هل سيموت حِراكُ أسامَّر الشعبي بأفقر جهة في المغرب؟
لماذا الحِراكُ الحِراك؟
آراء أخرى
رغم المؤهلاتِ الطبيعية والبشرية والتراثية التي تزخر بها مناطق جهة درعة تافيلالت التي يُطلَقُ عليها ‘‘الجنوب الشرقي المغربي’’، أو ‘‘مناطق أَسَامَّر’’، والتي بإمكان حسن استثمارها بشكل عادل أن يجعل الجهة من بين أغنى الجهات في المغرب، إلا أنها تظلُّ أفقر جهات المملكة. وقد تفاقمت الأوضاعُ الاجتماعيةُ والاقتصاديةُ والصحيةُ في الجهة عموماً، وإقليم تنغير خصوصاً منذ الحرَاك الذي كانت تُؤطِّرُه حركات احتجاجيةٌ طلابية تُسمَّى ‘‘تنسيقية أيت غيغوش’’ التي تُعتَبَر امتداداً لفلسفة الحركة الثقافية الأمازيغية براديكاليتها التي تُعرَفُ بها داخل أسوار الجامعةِ. وانفجرتْ الأمور أول الأمر في الكثير من الحراكات الاحتجاجية التي قدمت الكثير من المعتقلين، وكان آخرها مسيرة يوم 27 نونبر 2010. أي قبل ما يسمى بالربيع الديمقراطي الذي قلبَ الكثير من الأنظمة في شمال افريقيا.
لكن الأمور، كما في عموم الوطن، عاد إلى الاستقرار بعد سنة 2011 التي أوصلت حزب الإسلاميين إلى رئاسة أول حكومة بعد الدستور الجديد، فاستبشر الناسُ خيراً، وظلوا ينتظروا نتائج الإصلاح، ومحاربة الفساد، والتوزيع العادل للثروة. لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، بل ازدادت الأمور سوءاً، وانهار الوضعُ الصحي بمناطق أسَامَّر، حيث يضطرُّ المواطنون لقطع مئات الكلمترات نحو مستشفيات لا يبلغونها إلا جثتاً، أو مرضى في درجات متقدمةٍ من المرض. كما ارتفعت نسبُ البطالةُ في صفوف الكفاءات الحاصلة على الشواهد والديبلومات العليا، وعرفت مناطقُ أسامر ركوداً اقتصادياً قاتلاً رغم النسب المرتفعة جداً لما تُسهِمُ به المنطقة في الاقتصاد الوطني.
وقعت الكثير من الأحداث التي احتج عليها المجتمع المدني، وقدم في شأنها شكايات للمسؤولين، لكن الأخيرين لم يتحركوا لذلك ساكناً، بل اكتفوْا بلغة الوعودِ التي ظلت دوماً سراباً. واستمر الوضعُ في التدهور، ومات حسُّ الاحتجاج في نفوس المواطنين بعدما فقدوا الثقة في أيِّ إصلاح أو تغيير، واكتفوْا بكُره الوطن، والبحث عن فرصٍ مغادرة ترابه، بحثاً عن وطنٍ يُقدِّرهم. لكن موت الطفلة ‘‘إيديا فخر الدين’’ بمستشفى بمدينة فاس التي تبعد عن مدينتها تنغير بأزيد من 500 كلمترٍ فجَّرَ غضبَ المواطنين الذين خرجوا في وقفات احتجاجية، ومسيرات تآزر يوم 15 و16 مارس، وظهرت حركة حملت اسم ‘‘لجنة الحراك الشعبي لأيت أُوسامر’’، ودعت إلى حراكٍ شعبي يوم 30 مارس 2017 ، استجاب له الكثير من شباب الجنوب الشرقي، ومواطنون متضامنون من خارجه.
أسامَّر: المعنى والدلالة
إنَّ ‘‘أسَامَّر/Asmmer’’ هو ضدُّ الظِّلُ، أي أنه المكان الحار المكشوف للشمس، وفي بعض كتب التاريخ، نجدُ تمييزاً جغرافياً بين ‘‘أيت عطَّا ن أسامَّر’’ و‘‘أيت عطَّا نُومَالُو’’، حيث إنَّ الأوائل هم قبائل أيت عطا المنتشرون في المناطق الجبلية والصحراوية الممتدة على طول الجنوب الشرقي المغربي، في حين أن الأواخر هو الذين ينتشرون في مناطق الأطلس الذين يسكنون مناطق غابوية تتميَّزُ بالظلِّ.
