاز القيمية التي طالما أكد عليها المشروع المجتمعي للملك، حيث تواترت الدعوة غير ما مرة لتجاوز النظرة التواكلية والانتظار، بل والسلبية التي قد تطبع سلوك الشعب المغربي، فعند الإعلان عن مبادرة التنمية البشرية في خطاب 18 ماي 2005، نجده يجعل من بين مرتكزات المبادرة “المواطنة الفاعلة والصادقة”. وفي خطاب افتتاح الدورة التشريعية الرابعة للبرلمان في أكتوبر 2005، يلح الملك على ضرورة توعية كل مغربي بأن مصيره يتوقف على مبادراته وإقدامه على العمل الجماعي…”. وفي نفس الخطاب نعثر على قولة لها دلالة، إذ يقول “… تركيزنا على بناء ثقافة المواطنة الإيجابية بكل ما نعنيه من تحول إلى عقلية المواطن الفاعل –المبادر- المشارك- المنتج، بدل السلبية والتواكلية والانتظارية”. وفي خطاب العرش بتاريخ 30 يوليوز 2005 نجد الملك يلح على ترسيخ قيم المواطنة المسؤولة باعتبارها الغاية والوسيلة للنهوض بالأوراش الكبرى… المواطنة الكاملة التي ننشد لكافة المغاربة، بمرجعياتها الدينية والوطنية التاريخية، المتمثلة في الإسلام والملكية والوحدة الترابية والديمقراطية (…) المواطنة الحقيقية ستبقى ناقصة وصورية وهشة وغير مكتملة ما لم يتم توطيدها بمضمون اقتصادي واجتماعي…” .
يمكننا الحديث عن عدد من المحاور الكبرى التي أعلنت عنها الخطب الملكية كما يلي:
– تأكيد الانفتاح السياسي بتفعيل إجراءات طي ملف الاعتقال السياسي أو ما أصبح يعرف بسنوات الرصاص.
– العمل على التقليص من الفوارق الاجتماعية بمحاربة مواطن الفقر والهشاشة.
– تثبيت حقوق المرأة بإقرار مدونة جديدة للأسرة.
– إرساء قواعد دولة الحق و القانون عبر أجرأة المفهوم الجديد للسلطة.
– تبنّي الحداثة السياسية بمحاربة كل أوجه الظلامية الفكرية والسياسية، والتصدي لظاهرة استغلال الدين وذلك عبر إعادة هيكلة الحقل الديني.
– تأكيد التعدد الثقافي الذي يطبع النسيج المجتمعي بإعادة الاعتبار للثقافة الأمازيغية.
– المناداة بتخليق الحياة العامة ومحاربة أوجه الرشوة و الفساد.
لم نعد هنا أمام عناصر حبيسة رموز، قد يرى فيها البعض شكلا بدون مضمون. فمنطوق الخطاب واضح و صريح، و مضمونه يمتحّ أهميته من كونه صادر عن أعلى سلطة في الدولة… و مع ذلك هناك مرّة أخرى من رأى في مجموع هذه العناصر أقوالا ليس من ورائها أفعال، و أنّ المشكل العميق يكمن في تفعيل النقط المذكورة. و بالمقابل، هناك من رأى في كل هذه العناصر مجتمعة صورة جديدة لثقافة سياسية جديدة، إذ وراء كل عنصر فكرة يتأسّس عليها تصور جديد للمجال السياسي، ووراءه أجهزة و مؤسسات ترمي تفعيل هذه الثقافة السياسية الجديدة وجعلها أمرا معيشا .
صعوبة إصدار حكم ما على هذا الموضوع يبررها أن الوثيقة الدستورية أو الإصلاح الدستوري ليس كافيا لوحده ،فالنزعة إلى اختزال كل المعضلات والتحديات والآمال في الوثيقة الدستورية وكأنه المدخل الوحيد للإصلاح السياسي هي نزعة توهيمية، قد تؤدي بالباحث إلى إصدار أحكام غير واقعية، لاسيما وان المغرب يحكمه دستورين احدهما صريح والأخر ضمني، بالإضافة إلى الأعراف والممارسات السياسية والتاريخية التي تؤطر الفعل السياسي والاجتماعي بالمغرب. وللوصول لحكم موضوعي إزاء سؤال ، هل نقول عن مغاربة اليوم أنهم مواطنين ، أم رعايا؟ وهل الرعية في الخطب الملكية للملك محمد السادس تحيل إلى نفس الرعية ذات الحمولة السلبية؟ أم أن مفهوم الرعية في الخطب الملكية للعهد الجديد، تدخل أيضا في إطار ما يدعوه الكثيرون بالاستثناء المغربي؟. وهل هناك اختلافات بين مفهوم الرعية كما حملته الخطب الملكية الحسنية، وبين الخطب الملكية للعهد الجديد؟ هل هناك تضاد وتعارض في المحتوى، أم هناك نوع من القطيعة مع الاستمرارية، أم هناك قطيعة واعية وبإرادة واعية تؤسس للمواطنة؟. نعتقد أن البحث يحتاج للمزيد من التنقيب المعرفي وهو ما ندعو إليه مختلف الباحثين والأكاديميين، ذلك أن التنوير تحرير، وتحرير الدولة من الارعاء يحتاج قبل الإصلاح الدستوري إلى الوقوف على الأسس التي تقوم بتغذية هذا الارعاء ومساءلتها ونقدها، نقدا يروم تجاوز مكامن الضعف والعجز التي يقوم عليها الجسم الاجتماعي والسياسي المراد نقده.
مقال من رسالة بعنوان : اشكالية المواطنة /الرعية في التراث السياسي الاسلامي