ويعتقدُ أبناءُ مناطق أسامَّر أن هذه البيئة القاسية كوَّنت أشخاصاً ذوي طِباعٍ حادَّةٍ ومتمرِّدةٍ. ولعلَّ ذلك ما يعكسُ التمرُّدَ في طباعِهم، وعدم الانصياع لأحدٍ، كما في مواقفهم في الكثير من التيارات المدنية والسياسية التي ينتمون إليها.
أسامَّر لم ينضُج بعدُ
‘‘أسامَّرْ’’ لم ينضُج بعدُ بما فيه الكفاية لتُناضِل بناتُه وأبناؤُه إلى جانبِ بعضهم البعض. ما نزال هنا أعداءَ بعضِنا البعض. ما تزال العقليةُ القبَليَّةُ، والعصبيَّةُ العِرقيَّةُ، بوعي أو بلا وعيٍ، هي التي تُوجِّهُ معارِكنا ضدَّ فزَّاعةٍ نُسمِّيها ‘‘المخزن’’، وما هي إلا نحنُ أنفسَنا. نحنُ أشدُّ أعدائنا.
إننا ما نزال أصغرَ من همومنا ومطالبِنا، وأحقرَ منها. نحنُ أحقُّ بالموتِ من الحياةِ، وبالبؤسِ من الرَّغَدِ والرَّفاهيَّة، وبالذَّلِّ من العزَّة، وبالظُّلم من الكرامةِ.
ماذا نريدُ؟
حرية، كرامة، عدالة اجتماعية…
من نحن؟
أبناءُ من ضحَّوْا بحيواتهم من أجل استقلال هذا الوطن. لكننا لم نرث من آبائنا غيرَ كراهيةِ بعضِنا لبعضٍ لأنَّ هذا ‘‘عطَّاويٌّ’’، وذاك ‘‘مرغاديٌّ’’، وأولئك ‘‘تودغاويُّون’’، وهؤلاء ‘‘حرطانيُّون’’، وهذا ‘‘شريفٌ’’…
ألم أقُل لكم إنَّ الريفَ ليسَ هو الجنوب الشرقيُّ؟ ألم أقل لكم إننا دون ما نطلبُ؟
ثم ماذا؟
تبّاً لها من أمراضٍ ورِثَها جيلٌ ظنَّ نفسَه يملك ‘‘الشرعيَّةَ التاريخيَّةَ’’ لقيادةِ غيرِه. جيلٌ يظنُّ نفسَه ‘‘بابا فاتيكان’’ النضالِ، ويجبُ على الصِّغار، كما يراهم، أن يأخذوا بمشورته، وأن يفعلوا ما يُمليه عليهم، لأنه المدرسةُ، وهم التلاميذُ، وهو الشيخُ، وهم المريدون.
إننا لسنا خارقين كما نُصوِّرُ أنفسَنا للآخرِ الذي ينتمي لمناطقَ مختلفةٍ من هذا الوطن، ولا يمكن أن نختلف إلا إن صرنا إنساناً واعياً بما له وما عليه.
أما الآن، فنحن مجرَّدُ فزَّاعةٍ لا تُخيفُ إلا الطيور، وما هي إلا قشٌّ مجموعٌ في قُماشٍ بالٍ.
أتعرفون لما تصلُحُ الفَزَّاعةُ؟
إنها تصلُحُ للتدريب على الرمايةِ، وتُستعمَل للتدرب على ضربات السيف، أو دمىً للحرق، وقد يُلفَتُ بها انتباه الثيران. أما الثورةُ، فلا تقومُ بها الفزَّاعاتُ؛ فالفزَّاعةُ لا تثُورُ.
انتحارات قبل الحِراك
1. تأسيس لجنة تحمل اسم ‘‘لجنة الحراك الشعبي لأيت أُوسامر’’ قبل ميلادِ أيِّ حِراكٍ. في حين أن المنطقَ يقتضي ميلاد اللجانِ من الحراك. وأن يسبِقَ ميلادُ اللجنة وجود حِراكٍ هو وقوعٍ في فخِّ ‘‘القيادةِ’’ وأوهامِها، وما يتبعُ ذلك من تعالي أعضاء اللجنة.
الأشخاص الذين تتكون منهم اللجنةُ يدَّعُون أنهم ليسوا أعضاءً في اللجنةِ، إنما هم فقط بمثابة ‘‘لجنةٍ تحضيريَّة’’. لكنني سمعتُه بأُذنَيَّ في غير ما مرةٍ يقولون لبعضِ الذين دعوْا إلى التحرك في مسيرةِ يوم أمسٍ الأحد 30 أبريل 2017: «أين كنتم منذ شهرٍ؟ نحن كنا نكدُّ ونجدُّ من أجل ميلاد هذا الحراك، وجئتَ اليومَ لتقترحَ غير ما جئنا به». وهو تماماً ما حذَّرتُ منه في موضوع نشرتُه على صفحات التواصل الاجتماعية.
وتجدر الإشارةُ إلى من أعضاء اللجنة من ينتمي لأحزابٍ سياسيةٍ، وما لذلك من أثرٍ في ثقةِ الناسِ في الألوان السياسيةِ في المغرب عموماً، والجنوب الشرقي خصوصاً. ومنهم من فقدَ شرعيَّتَه تماماً لما له من ماضٍ مشبوهٍ في الاستثمار في نضالاتٍ، وحركات احتجاجية كثيرةٍ.
إن من بين أكبر مُعيقاتِ نضالات الجنوب الشرقيِّ عقلياتُنا الموبوءةُ بأمراضٍ كثيرةٍ، منها:
أ. العنصريةُ، فرغم أننا في منتصف سنة 2017، إلا أننا ما نزال نحتكمُ، بوعيٍ أو بدون وعيٍ إلى عقلية سنواتِ ‘‘السيبةِ’’ القبليَّةِ، حيث ما نزال نميِّزُ بينَ ‘‘تودغويٍّ’’، و‘‘عطَّاويٍّ’’، و‘‘مرغاديٍّ’’… وغيرِها؛ فوجودُ وجوهٍ ‘‘تودغاويةٍ’’ في واجهة التأطير الجماهيري يُنفِّرُ الجماهير ‘‘العطّاويَّةَ’’، والعكسُ بالعكسِ. كما أن صعودَ ‘‘برَّانيٍّ’’ لساحةِ التأطير يُنفِّرُ الجماهير ‘‘المحليَّةَ’’ التي ترفُضُ، بوعيٍ أو بدونه، أن يُسيِّرَها من ‘‘ليس منا’’. وهو إشكال عميق، كما أشرتُ إلى ذلك.
ب. الأنانيةُ، فأنا ومن بعدي الطوفانُ، فضلاً عن اعتقاده بأنه مركزُ الكون، وأنه سيدُ المعرفة كلِّها، ومالك الشرعية التاريخية؛ فالأنا متضخِّمةٌ لدى الإنسانِ الأسامري.
ج. رفضُ أي انضباطٍ لأيِّ نظامٍ، أو تنظيمٍ. يُسمُّون ذلك ‘‘تمرداً’’ في الطبعِ. ولكن التمردَ ينبغي أن يكون في وجهِ الظلمِ، وليس على وحدتِنا للمطالبةِ بما نجتمعُ عليه من مصالح عامةٍ.
د. إحساسُنا بأنَّنا متميِّزون عن غيرنا، وبأننا السوبرمان الذي حرَّر آباؤه المغربَ، وتنكَّرَ لنا الوطنُ، في حين أن المشكل في ضعف من يمثلنا سياسياً، وهم أبناء أسامَّر أيضاً، وضعفِ مجتمعنا المدني والإعلاميِّ الذي يهدر الكثير من الطاقة في التراشقِ بيننا. وهو مرضٌ متعلق بالمرض (أ).
هـ. تعصُّبِ بعض الأطرافِ لتوجهات انتحرت في الميدان بسبب خطابها الذي تعتقدُ أنها فوق كلِّ انتقادٍ، وتظنّه المدرسة التي يجب أن يستلهم منها الجميع أسس النضال.
و. عدمُ الإيمان بالاختلافِ. وفي حالة التظاهر بالإيمان به، نفشلُ في تدبيره؛ فالجنوبُ الشرقيُّ أمازيغيُّ الهويَّةِ، لكنه يضمُّ ألواناً متعددةٍ من الأفكار والقناعات؛ فنجدُ المؤمن بالقضية الأمازيغية المدافع عنها، ونجدُ الإسلاميَّ المتشبعَ على مدى قرون بالثقافة المشرقية، ونجدُ اليساريَّ المتشبِّع بفكر اليسارِ، ونجد بينهم جميعاً من لا انتماءَ له، ولا توجَّه محدَّد له. وينبغي أخذُ كل هذه المعطيات بعينِ الاعتبار.
وما وقع في الوقفة الاحتجاجية يوم الأحد 30 مارس الماضي، حتى لا أسمِّيَها ‘‘حِراكاً شعبيّاً’’ حتى لا أكون متحاملاً على التسمياتِ، عكسَ عدم قدرةِ القائمين على الشكل الاحتجاجيِّ الذين انتقدتهم في العنصر -1- الذين ‘‘دعوْا إلى الحراك كما سمَّوْهُ’’ على تدبير الاختلافِ، سواءٌ من حيثُ الشعاراتُ التي رُفِعَت، أم الكلماتُ التي أُلقِيَتْ، أو التوجُّه العامُ للاحتجاج.
و. مواقفُ الأشخاصِ من الأشخاص، وهو الذي سبَّب ظهور اقتراحِ ‘‘المسيرة’’ بدل ‘‘الوقفةِ’’، مما أربكَ الشكلَ الاحتجاجيَّ، وسبَّب انقساماً يرى فيه الكثير من المتتبعين بعداً سياسياً صادراً من مواقفِ ما يمكن تسميَّتُه ‘‘مدرسةٌ’’ ضد ‘‘مدرسةٍ’’ ناتجٍ في الأصل من مواقف أشخاصٍ من أشخاصٍ بينهم صراعاتٌ خاصةٌ، وحسابات شخصيةٌ يعلمُ المتتبعون مصدَرَها، وأتجنَّبُ هنا التفصيلَ فيها لأنها مُنتِنةٌ. ولن تقوم لنا قائمةٌ حتى نترفَّعَ عن إدخال حسابات الشخصية الضيقة في نضالات من اجل ما يجمعنا.
2. حلَّ ضيوفٌ من مناطقَ مختلفة من المغرب؛ من الأطلس، ومن سوس، ومن الريف لمؤازرة الاحتجاج الأسامريِّ ودعمِه. لكن بعضَهم حلَّ بطيشِه، وعدم فهمه لخصوصية أسامر، فخلقَ ما سيُسبِّبُ تشتيتاً لشمل أبناء الجنوب الشرقي الذي نروم تكتلهم ووحدَتهم، ومنه بعضُ الشعارات التي رفعوها دون أن تسعى ‘‘اللجنة المشرِفة على الاحتجاج’’ على منعها، مثال شعار رفضِ العسكرةِ الذي يبدو سخيفاً جداً. فضلا عن رفعهم لراية كردستان، وراية الكناري والقبايل، في الوقت الذي ينتقدُ فيه محاربو التعريب رفع العروبيين لراية فلسطين. وكان بالإمكان رفضُ رفع هذه الرايات التي لا تمتُّ لنا بصلةٍ، من باب تدبير الاختلاف، والتركيز على المصلحة العامة، وتركُ القناعات الخاصة لمعاركها الخاصة.
هل للحراكِ ما بعدُ؟
إن الجواب يتعلقُ بقدرة كلَّ الفاعلين المدنيين والسياسيين بكل ألوانهم الفكرية والسياسية، وقناعاتهم الاديولوجية على التكتلِ من أجل ما يجمع الجميع، وتأطير الناس من أجل تحقيق المصلحة العامة، ودرءِ الصراعات إلى حينٍ، وقدرتهم على معالجة الأمراضِ التي ذكرتُ أهمَها، حسب ما بدا لي. وما دون ذلك، فسيظلُّ أسامَّر ينزفُ، وستموت إيديَاتٌ أخرياتٌ، وستقتل البطالةُ كفاءات الجنوب الشرقيِّ، وستستمرُّ لوبياتُ الفساد في امتصاصِ دماءِ خيرات مناطق أسامَّر، وتهريب ثرواته.